إن انتشار مرض معدٍ جديد بالكاد وحّد بيننا، بل زاد من فرقتنا واستقطابنا بما يتماشى وسياسات العصر الحالي، اقتصاده وشؤونه الدولية. إن كان هناك نقطة إجماع واحدة بخصوص هذا المرض فهي أنه من الآن فصاعداً يمكن للأشياء أن تتغير بطريقة أو بأخرى، ولكن حتى هذا الإجماع ينهار بسرعة.
تشير التوقعات الأكثر تشاؤماً إلى أن التباعد وانعدام الثقة قد يتضاءلان في عالم ما بعد فيروس كورونا، لكنهما سيظلان أمراً طبيعيا ومعتاداً. وفي أثناء تعاملنا مع تداعيات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الكارثية، يمكن للإغلاق أن يخفّ أو يشتدّ، وقد تشيّد الجدران على الحدود، ويزداد كره الأجانب، وتبقى الكمامات في حالة رواج. أما في النظرة الأكثر تفاؤلاً، سيتراجع السياسيون والأثرياء تراجعاً بنّاءً، وسيعملون على استعادة العدالة الاجتماعية والتوازن البيئي بإحساس جديد بالضرورة الملحة. في مكان ما في الوسط، من شأن رواية متفائلة بحذر أن تؤدي إلى تعبئة وتضامن ووعي متزايد يمهد الطريق لغد أفضل.
في الوقت الحالي، من الأسهل بكثير رؤية السيناريوهات الأكثر قتامة، والتي تطغى على غيرها نظراً لفشلنا في توضيح ما هي الآلية التي يمكن أن تجلب التغيير الذي نرغب برؤيته. تسبَّبَ فيروس كورونا بشلل لشريحة اجتماعية تُعتبر جزءاً لا يتجزأ من تصورنا لمستقبلنا، ألا وهي الطبقة الوسطى، أو ما تبقى منها، كآخِر عازل بين النخب والفقراء. تستثمر الطبقة العليا الكثير في أنظمتنا المتعثرة، أما الطبقة الدنيا فلا يمكنها صنع التغيير بمفردها، خاصة أنّ الظروف تزداد سوءاً. يتوقف الكثير على الطبقة القابعة بينهما، والتي يتمثل أسوأ رهانها في التقوقع على نفسها.
إننا لا نعرف سوى القليل عن الفيروس الذي قد يكون مقدمة لأوبئة أسوأ، لكننا نعرف أنفسنا جيداً بما يكفي للتفكّر ووضع الاستراتيجيات. وبينما ننتظر أن يحل علماء الأوبئة وعلماء الأحياء وخبراء الصحة العامة الجوانب التقنية لمشكلتنا، يتعيّن علينا أن نفكّر في نوع العالم الذي نسعى لإنقاذه.
مرضُ البيانات
يمكن القول إن الجانب الأبرز في هذه الأزمة هو ما تكشفه عن علاقتنا بالبيانات، فكثرة أجهزة التتبع ولوحات المعلومات تعكس رغبة شديدة في العثور على بعض الحقيقة والارتياح في الأرقام. إن الشعار الأكثر شيوعاً في هذه الفترة هو مرجع حسابي بحت: #تسطيح_المنحنى، وقد انكبّ عامة الناس في جميع أنحاء العالم على تقييم أرقام معقدة عن الكمامات والاختبارات والأسرّة ووحدات العناية المركزة وأجهزة التنفس تماماً كأنما يرون حالة الطقس.
