مهارات التحليل


 ما هو التحليل؟


    في هذا المقال:

  • كيف ننتج تحليلاً أقوى من خلال فهم مكوناته
  • كيف نبسّط العملية باتباع منهجيةٍ من خمس خطواتٍ

إن التحليل مفهومٌ غامضٌ بالرغم من أهميته الكبيرة في حياتنا، فثمّة كثيرٌ من الأشياء العادية التي لا يمكننا تأديتها دون تحليل. قد نعرّض أنفسنا للخطر إذا قدنا السيارة أو عبرنا الشارع دون تحليل ذلك التشابك من الأجسام المتحركة من حولنا، والإشارات المرورية، وظروف الطقس التي تحدد تحركاتنا. ويكاد هذا المفهوم يسود جميع المجالات: فالكيمياء والرياضيات والنحو والمالية والصحافة وعلم النفس كلها تعتمد على التحليل. يجعل هذا التنوعُ من الصعب الإجابة عمّا يلي: هل ثمّة أي قاسمٍ مشتركٍ بين تحليل الدم والأطروحة في العلوم السياسية؟ سيستغرق الأمر بضعة خطواتٍ تحليليةٍ لإثبات ذلك. 

من المفيد أن نعي أن التحليل يجري على خمس مراحلٍ. أولاً ، يجب تقسيم الموضوع إلى الأجزاء التي يتكون منها، إذ يمكن تقسيم أي موضوعٍ إلى مواضيع فرعيةٍ، ثم تقسيم هذه الفروع إلى فروعٍ ثانويةٍ، وهلّم جرا. فعلى سبيل المثال تتضمن الأزمة الدبلوماسية دولتين على الأقل، وللمسؤولين في هاتين الدولتين وجهات نظرٍ مختلفةٍ تسترشد بدورها بمجموعةٍ من العوامل المحلية والأجنبية وحتى الشخصية. كما يمكن تقسيم خطابٍ ما إلى عدة مواضيعٍ، والتي بدورها تُدعّم بحقائق أو وجهات نظرٍ أو أكاذيب معينةٍ. ويمكن تقسيم نسبة البطالة وفقاً للسنة والطبقة الاجتماعية-الاقتصادية والجغرافيا. يخدم هذا التقسيم الوظيفة الأساسية المتمثلة في إنتاج فئاتٍ وصفيةٍ مميَّزةٍ تحوي نقاط بياناتٍ: شبكةٍ من اللاعبين، أو سلسلةٍ من الحجج، أو مجموعةٍ من الإحصاءات.

ثانياً، يكشف التحليلُ كيفية ارتباط نقاط البيانات هذه بعضها ببعضٍ، فقد تكشف الأزمةُ الدبلوماسية أن المعارضة في الواقع منقسمةٌ داخلياً بين دعاة التصعيد وأنصار التقارب، في حين ينسج الخطابُ الحجج والنبرة والمكان في رسالةٍ شاملةٍ، يمكننا من خلالها البدء في تخمين نواياه الأساسية، وبالمثل تعرض الرسوم البيانية للبطالة أنماطاً يمكن تفسيرها.

يتعلق التحليل السوسيولوجي الجيد بالفطرة بقدر ما يتعلق بالتجربة

ثالثاً، تنتقل العملية التحليلية إلى الروابط الخارجية لتوفير المنظور، فكل حدثٍ هو جزءٌ من تسلسلٍ زمنيٍ. ما من خطابٍ يُلقى في الفراغ، مثلما أن البطالة لا تحدث بلا سببٍ، ولذا يمكن لمجموعةٍ كبيرةٍ من الروابط الزمنية والتصورية والسياقية أن توفر مزيداً من العمق لتحليلك. يعتمد التحليل في هذه المرحلة على القياس من خلال مقارنة ما لاحظته بإطاراتٍ مرجعية أخرى. (على سبيل المثال الميليشيا هي أيضاً حركةٌ اجتماعيةٌ تنطبق عليها مجموعة أدوات علم الاجتماع بأكملها.) ستساعدك الروابط الخارجية على تحديد السببية: فالأزمة أو الخطاب أو الارتفاع المفاجئ في نسبة البطالة مدفوعةٌ، جزئياً على الأقل، بعوامل أكبر.

 ورابعاً يأتي التصديق، فالتحليل عبارةٌ عن تقديرٍ تقريبيٍ مشتقٍ من ملاحظاتٍ جزئيةٍ، وتصنيفٍ قابلٍ للنقاش، وارتباطاتٍ عقليةٍ طليقةٍ. إذ نادراً ما يحمل اختبار الدم أي معنىً ما لم يفسّره الطبيب الذي يتأثر تقييمه بمعرفته المسبقة بالمريض وبخبرته في الحالات المماثلة. ومهما كانت العملية التحليلية علميةً، فإن استنتاجاتها في نهاية المطاف تعتمد على الاستقراء.

