هزيمة الغاية
بالإضافة إلى هذا الشُّعور العامِّ بأنَّ "منع التَّطرُّف العنيف" قد أخذ الكثير من الضَّجَّة والجلبة مقابل تحقيق الحدِّ الأدنى من التَّقدُّم، هناك مؤشِّرات على أنَّ توسُّع هذا الإطار قد يجعل الأمور أسوأ في المواضع الَّتي يهدف إلى تحسينها، ففي أحد المستويات، يقدِّم "منع التَّطرُّف العنيف" ستاراً مناسباً للأنظمة الاستبداديَّة الَّتي يمثِّل سلوكها بلا لبسٍ، جزءاً من المشكلة، فبينما لا تزال الأدلَّة ضعيفة فيما يتَّصل بدوافع التَّطرُّف، يُفهم على نطاق واسع أنَّ الحكم السيِّئ- بما في ذلك انتهاكات حقوق الإنسان والقمع الشَّديد للفضاء العامِّ والفساد والاقتصاد القائم على السَّلب والنَّهب وما إلى ذلك - في صميم هذه المسألة. إزاء هذه الظُّروف، تتشبَّث الحكومات الرَّجعيَّة بالمنطق الغامض لمفهوم "منع التَّطرُّف العنيف" غطاءً لسلوكها الأكثر خبثاً وضرراً.
في أحد الأمثلة على ذلك، أطلقت الحكومة السُّعوديَّة في أيَّار/ مايو من عام 2017 مركزها العالميَّ لمكافحة الفكر المتطرِّف- وهو مركز عصريٌّ اشتُهر بالكرة المتوهِّجة الَّتي غدت رمزاً له- لكنَّها في الوقت نفسه تمضي قدماً في حرب في اليمن، حربٍ لا يُرجَّح أنَّها ستسهم في تخفيف "التَّطرُّف العنيف" بالنَّظر إلى التَّدمير الشَّامل والمجاعة بفعل الحصار الَّذي سبَّبته. كان من بين من حضر الافتتاحَ الضَّخمَ الرَّئيسُ المصريُّ عبد الفتَّاح السيسي الَّذي قدَّم نظامُه نفسَه شريكاً في الحرب على الإرهاب بينما راح يصعِّد القمع المحلِّيَّ إلى مدى ذي نتائجَ عكسيَّةٍ. وبالمثل استضافت إيران مؤتمراً حول مواجهة العنف والتَّطرُّف في أواخر عام 2014 في حين ترسل ميليشياتها لمساندة النِّظام السُّوريِّ ومساعدته على مواصلة قمعه غير المحدود.
لقد تشبَّثت الحكومات بهذا الغطاء لسلوكها الضَّارِّ
وبالمثل، لاحظ خبير في آسيا التَّناقض بين تبنِّي إسلام آباد الحارِّ لخطاب "منع التَّطرُّف العنيف" من ناحية، وموقفها العامِّ الَّذي يعزِّز التَّشدُّد من ناحية أخرى، وفي ذلك قال: "إنَّ الرَّافعة الأساسيَّة في السِّياسة الخارجيَّة الباكستانيَّة هي تصدير الإرهاب؛ لذا لستُ متأكِّداً من كيفيَّة تحقيق هذه القفزة المنطقيَّة". حتَّى الطَّبقة السِّياسيَّة المستجيبة ظاهريًّا في بلد مثل لبنان تبنَّت موقفاً عدائيًّا تجاه أكثر من مليون لاجئ سوريٍّ في غاية الضَّعف، وأخذت البلادَ إلى حافة أزمة ماليَّة، وسمحت بهدوء لقطاع السُّجون الَّذي يغصُّ بالانتهاكات والمتدهور والمكتظِّ أن يستفحل في حين تبنَّت "الاستراتيجيَّة الوطنيَّة لمنع التَّطرُّف العنيف".
تتعلَّق مجموعة ثانية من المخاوف بكيفيَّة تكشُّف "منع التَّطرُّف العنيف "على المستوى الجزئيِّ في توزيع المساعدات الإنسانيَّة والإنمائيَّة من قبل المنظَّمات غير الحكوميَّة المحلِّيَّة والدَّوليَّة؛ ففي نيجيريا مثلاً، أشار أحد كبار المانحين الإقليميِّين إلى "تكريس جُلِّ السِّياسات والأموال لمحاربة الإرهاب في الشَّمال، ما سمح للعديد من الصِّراعات الأخرى في أنحاء البلاد الأخرى بالتَّفاقم والتَّوسُّع". مع تزايد تركيز الاهتمام الغربيِّ على موضوع الأمن، وَجدت المنظَّمات المحلِّيَّة نفسها مُجبرة فعليًّا على تكييف عملها مع هذا التَّوجُّه، بما في ذلك تحويل الموارد بعيداً عن النقاط المحوريَّة الموضوعيَّة الأخرى الَّتي أثبتت هذه المنظَّمات خبرتها فيها.
