مهارات البحث


تقديم نفسك في مستهلّ العمل الميداني


    كيف تقوم بـ:

  • بناء أرضية للثقة خلال مقابلاتك
  • ضمان علاقات طويلة الأمد وصادقة فكرياً خلال العمل الميداني

قد يكون التواصل مع أناسٍ تجهلهم صعباً في الظروف العادية، وقد يصبح شاقاً ما إن نهمّ بالدخول في مجالٍ بحثيٍ جديدٍ كلياً، وذلك أن البحث لكي يكون شيقاً، لا بد أن نجريه خارج دوائر أماننا الاجتماعي.

لكن في واقع الأمر، المسألة برمتها هي مسألة إيجاد نقطة البداية الصحيحة. ومثلما تتدفق محادثةٌ ما تدفقاً طبيعياً من المقدمة الصحيحة، سيطوّر العمل الميداني ديناميته الخاصة به بسرعة، كما أن إيجاد نقاط بدايةٍ للعلاقات التي سيتوجب عليك بناءها ليس بالأمر الصعب كما يبدو من الوهلة الأولى.

وبطبيعة الحال، كل جولةٍ من العمل الميداني فريدةٌ من نوعها، ما يستوجب مناقشة الاعتبارات العملية للشروع بالعمل مع ذوي الخبرة، ومناقشة كلّ حالةٍ على حدة. لكن تبقى هناك مبادئ عامةٌ ينبغي أخذها بالاعتبار.

القاعدة الذهبية هي ألا تكذب أبداً، وإياك أن تتظاهر بما ليس فيك. قد يساعدك التظاهر في المراحل المبكرة من العمل، لكنك سرعان ما سينكشف أمرك ويُذاع خبرك؛ واعلم أن العمل الميداني الجيد يقوم في نهاية المطاف على العلاقات المبنيّة على الثقة، ولا شيء يضرُّ بهذه العلاقات أكثر من الكذب فيما يخص هويتك، وعندما يُكشف كذبك، ستُثار التساؤلات حول كلما يخصّك، من قبيل هويتك الحقيقية، وطبيعة نواياك، ونزاهة مؤسستك، وإخلاصك في الصداقة، وهلّم جرّاً.

غير أنك حين تقدم نفسك لشخص من خارج دوائرك المألوفة، فالأرجح أن البوح بالمعلومات الرسمية عن شخصيتك، كمهنتك أو غرضك، لن يكون فيه أي منطق. إن البحث في حد ذاته مسألةٌ ضبابيةٌ، إن لم تكن مشبوهةٌ، في أذهان معظم الناس، إذ سيتساءلون: لم هذا الشخص مهتمٌ بنا؟ ما الأجندة التي يخفيها؟ ما الفائدة التي ترجى من مناقشة مسائل شخصيةً مع شخصٍ غريب؟ وقد يساعد ذِكر اسم المركز البحثي على الأقل في بعث التطمينات بوجود مؤسسةٍ حقيقيةٍ وراء عملك الميداني، لكن ذلك بحد ذاته لن يبدد أياً من تلك التساؤلات، كما أن الألقاب من قبيل ”باحث“ أو ”زميل“ أو ”محلل“ لن تفيدك في تبديد الضباب الذي يحيط بك، بل ستكثفه، مثلها مثل المصطلحات التي قد تستخدمها لشرح الموضوع لمستمعين مطّلعين. إن المفاهيم الأكاديمية، والكلمات والعبارات الرنانة التي تستخدمها المنظمات غير الحكومية، واختصارات الأسماء المؤلفة من أوائل الحروف، كلها قد تثير إعجاب الناس بما تبطنه من معانٍ، لكنها قد لا تساهم في ضمان حوارٍ متوازنٍ ومنفتحٍ.

إن التعريف بنفسك يقوم على تأطير التفاعل مع الناس بفعالية. ما الداعي لهذا التفاعل؟ أو وبعبارةٍ أخرى، لماذا نتحدث مع بعضنا البعض؟ يجب أن تشرح من أنت، ولماذا أنت هنا، وما هي اهتماماتك، ولِمَ يمكن تفهم هذا التفاعل وتبريره. وبمجرد أن يكتسب التفاعل بعض المنطق، ستتفتّحُ جميع أنواع الفرص أمامك.