غير أن الكثير من البيانات تقنية بحتة ويصعب تفسيرها. للوهلة الأولى تبدو غالبية الأرقام عن المرض واضحة وبسيطة، ولكنها في الحقيقة خادعة، وتخفي معايير تشخيص غير متسقة، وقدرات فحص متغيّرة، وآليات جمع وتجميع منقوصة. في فرنسا، على سبيل المثال، نادراً ما تُجرى للمسنين المتوفين فحوصات الكشف عن فيروس كورونا، ما يترك فجوة في المعرفة حول مجموعة من الناس نحن معنيون بحمايتهم. تواصل البلدان في جميع أنحاء العالم قياس أدائها مقابل أداء الصين، رغم أن بكين ركزّت على صياغة روايتها بخصوص المرض - من خلال التلاعب بالبيانات - بقدر تركيزها على احتواء المرض نفسه. بالرغم من ذلك كله، ما زلنا نستهلك المعلومات المنقوصة ونشاركها بشكل لا إرادي، وغالباً ما تعكس الأرقام مزاجنا، ما يؤدي إلى حالة من الذعر أو السكينة، تبعاً للّحظة التي نحن فيها.
يخلق هذه الغموض نقاشاً غير متسق على مستوى العالم. من المنطقي المقارنة بين الدول الغربية ودول شرق آسيا التي تنشر الأرقام بشفافية، ولكن من الصعب رؤية أية فائدة في وضع تلك البلدان في رسم بياني واحد إلى جانب روسيا أو مصر أو إيران. قد تحجم بعض الحكومات عن توثيق الوباء كلياً لكي تخفي فشلها في احتوائه أو بسبب شح مواردها، وقد يصل المرض ذروته دون أن يلحظه أحد في المجتمعات الفقيرة أو تلك التي مزقتها الحرب والتي تعاني أصلاً من ارتفاع معدلات الوفيات.
إن هوسنا بالبيانات يجعلنا نعطي الأولوية لقياسات معينة على حساب غيرها، فقد استحوذت معدلات العدوى والوفيات على حصة الأسد من الاهتمام. تُخفف نقاط البيانات الثانوية الأخرى من قلقنا أو تزيده؛ من رسوم بيانية عن معدلات البطالة إلى مزاعم عن انخفاض التلوث وقصص عن استعادة الطبيعة عافيتها. غير أن ما يستدعي البحث أكثر هو رسوم بيانية تفسّر سبب ظهور الأزمة: فيروس كورونا هو واحد من سلسلة من الأوبئة التي تنقلها الحيوانات والتي تُعزى إلى السلوك البشري، وتَبعَ انتشاره في بادئ الأمر طرق الحركة الجوية المحمومة حول العالم؛ ويمكن عزو تفكك البنية التحتية للصحة العامة في حد ذاته للتفاوتات المتعاظمة. بعبارة أخرى، ركزت البيانات الرقمية بشكل كبير على الفيروس نفسه، ففصلت جائحة عالمية عن سياقها.
التوق للسيطرة
في صميم تركيزنا على الأرقام تكمن حقيقة مقلقة وهي أن هذا المرض سيستمر في حياتنا لأشهر وربما لسنوات. تمنحنا البيانات عن المرض، وإن كانت غير عملية، إحساساً بالسيطرة والوضوح في مواجهة أسئلة غالباً ما تفتقر للأجوبة؛ هل أصبتُ بهذا المرض؟ ما هي احتمالات شفائي؟ لماذا يبلي البعض أفضل من غيرهم؟ هل وصلنا الذروة؟ متى سيهدأ قلقي؟ لقد أثار فيروس كورونا نوعاً من رد الفعل العاطفي، وصحوة مفاجئة لحقيقة أننا فانون، صحوة نادراً ما تحدث على هذا النطاق.
ينبع جزء من هذا القلق من الميزة الغامضة والمتغيرة لشكل الفيروس. بصرف النظر عن كونه معدياً ولا يُرى بالعين المجردة، لفيروس كورونا أشكال محيّرة في حالات مختلفة، وعندما يضرب، يضرب بعشوائية، وقد يُصاب به الأصحاء فيخطفهم من بيوتهم إلى وحدة العناية المركزة ثم إلى القبر بلمح البصر. إنه يهدّد أعز ما لدينا وأقرب أقربائنا، ويستمدّ قدرته على دَبّ الهلع في قلوبنا من استجابتنا نفسها وخلال محاولتنا تجنب العدوى من خلال تقليل الاتصال البشري. في محلات البقالة ترى الناس يقفون بحذر في الدور والكمامات تغطي وجوههم، وبذا أصبحنا نحمي الحياة بجعل جُلّها يبدو وقد أصابه السّقم.
