كيف تقوم بـ:
إن الكتابة مسعىً عصيبٌ وآسِرٌ في آنٍ معاً، فهي تستحوذ على جزءٍ غير يسير من نفوسنا، لنتعذّب في سبيلها تارة، وننشُد فيها العتق والسُّلوان تارةً أخرى. لكن ماذا عمّن يقرؤون ما نكتبه؟ إن الكتابة تجربةٌ ذاتيةٌ بامتياز، لكنها تَصِلُنا بعدد لا حصر له من الآخرين، وهذا الوَصل هو تحديداً ما تدور تجربة الكتابة حوله. وبالفعل، من وجهة نظرنا كقرّاء، كثيراً ما يزعجنا عدم مراعاة الكاتب لنا، فقد يكون النص طويلاً للغاية، أو مبهماً، أو يفتقر المصادر، أو جافاً للغاية، أو يعوزه الترابط، أو ناضحاً بالنرجسية، وهلمّ جرا. فما الذي يجعل النص جديراً بالقراءة؟ ثق تماماً أن الأمر متعلّق بنيّة المؤلف أكثر من تعلّقه بموهبته.
إليك بضعة أسئلة وجيهة لا بدّ من أن نطرحها على أنفسنا قبل الشروع في الكتابة:
تعتمد "تجربة القراءة" على قدرة القارئ على إسقاط تجربته على النصوص
والواقع أن «تجربة القراءة» المفيدة تعتمد على قدرة القارئ على إسقاط تجربته على النصوص، والارتباط بها عاطفياً واستدعاء مخيّلته وقدرته على التعاطف معها، وبالتالي بتحوّله إلى جزء ممّا يقرأ. هذا الالتحام هو ما ينفث الروح في النص، ولذا ينبغي على "أنا" الكاتب أن تتسع لـ"أنا" القارئ. لك أن تكتب بصيغة المتكلم وأن تسرد قصصاً عن نفسك، شرط أن تفسح المجال أمام قارئك ليدلي بدلوه، ويتفاعل عاطفياً، ويشارك في عملية السرد.
إن هذا أمرٌ مهم لأننا نعيش في عالم من النصوص لا تكفّ فيه «أنوات» الآخرين عن استباحتنا، وهو أكثر ينطبق على مواقع التواصل الاجتماعي، وإن كان لا يقتصر عليها. كما أن الكثافة المهولة لعالم النصوص الذي نعيش فيه تقتضي بحثاً مسهباً عن المحتوى المناسب، وهو ما يبحث الناس عنه لأسباب عدة: لبعث المشاعر الموجودة وتقويتها وتثبيتها؛ أو لأسباب ترفيهية صرفة؛ أو لمتابعة آخر المستجدات والبقاء في قلب الحدث؛ أو لتثقيف الذات بمنشورات تفيد في "فهم" العالم فهماً أفضل.
يجب على القارئ أن يغوص في المشهد
نحن لا نكتب لقارئ محدد عادةً، بل نضع في أذهاننا ضروباً شتّى من القراء – بدءاً بالزملاء الذين يدقّقون ويحرّرون وربما يطوّرون كتابتنا، مروراً بالأقارب والأصدقاء ممن قد يكثرون الأسئلة، والعاملين في المجال نفسه الذين يسائلوننا، إلى القرّاء من عالم السياسات، و طلّاب العلاقات الدولية، وهلم جرّا، وهو ما يعيدنا إلى نواة "العالمية" التي لا بد منها لأي نصّ رصين يهدف إلى إيجاد القرّاء وشدهم إليه. كما ينبغي على النص أن يكون عميقاً بما يكفي ليتعلم منه الخبراء؛ وواضحاً بما يكفي ليتمكن من قراءته المبتدئون؛ ودقيقاً وإنسانياً بما يكفي ليتبنّاه المعنيّون به وألا يرفضوه. يشكل هذا أساس أيّ نص جيد على كل حال – ومن هنا فإن التوجّه إلى فئات متعددة ينبه الكاتب إلى ضرورة تحقيق التوازن الصحيح، أكثر مما يقيد عملية الكتابة.
5 أيلول/سبتمبر 2016