ثمّة مفارقة واضحة هنا: عندما تهمُّ بتقديم نفسك، يجب دائماً أن تكون نقطة البداية محاوُرك، وليس أنت، ويجب أن تجد طريقة لتأطير الأشياء التي تناسب عالمه أو عالمها، لا أن تحاول إقناعهم بفهم عالمك وقبوله. لا تضيع وقتك في محاولة إثبات الأهمية الكبيرة لبحثك في حياتهم (للأسف هو ليس كذلك)؛ أو في شرح كيف أن السعي المقدس نحو المعرفة يُعد مبرراً كافياً (ليس تماماً)؛ أو في محاولة إثبات أنك لست جاسوساً (من سيصدقك؟). قل بكلمات بسيطة وواضحة سبب اهتمامك بموضوع بحثك، على سبيل المثال بسبب الأهمية الجوهرية للموضوع؛ أو بسبب قصة حياتك التي أتت بك إلى هذا المنعطف؛ أو لمجرد أنك تتقاضى أجراً للقيام بهذه الدراسة، وهو دافعٌ لا بد أن كثيرين افترضوا أنه بالفعل في صُلب بحثك

بمجرد أن يكتسب التفاعل بعض المنطق، ستتفتّح جميع أنواع الفرص أمامك

إن من نلتقي بهم عموماً يتفاعلون معنا لأسبابٍ قد نراها خاطئةً، ففي كثير من الأحيان يأمل هؤلاء الحصول على شيء من هذا التفاعل، من قبيل التسلية، أو صلاتٍ أفضل، أو ربما شكلٍ من أشكال التعويض أو حتى وظيفةٍ أو تأشيرة سفر. كما يشعر بعضهم بالرهبة حيال مكانة الباحث ولا يسعهم أن يقولوا كلا، ويقبل كثيرٌ منهم ترتيب لقاء لا لشيء سوى أنك قدمت نفسك بالطريقة الصحيحة، أو لأن عمل بعضهم يتضمن الإجابة عن الأسئلة بالأساس، كالسياسيين أو المتحدثين أو الخبراء؛ وأحياناً يبيعونك سرديةً لهم مصلحة فيها، ويتوقعون منك أن تصدقها وتزخرفها، لا أن تفككها.

 ولذا فإن كثيراً من العلاقات تنطلق من سوء الفهم، لكن هذا لا يهم، بل على العكس، إذ يسهّل الغموضُ التفاعلاتِ بين الناس ويسمح لمختلف الأطراف بإلباسها لبوساً شخصياً وذا معنى. قد يقول باحث: ”لقد حصلتُ على وظيفة في منظمةٍ صغيرةٍ تحاول فهم المشاكل من منظورٍ محليٍ، وإقناع المانحين بإنفاق أموالهم بحكمةٍ أكبر“. من الوارد جداً أن يفسّر هذا التصريح على النحو الآتي: ”أها، لا بد أن ذلك عمل هيّنٌ مع الأجانب، لكن حسناً، لا بأس“. قد يعملُ هذا التصور الأولي كنقطة انطلاقٍ لتوفير مبرر لعلاقتكما؛ ومن هناك يمكنك بناء الثقة، وإثبات الفائدة من عملك، وإظهار معرفتك، وتأكيد مصداقيتك، وما إلى ذلك..

أثناء أو بعد التعريف بنفسك، قد يكون محاوروك حريصين فعلاً على مقاطعتك. دعهم يفعلون ذلك، لأنهم بذلك سيعطونك تلميحاتٍ حول اتجاه العلاقة، وحول التصورات الأولية التي تتبلور داخلهم. قد يظهرون فضولاً، أو لامبالاةً، أو تشككاً، أو حتى عدائيةً صريحة، وكل ذلك لن ينفع في سوى إرشادك إلى المكان الذي قد يكمن فيه التحدي المتمثل في تواصلكما. كن مستعداً أيضاً، إذا يجب أن تكون جاهزاً للرد على جميع الاستفسارات الأساسية المتوقعة، ولذا يعود إليك أن تتوقع و ”تتمرّن“ على الخطوط الأكثر وضوحاً في بداية المحادثة.

 وبمجرد تخطي الحوار الاستهلالي، يمكنك التحدث عمّا تبحث فيه بشكل أكثر تحديداً. مرةً أخرى، واصل البحث عن زاويةٍ تجعل الأمور مفهومةً ومقبولةً لمن تحاورهم؛ فعلى سبيل المثال، إذا كنت تبحث في سلوك الجماعات المسلحة، لا تستخدم مفاهيم من قبيل ”التطرف“ لأن من شأنها أن تعكس تحيزك، وقد يكون الأجدى الحديث عن الشباب المهمشين، الأمر الذي يلامس جميع الناس تقريباً. في بعض الأحيان من الأسهل استخدام زاويةٍ واسعةٍ جداً، والبدء من البيئة الاقتصادية أو التوجهات السياسية السائدة، وصولاً إلى تجلياتها الملموسة للغاية في هذا الحي أو ذاك.