إن ما ألمّ بنا اليوم من كربٍ له جذور تاريخية، فإيماننا الفطري بالأرقام والعلوم يعود إلى النمو المتزامن للطبقة الوسطى وقطاع الصحة في القرن التاسع عشر، إذ تطلّب التصنيع والتحضّر المتسارع وظهور الحرب الشاملة تحسينَ النظافة والأدوية المثبتة بالتجريب، ما غذى بدوره شهية متزايدة للإحصاءات. مع ظهور الصحة العامة ظهر فرع علوم جديد ألا هو علم الأوبئة الذي منحنا وعداً وهميّاً باستئصال الأمراض وتصوراً لتحقيق تقدم على أساس العيش حياة أطول وأكثر أماناً وصحة. بحلول القرن العشرين، جاء ظهور المستشفى ليجسد شعوراً معاصراً باليقين: في هذا المكان نضع حياتنا بين يدي العلم، مكاناً غدا ملجأً يُحصى كل شيء فيه بدقة بالغة؛ ليس عدد الوفيات وحالات التعافي وحسب بل كذلك درجة الحرارة والنبض وخلايا الدم وأقراص الدواء. في المستشفى ترى الجداول وقد أحاطتها القداسة.
إن إيماننا الراسخ بالبيانات ينبع من هوسنا بالحلول التكنوقراطية التي تملي علينا جميع أنواع السياسات، فحتى الحكومات التي لا تجمع بيانات موثوقة ستنشر إحصاءات، والتي بدورها تدخل في الأرقام الخاصة بأهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. تضع الوكالات الإنسانية والإنمائية مقاييس ملتبسة لإضفاء طابع علمي على عملها. رغم كونها مفيدة في بعض الأحيان، إلا أن الأرقام أصبحت هوساً، فهي تمنحنا هالة من القدرة على القياس والتحكم، وهو ما يلائم روح الطبقة الوسطى: قد نذمّ بيروقراطياتنا العليلة، لكننا ما نبرح نفتش عن ملاذٍ في منطقها.
لقد قلب فيروس كورونا هذه الأيديولوجية رأساً على عقب، فهو يستعصي إلى حد كبير على الأرقام الدقيقة بالنظر إلى السرعة والسرية التي ينتشر بها. وفي الوقت نفسه، يؤثر هذا الفيروس في كيفية عمل المجتمع الحديث، وخاصة بالطرق التي تميّز الطبقة الوسطى والنُخب، وهي قدرة كبيرة على التنقّل ، ونظام صحة عامة يتّصف بأنه مركزي وقليل التمويل في آن معاً، وبُغضٍ متأصّل من المجهول. لقد أفسد فيروس كورونا عقيدة إدارة المخاطر لدينا، فغدا إغلاق كل شيء ملاذنا الأخير لإبقاء الأرقام تحت السيطرة، وبات الفيروس يسيطر على أنظمتنا أكثر بكثير من سيطرة أنظمتنا عليه.
الحرب العالمية الجديدة
لمحاربة هذا العدو الوجودي، أعلنت الدول في جميع أنحاء المعمورة حرباً شاملة مجازياً، وراحت تردد وتضخم ردود فعل استبدادية عززتها سنوات من مكافحة الإرهاب. بينما تتعرض مجتمعاتنا للتهديد، ترانا نستجدي السلوان في أشكال تدخلية ورجعية من سيطرة الدولة إلى درجة أن بعض الدول راحت تُشِيد بلجوء حكوماتها إلى قوانين الطوارئ، وتدعوا للمزيد من المراقبة الرقمية، وتثني على نموذج بكين الاستبدادي.