تتمثل المرحلة الخامسة والأخيرة في اختبار صحة استنتاجاتك التي تظلُّ صحيحةً فقط بقدر ما تصمد أمام اختبار الزمن. استشر الآخرين واسبُر وجهات النظر المختلفة؛ ووسّع نطاق تحليلك ليشمل البيانات التي تتعارض مع حكمك؛ أو طبق منطقك على موضوعٍ استعلامٍ ذي صلة لمعرفة ما إذا كان ذلك مفيداً في رؤية الأشياء في ضوءٍ جديدٍ.

يبسط التحليلُ الأمور من خلال تقليل التعقيد إلى مجموعةٍ صغيرةٍ من المفاهيم

تكمن المشكلة في أن المرحلة الأولى من هذه المراحل تحظى بانتباهٍ أكبر بكثيرٍ من غيرها، فدائماً ما تركز التعريفاتُ التقليدية للتحليل على تقسيم الموضوع إلى الأجزاء التي يتكون منها، لا سيما أن كلمة "تحليل"، اشتقاقياً، تعني التفصيل. يذكر البعضُ البحث عن الارتباطات الداخلية والخارجية، لكن لم يسمّ أحدٌ على الإطلاق المرحلتين الأخيرتين في العملية، اللتان يمكن تسميتهما الاستقراء والاختبار.

إن التحليل ليس فصلُ كائنٍ ما بقدر ما هو إنشاء وحداتٍ جديدةً وتجميعها معاً، فتفكيك شيءٍ ما لا يخدم أي غرضٍ سوى إعادة بنائه باستخدام أطرٍ وصيغٍ مختلفةٍ لإضافة البنية والوضوح والمعنى. وهنا يقدّم فحصُ الدم مرةً أخرى مثالاً جيداً، فالسائل الأحمر الأصلي لا يقدم كثيراً من المعلومات للطبيب، لكن إعادة بنائه في سلسلةٍ من الأسماء والأرقام توضّح له الكثير.

وبالمثل فإننا نفسّر الأزمة الدبلوماسية لا بناءً على عدد اللاعبين والأفعال التي تتكون منها، بل بناءً على مفاهيم كالمعسكرات أو التصعيد أو التقارب. كما نعتبر الخطاب استفزازياً أو إصلاحياً عندما يجمع سلسلةً متواليةً من الكلمات في هذه المفاهيم. وبالمثل لا يمكننا فهم البطالة إلا من خلال تجميع أعدادٍ كبيرةٍ من القصص الشخصية في متوسطاتٍ وتوجهاتٍ. من خلال تقليل تعقيد موضوعٍ ما إلى مجموعةٍ مقتضبةٍ من المفاهيم، يبسّطُ التحليل فهم هذا الموضوع بالتركيز على المعلومات الأساسية التي نحتاج إلى معرفتها.

وثمة سببٌ بيولوجيٌ لذلك، فرغم أن أدمغتنا قادرةٌ على تخزين كثيرٍ من المعلومات، لا يمكنها معالجة سوى عددٍ صغيرٍ من العناصر في كل مرةٍ، ويصبح فعل "التفكير" ممكناً فقط من خلال تجميع المعلومات في حزمٍ، وهذا هو الغرض من المفاهيم. وبالتالي يمكننا التحدث عن تناول "الغداء" دون الحاجة إلى تفكيك كل معانيه المحتملة، الأمر الذي قد يستغرق وقتاً حتى وقت العشاء. يتكون التحليل من إيجاد التركيبة الأمثل من المفاهيم التي تنقل فهمنا للموضوع أفضل نقلٍ.

يوضّحُ هذا المقال نفسه كيف تجري العملية المذكورة أعلاه، ففي تحليل التحليل بدأنا بتجارب من الحياة اليومية، أي كيف يتجلى التحليل في مهام عاديةٍ، وتخصصاتٍ معروفةٍ، وتعريفات شائعةٍ. ثم عملت المنهجية المكونة من خمس خطوات (التفصيل، والروابط الداخلية، والروابط الخارجية، والاستقراء، والاختبار) على تنظيم ذلك التنوع في هيكلٍ تصوريٍ شاملٍ. وأخيراً، كان القصد من مناقشة المعلومات المجمّعة معاً في حزمٍ قابلةٍ للفهم جعْلَ الأمور عمليةً أكثر من خلال إظهار الأمور التي يَبني عليها التحليل. في هذا النصّ يبدو أن ثلاث حزمٍ كافيةٌ لإظهار أن التحليل أمرٌ مألوفٌ، ويتبع تسلسلاً معروفاً، ويخلق المعنى أكثر مما يكشفه.

21 شباط / فبراير 2023


الرسم التوضيحي: Bauhaus Ausstellung by Friz Schleifer
on Flickr public domainAnalysis of beauty plate 1  by William Hogarth on Wikipedia public domain


قائمة التحقق للباحث الصاعد

مهارات البحث


تلبية التوقعات

مهارات الإدارة


الذهاب عميقاً

مهارات البحث


اشترك لتلقي منشورات سينابس. ننشر فقط ما يدعونا للفخر

مطلوب *