وتذكر أن بإمكانك بدء المحادثة بعدة طرائق. وحتى لو تبين أن المدخل الأولي الذي بدأت به وصل إلى طريق مسدود، ستحصل على فرصةٍ ثانيةٍ وثالثةٍ. لا تكرر الحجة نفسها حين تشعر أنها لن تصل بك إلى أية نتيجة؛ وجرب زاويةً مختلفةً تماماً، ثم زاويةً أخرى، إلى أن تصل إلى النتيجة التي تبحث عنها (أو إلى نتيجة لم تكن تدري أنك تبحث عنها). ستشعر أن المحادثة تسير على ما يرام حين يروق شيء ما لمحاورك، وهذا هو ما يتوجب عليك البحث عنه، لأن هذا الاتصال المباشر سيعني أن كليكما في حالة تفاعلٍ صريحٍ مع الآخر؛ ويمكن للشخص نفسه أن يتصرف في نفس الموضوع بشكل مختلف بحسب المقاربة التي تنتهجها

وبينما تشق طريقك إلى المحادثة، لا تتسرع نحو ما تراه مهماً، فالأهم من ذلك هو البحث عن سبلٍ لتمتين العلاقة مع من تحاورهم. وقد يحيد بك المحاور عن موضوعك الرئيس، وفي تلك الحالة دع الحديث يسير فحسب، إذ أن جلُّ ما هو مثيرٌ للاهتمام في أي لقاء هو ما ليس متوقعاً بطبيعته، ولذا لا تقاوم حين يحاول الناس اصطحابك بشكلٍ عفويٍ إلى منطقةٍ يرون أنها مهمة.

 وفي الحقيقة من المهم تأييد الناس فيما يذهبون إليه، وذلك لتشجيعهم على المتابعة، إلى أن يصلوا نقطةً إما يكررون فيها ما وجدت أنه وثيق الصلة بما تبحث فيه، أو يعلقون عليه للإشارة إلى أنك تأخذ تلك الفكرة على محمل الجد. ومن المهارات بالغة الأهمية التي ينبغي اكتسابها هي مشاركة التحليل السليم بناءً على ما سمعته تواً، فمن شأن ذلك أن يضيء على تبصر محاورك وعلى قدرتك على الاستماع والفهم والتعاطف وإظهار قيمتك المضافة.

العمل الميداني ليس عملاً بقدر ما هو أسلوب حياة. 

من الضروري للغاية تتبع محاورك حيثما يرغب في الذهاب بالحديث، لكن لا ينبغي أن تسمح لهم بالدوران بك في دوائر. وانطلاقاً من الاحترام الشديد لوقتكما، على المحادثة أن تكون حيةً وغنيةً بالمعلومات وذات معنى ومتناغمة، وكل ذلك يقع على عاتقك بطبيعة الحال. ولذا عليك أيضاً أن تكون نشطاً، وأن توجه المحادثة بشكلي ضمني أو صريح ما إن تشعر أنها تسير على غير هدى.

وحاول دائماً أن تخطط استباقياً لمسار المحادثة في رأسك، واسأل نفسك: هل تسير الأمور في الاتجاه الصحيح؟ هل كنت هنا من قبل؟ أين علي أن أتجه في حال علقنا في هذه النقطة؟ ما هو الاتجاه الطبيعي لدفع المحادثة قدماً؟ من الناحية العملية، يعني ذلك أن تجهّز نفسك بالأسئلة والتعليقات الاستراتيجية.

أخيراً، عندما تسير الأمور بالشكل الأمثل، استمتع! ستجدُ متعةً في الالتقاء بأناس مختلفين، وسماع المزيد عن حياتهم، ورؤية الأشياء من وجهة نظرهم؛ وما إن يصبح التفاعل طبيعياً وممتعاً لك، فعلى الأرجح هو كذلك للشخص الجالس أمامك.

بهذا المعنى، عليك أن تبدأ النظر لـ ”العمل الميداني“ كجزء لا يتجزأ من بقية حياتك. على سبيل المثال، لقاء أحد المانحين الذين يدعمون عملك الميداني هو عمل ميداني أيضاً. قد يكون الغرض من التفاعل، في ظاهر الأمر، توقيع العقد والتعارف، لكن هناك ما هو أكثر من ذلك، أي فهْمُ وجهة نظرهم، وتأكيد مصداقيتك، وبناء الأساس لعلاقةٍ ترغب بتطويرها وإثرائها، وحتى تحليل الدينامية بين مقدم المنحة ومتلقيها. إن العمل الميداني ليس عملاً بقدر ما هو أسلوب حياة. 

11 تموز/يوليو 2016


تم استخدام الصور من:
بترخيص من:

طرح الأسئلة

مهارات البحث


ما هو التحليل

مهارات التحليل


كيف تعرض نفسك

مهارات التواصل