سارعت الأنظمة الاستبدادية والليبرالية على حد سواء للحاق بالركب، فراحت تردد مصطلحات عسكرية مجازية من قبيل التعبئة العامة وخطوط الدفاع والتضحية والبطولة. في أماكن مثل المملكة العربية السعودية أو جنوب لبنان، سار العاملون الصحيون في الشوارع مثل الجنود. في أماكن أخرى، رأت الدول في الأزمة فرصة لتعزيز مصالحها الضيقة باسم الدفاع عن الإنسانية، فقد راحت الصين تسكت الأصوات المعارضة في الداخل في حين تعمل على توسعة نفوذها الخارجي، ومرة أخرى تحاول فرنسا قيادة أوروبا، أما إيران فتراها تلقي باللائمة كلها على العقوبات المفروضة عليها؛ فيما اختارت مصر الاستعراض وحُبّ الظهور التافه بإرسالها مساعدة شكلية إلى إيطاليا بينما لا تفعل سوى القليل جداً لخدمة شعبها. لقد سمح فيروس كورونا بإبراز السلطة في صورة أي نظام سياسي.
تبدو عقلية الاختباء التي نتجت عن ذلك كله مألوفة؛ لكنها أُلفة لا تدعو للارتياح، إذ تتمثل هذه العقلية في تصعيد الدول خطابها العدائي، وإغلاق الحدود، وتوسعة جمع المعلومات الاستخبارية إلى مجالات جديدة، كالصحة العامة. إنّ ردّنا على كورونا يحمل بعضاً من ملامح "الحرب على الإرهاب" والقمع العالمي للمهاجرين وطالبي اللجوء. من الخطر تعزيز نهج يركز على الأمن ويغفل الاستثمار في إصلاحات جوهرية أكثر. على سبيل المثال، سيكون من الأسهل تفهم التحمس لفرض إغلاق مكلف في حال قوبل هذا الإغلاق بجهود حثيثة لتمويل قطاع الصحة العامة من خلال تحصيل ضريبيّ أكثر عدالة.
يكمن الخطر في تعزيز نهج يركز على الأمن بدلاً من إجراء إصلاحات جوهرية
على جبهات مختلفة، يمكن أن تشبه الحرب على فيروس كورونا الحربَ على الإرهاب من خلال تقويض مجتمعاتنا بقدر ما تحميها؛ فقد طالت حملة ما بعد العام 2001 ضد الجهاديين واستنزفت موارد هائلة، واستُعملت كمبرر للسلوك المسيء، وقَسّمت المجتمعات داخلياً في حين أنها فشلت في مهمتها المعلنة. لقد أصابنا الفيروس بالرعب في صميمنا، وأدى إلى ظلم فئات كاملة من الناس. في الهند، يُتهم المسلمون اليوم بالوقوف إلى جانب الفيروس ضد الأمة. في أمكنة أخرى، ازداد عدم الثقة في الآخر، إذ راح النبذ والنفور يستهدف الأجانب غير المرغوب بهم، والأقليات المنحرفة، والطبقة الدنيا الرثة، وكذلك الزملاء أو الجيران الذين افتُرض أنهم مهملون.
يرتبط الاستقطاب المتصاعد بمستويات كبيرة من ادعاء الفضيلة، فقد راحت شركة أوبر، التي يرتكز نموذج عملها على تجاهل رأس المال البشري، ترسل رسائل غير مرغوب بها إلى العملاء من قبيل "يرجى مراعاة راحة السائق." في جميع أنحاء العالم، راح الناس ينشرون صوراً ذاتية وهم يرتدون الكمامات في بيوتهم؛ ويقودون سياراتهم مرتدين قفازات؛ ويكتبون شعارات من قبيل #الزم_بيتك_لتنقذ_الأرواح على صفحاتهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي؛ أما العمال، فتارةً يتلقون المديح وتارة الذم لتحايلهم على قواعد التباعد الاجتماعي تبعاً لما إن كانوا قد فعلوا ذلك لخدمتنا أم للدفاع عن أنفسهم، وأما الممرضون والممرضات فيستاء بعضهم من تصويرهم كأبطال، ويفضلون على ذلك رؤية تحسنٍ في ظروف عملهم. يمكن للشعارات حسنة النية أن تزيل المسؤولية عن حكومات وأن تقوض تلك التي نمجدها.
يمكن لنفاقنا الطبقي أن يمتد إلى المجال السياسي، فلموضوع الصحة – حاله كحال الأمن - جانب شديد الأهمية يجعله غير قابلة للنقاش، إذ يمكن وبسهولة تشويه التجمعات غير المرغوب فيها على أنها غير مسؤولة اجتماعياً طالما بقي المرض موجوداً. لقد أصبحت الاحتجاجات تهديداً للصحة بل وجريمة مدنية. كما أن التباعد الاجتماعي، المفيد لتقليل العدوى، يعني إلغاء المعارضة الفعالة. إن وجود نظام سليم تماماً سيؤدي إلى زوال السياسة، في وقت أصبح حث سياسيينا على التصرف أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.
بينما نحن (لا) نراقب
يعزز الإغلاق مجموعة من الديناميات الخطيرة الموجودة مسبقاً. ما تزال فعالية الإغلاق وتكاليفه النهائية غير معروفة، غير أن كثيرين يرون فيه شراً لا بد منه، وهو ما جعله ينتشر حول العالم كما لو أنه الدواء الشافي. في إفريقيا وآسيا، فرضت بعض الدول الحجر الصحي كرد فعل اعتباطي رغم أن سكانها الفقراء من الشباب ربما يهددون بالجوع أكثر مما هم مهددون بالفيروس، أما لبنان فقد فَرضَ الإغلاق بشكل استباقي وكغاية بحد ذاتها، في حين أغفل دعم نظام الصحة العامة في موازاة ذلك. ظلت التدابير البديلة، مثل الفحوصات الجماعية وتتبع الاتصال بين البشر، الاستثناء: في كل مكان تقريباً، كانت القاعدة هي إبقاء كل شيء على حاله وانتظار الفَرَج، غير أن توجهات مشؤومة راحت تطغى على المشهد بينما نحن نراقب من النافذة.
أولاً، يُعاد اليوم تعريف الفرد بطرق تخدم أنظمتنا وليس العكس، فقد قُصرت قدرة البشر على التنقل على السلوكيات الوظيفية، أي الاستهلاك واللياقة البدنية والعمل الأساسي على حساب الحريات الأساسية. قد يبدو ذلك تضحية لا تُذكر لولا الجدران التي راحت تطْبق علينا في السنوات الأخيرة، كالقيود المتزايدة على السفر، والغزو الرقمي للخصوصية، والقمع المتزايد للمعارضة السياسية. في الوقت نفسه، ترمي أنظمتنا المتعثرة بالكلفة المتزايدة لإخفاقاتها على الفرد، فعندما لا ننقذ البنوك الجشعة من الإفلاس، ونطالب بالقروض الطلابية لمواجهة تعليم عام متدهور، ونسعى بجد لتقليل مساهماتنا الصغيرة في الأزمة البيئية، فإننا نطالب بأن نلزم بيوتنا لإعطاء قسط من الراحة لقطاعات الصحة العامة التي تفتقر إلى التمويل الكافي.
ثانياً، يعزز الإغلاق اعتمادنا على أكثر أنماط العمل سوءاً، فقد يعزز العمل عن بعد التحول نحو التوظيف بأسلوب شركة أوبر. إن كنت بالفعل منتجاً من المنزل، فقد يقرر صاحب العمل توفير المساحة المكتبية والنفقات العامة كمقدمة لمزيد من "المرونة". وفي الوقت نفسه، تكافئ الأزمة الصناعات التي تضر أنظمتنا البيئية وأطرنا السياسية ونسيجنا الاجتماعي كلٌ بطريقته الخاصة، كالمواد الكيميائية والمستحضرات الدوائية والأغذية المصنّعة وتجارة التجزئة والإلكترونيات الدقيقة وأنظمة المراقبة ووسائل التواصل الاجتماعي التي تثير الشائعات. سوف يزيد ثراء هذه الصناعات بينما تحصي دول الرفاه والمجتمعات المدنية والكثير من اللاعبين الاقتصاديين الأصغر والحيويين خسائرهم، في وقت نحن في أمسّ الحاجة إليهم.
ثالثاً، إننا نشهد (ويمكن القول إننا نشارك في) تدمير الطبقة الوسطى التي تتقلص منذ زمن بفعل التأثيرات المتراكبة لتضاؤل المنافع الاجتماعية، وارتفاع تكاليف التعليم، والعمالة غير المستقرة على نحو متزايد. يهدد فيروس "كوفيد" بتسريع هذه العملية من خلال تدمير الاقتصاد بشكل عام، وكذلك من خلال طرح الأسئلة حول الطابع "غير الضروري" لشرائح كبيرة من السكان. يكشف الاستعراض العلني للطبخ الإبداعي وتربية الأطفال واللياقة البدنية عن مزيج خطير من الامتيازات والعبث. يمكن فهم ثقافة الحجْر هذه كآلية للتكيف، لكن ذلك في حد ذاته علامة على الأزمة. ما هو مبرر وجود الطبقة الوسطى عندما يكون بوسع الكثير منا التزام بيوتنا لفترة طويلة؟ بينما نمرر هذا الوقت المعلّق، ننفق ما تبقى من موارد على الطعام والاتصالات والترفيه. من الذي نعوّل عليه، في الوقت نفسه، ليرسم لنا ملامح مستقبلنا؟
الإغلاق العقلي
لم يقابَل هذا الخوف الجارف من الفيروس بأفكار غزيرة لتخفيفه، فلغاية الآن لم تقم أية حكومة أو هيئة متعددة الجنسيات بوضع تدابير من شأنها معالجة الأسباب الجذرية لانتشار المرض، واكتفت بدلاً من ذلك بمعالجة آثاره. وفي الوقت نفسه، يحصد الأثرياء استحساناً شعبياً لتبرعهم بمبالغ ضئيلة مقارنة بحجم ثرواتهم وبموازنات الدولة. من جانبهم يميل المعلقون المحترفون إلى الخوض في موضوعات بالية، كانهيار الرأسمالية وأفول الديمقراطية وزوال الإمبراطورية واحتضار العالم الغربي وأزمة أوروبا النهائية وصعود النمور الآسيوية أو سحر الديكتاتورية، وهي مواضيع لا تخلو منها الصحافة الرصينة، لكن المساحة الهائلة التي تشغلها مخيبة للأمل.
إن عدم التوافق هذا يعكس أصداء أزمات الماضي. لم يؤد الإرهاب أو الانهيار المالي أو انهيار أسعار النفط أو تغير المناخ إلى أي بحث في الذات على نطاق يمكن له أن يحول أنظمتنا نحو الأفضل. تتمثل أقوى غرائزنا في تفضيل الوضع الراهن المتعثر، فنحن نعدّل العالم الذي نعرفه خوفاً مما قد ينطوي عليه التحول الجذري. ستنقذ أوروبا شركات الطيران بالمال الذي بإمكانها استثماره في وسائل النقل العام على مستوى القارة، وستؤجل فرض الضرائب على البلاستيك لمجرد البدء بإنتاج الكمامات. يستفيد قادة مختلفون مثل إيمانويل ماكرون وبوريس جونسون على قدم المساواة في استطلاعات الرأي، إذ أنهم يتغلبون على جائحة كوفيد دون أن يغيروا وجهات نظرهم تغييراً ملموساً. في الولايات المتحدة، حيث تلوح في الأفق انتخابات رئاسية مهمة، استقر الحزب الديمقراطي على أكثر المرشحين إثارة للملل، كما لو أن اتقاء الحذر هو أفضل رهان.
يمكن القول إن ما يفسر هذا المزيج الفريد من الهلع العاطفي واللامبالاة الفكرية هو الطبيعة الهجينة لفيروس كورونا، فهو مخيف بما يكفي ليقض مضاجع حتى أولئك الأقل تأثراً بآثاره، ولكن لا يزال من الممكن السيطرة عليه باستخدام الصابون والعزلة وعزف الموسيقى على شرفات المنازل. أصبحت الصحة العامة والأزمات الاقتصادية أموراً حقيقية للغاية في المستشفيات العامة ومخيمات اللاجئين والمجتمعات الفقيرة في جميع أرجاء المعمورة. نهاية الزمان المفترضة هذه لم تكن سيئة للغاية بالنسبة للكثيرين في الطبقة الوسطى. إن كنا صادقين مع أنفسنا، فقد نعترف أننا أكلنا ما طاب لنا من الطعام واستمتعنا قليلاً خلال الأزمة. يمكن لهذا الشكل الأخف من نهاية العالم أن يؤدي إلى تخفيف كل تلك المخاوف التي ساورتنا في السنوات الأخيرة في أثناء تأهبنا لمواجهة آثار تغير المناخ. إن حالفنا الحظ بما يكفي لتجنب خسارة وظائفنا وأحبائنا، فهل سنقوم بفعل شيء مدفوعين بهذه النزعة للبقاء الذي أصبح سهلاً؟
أكثر من أي وقت مضى، يبدو أن الخلاص يعتمد على مبادراتنا الصغيرة بعد أن انكشفت المؤسسات التي نعتمد عليها جميعنا على حقيقتها، وهي أنها ليست غير مستعدة أو مهيئة فحسب، بل متعنتة أيضاً. على تلك الجبهة، يطرح فيروس كوفيد مشكلة مثيرة للاهتمام؛ بدلاً من افتراض أن خيراً ما سينتج تلقائياً من "إحداث هزة في النظام"، يبقى الأمر متروكاً تماماً لنا لتحديد ما سيكون هذا الخير.
من الألف إلى الياء
إن مقارنة فيروس كورونا بما سبقه من أوبئة لا يوفر الكثير من الأجوبة. فعلى عكس الاعتقاد السائد، نحن لا ندين بالنهضة للطاعون الذي ضرب أوروبا في القرن الرابع عشر، بل لمجموعة متنوعة من العوامل من قبيل الزحف العثماني المؤلم والتجارة والهجرة والتبادل الثقافي وظهور آلة الطباعة وقدرتنا المتأصلة على إعادة الابتكار. وبالمثل، لن يسطّح فيروس كوفيد بالنسبة لنا أياً من المنحنيات التي تَسبّب بها، فالخوف والبغض والعزلة والبطالة وكراهية الأجانب والشعبوية والتربح هي أمراض يجب أن نعالجها بأنفسنا.
هناك علامات مبشرة، غير أن من الصعب تحديد آثارها على المدى الطويل. على مستوى الفرد، قد يتبين لنا أن الأزمة تمثل تجربة تحولية أكثر مما تبدو للوهلة الأولى، فقد أدت هذه الأزمة إلى إعادة اكتشاف الطبيعة على نحوٍ جلب السكينة إلى قلوبنا. لقد حلّت الحيتان والدلافين محل السياح في كالانك والبندقية، ونفضت جبال الهيمالايا عن نفسها الضباب الدخاني الذي صنعه الإنسان. تؤثر مثل هذه الصور في الكثير منا بعمق، كما لو أننا خرجنا متأخرين من سبات مسموم.
هناك علامات مبشرة لكن من الصعب تحديد آثارها على المدى الطويل
أثار هذا السكون شكلاً آخر من الصحوة بعد عقود من فرط الحركة والهيجان العالمي الذي بدأ في الثمانينات وراح يزداد سوءًا نتيجة لمجموعة من العوامل كالشحن بالحاويات والإنتاج غير المحلي والتنقل المهني والقطارات فائقة السرعة وانتشار أجهزة الكمبيوتر. وقد أدى التسارع الكبير الذي تبع ذلك إلى جعل التباطؤ الأخير مزعزِعاً للاستقرار وضرورياً للغاية في آن معاً، وكشف عن شيوع "وظائف الهراء" على حد تعبير ديفيد غريبر عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي، وكذلك اجتماعات الهراء.
كما هو متوقع، لقد أجبرتنا العزلة على التحلي بالإبداع في كيفية تواصلنا مع الآخرين، كما ازدادت بعض الأواصر الشخصية قوة حول شعور بالاعتماد المتبادل، وساهمت الكثير من المبادرات الصغيرة وغير الرسمية - من تأجير الشقق للشباب إلى توصيل مواد البقالة للمسنين – لا في مكافحة المرض فحسب، بل في التصدي لمبدأ "كلّ يتدبر أمر نفسه" الذي ساد مؤخراً. إننا نواجه اليوم مرضاً يستحوذ على لغز عصرنا؛ العالم يغص بالبشر، ومن الحماقة الاعتقاد أن باستطاعتنا حل مشاكلنا من خلال الوقوف بعيداً عن بعضنا البعض.
قد تبدو إعادة الاتصال بالبيئة والأقارب وبالنفس أمراً في غاية البساطة، ولكن يمكن الشعور باستجواب أعمق. امتيازنا هو أيضاً مسؤوليتنا، ويكمن واجبنا في القيام بأكثر من مجرد تمرير الوقت وتنفيس الملل وادعاء الصدق. إن عاد العالم إلى حالته التي لم يكن من الممكن استمرارها، وظل مليئاً بأمراض أسوأ، فلن يكون بوسعنا سوى لوم أنفسنا. يسمح وقت الفراغ في ظل الحجْر للمحظوظين بالتفكر في الأسئلة المهمة: عندما ننتهي من مسألة "الزم بيتك"، ما الذي سنفعله لمواصلة "إنقاذ الأرواح"؟
لن يلبث هذا الكفاح أن يتحول إلى حد كبير إلى السعي لمحاربة غرائزنا. في السنوات الأخيرة، راحت الطبقة الوسطى تنغلق على نفسها وتقاتل دفاعاً عن معايير معيشتها. إننا نستهلك بنفس القدر، لكن بحسٍ أكبر بالمسؤولية. قد نتمسك بوظائف أجرها أـكبر بكثير مما تثري المجتمع، كما أننا ندفع ضرائبنا، ولكن في مواجهة عائدات آخذة في التضاؤل، ونتصدى للمد المتصاعد للفقراء. من الناحية السياسية، نحن منقسمون بين خيارين رجعيين؛ بين محافظين متمكنين يعدون باستعادة العالم كما عهدناه وشعبيويين غوغائيين يقولون الشيء ذاته لكن بطريقة مختلفة. لم تنجح هذه العقلية الدفاعية في تحسين مصيرنا، ولا في محاسبة النخب، أو وضع الاقتصاد على مسار أكثر استدامة.
يمكن لفيروس كوفيد أن يجعلنا أكثر ميلاً للنظر في داخلنا في أثناء تقهقرنا إلى فضائنا الآخذ بالتقلص. يكمن البديل الوحيد في السير في الاتجاه المعاكس وأن نكون أكثر راديكالية في كل ما نقوم به. لا يمكننا إنقاذ أنفسنا من خلال الارتعاد خوفاً من المرض، واستجداء حماية النخب لنا في حين نُغفل من هم أقل حظاً، بل يجب أن نطلب المزيد من أولئك الذين يتولون القيادة وأن نهتم أكثر بالمحتاجين. لم يعد بمقدورنا أن نظل الطبقة الوسطى التي تحل مشاكلها بشق الأنفس.
4 أيار / مايو 2020