تتجلَّى هذه الدِّيناميَّة بوضوح بين كلٍّ من المانحين والشُّركاء من المنظَّمات غير الحكوميَّة الَّتي غالباً ما يعتمد تمويلها على التَّوافق مع أولويات التَّمويل الدَّوليَّة، وفي ذلك يرى أحد العاملين في منظَّمة غير حكوميَّة في الأردن أنَّ منظَّمته - الَّتي ركَّزت مهمَّتها الأصليَّة على المشاركة والانخراط المدنيِّ والسِّياسة العامَّة - أعادت تكييف نفسِها إلى حدٍّ كبير، فيقول:
"يبدو أنَّ قيادتنا قد أقنعت نفسها ببرامج "منع التَّطرُّف العنيف"، ولكنِّي أكاد أجزم أنَّه لو لم يكن هناك قيود على التَّمويل لَما قمنا بهذا الأمر. بصراحة، تحوَّلَ كلُّ عملنا تقريباً في هذا الاتِّجاه، وفي أعماقنا نشعر بالإحباط من هذا التَّحوُّل عن مهمَّتنا الأساسيَّة".
يقول خبير في "منع التَّطرُّف العنيف" متذمِّراً: "جلس شريكي مؤخَّراً مع [مانح غربيٍّ] لمناقشة مبادرة تتعلَّق بحقوق المثليِّين في آسيا، وقال الرَّجل: "إن تضع عبارة "التَّطرُّف العنيف" في هذا، فستجعل وظيفتي أسهل بكثير. قد يبدو ذلك نكتة، لكنَّها ليست كذلك"، وقد ردَّد مسؤول حكوميٌّ لبنانيٌّ هذا الأمر علناً في فعالية رفيعة المستوى أقيمت لإطلاق استراتيجيَّة بيروت الخاصَّة بـ"منع التَّطرُّف العنيف" بقوله: "لا يعني "منع التَّطرُّف العنيف" لي شيئاً على الإطلاق، إنَّها عبارة جوفاء، لكنَّني أعلم أنَّها تدرُّ الكثير من المال، لذلك لا بأس بها".
يرتبط تحوُّلٌ موازٍ ارتباطاً وثيقاً بالدَّرجة الَّتي يحابي بها هذا التَّوجُّهُ الفاعلين الأكثر براعة في التَّحدُّث بلغة الوكالات المانحة بصرف النَّظر عمَّا إذا كان لديهم أكثر البرامج صلة، ويطغى هذا التَّوتُّر على عدد من التَّدخُّلات التَّنمويَّة، غير أنَّ ملامح "منع التَّطرُّف العنيف" غير المثبَتة تجعل الإطار أرضاً خصبة للتملُّق للمانحين. في مؤتمر حول "منع التَّطرُّف العنيف" عُقد في أوروبا، قال أحد المشاركين للمانحين: "إن كان شريككم المحلِّيُّ يفهم ما يعنيه "منع التَّطرُّف العنيف"، فقد لا يكون شريكاً محلِّيًّا جيِّداً، بل مجرَّد منظَّمة أخرى تعرف كيف تحصل على المال على حساب أجندتها"
ينتهي المطاف بقطاع المساعدات بفعل خلاف ما يدَّعي أنَّه يصبو إليه
إدراكاً لهذا التَّوتُّر، أوضح رئيس منظَّمة سوريَّة غير حكوميَّة عريقة أنَّ منظَّمته، بالرَّغم من أنَّها تتجنَّب مثل هذا التَّمويل في الغالب، تتولَّى أحياناً تنفيذ مشاريع تحمل اسم "منع التَّطرُّف العنيف" عندما تتناسب مع النقاط المحوريَّة للبرامج الأخرى مثل الدَّعم النَّفسيِّ والاجتماعيِّ، حتى هذا الأمر أثار انتقادات من نظيراتها من المنظَّمات وذلك لاستعدادها للانخراط في برامج "منع التَّطرُّف العنيف" أساساً. وبعبارة أخرى، ينتهي الأمر بـ"منع التَّطرُّف العنيف"- كمثال متطرِّف جدًّا على صناعة تعجُّ بالمصطلحات الغامضة- في فعل خلاف ما يدَّعي قطاع المساعدات والتَّنمية أنَّه يصبو إليه، ألا وهو تمكين اللَّاعبين المحلِّيِّين تمكيناً مؤثِّراً ومستداماً وقائماً على الأدلَّة.
ولذا تساورُ بعضَ المنظَّمات الَّتي يمكنها التَّكيُّف مع أجندة "منع التَّطرُّف العنيف" هواجس كبيرة من القيام بهذا الأمر؛ لأنَّها ترى فيها أجندة غير فعَّالة عادة، أو مفهوماً يعمل على تشويه المجتمعات الَّتي تهدف إلى مساعدتها أو "جعل مسألة الأمن أولويَّة" في هذه المجتمعات، أو كليهما. في الحقيقة يعني التَّوسُّع في المكافحة النَّاعمة للإرهاب أنَّ حصول مجتمع ما على تمويل من أجل التَّنمية يعتمد على الدَّرجة الَّتي تَعدُّ بها الدُّول المانحة ذلك المجتمع مصدراً محتملاً للتَّطرُّف العنيف، وليس على المؤشِّرات التَّقليديَّة لحاجة هذا المجتمع للمساعدة. لقد جرى التَّخلِّي عن مجموعة من الأهداف الأخرى كلِّيًّا، أو أعيدت صياغتها كأولويات ثانويَّة فقط إلى المدى أو الدَّرجة الَّتي قد تمنع عندها الإرهاب، كحقوق الإنسان والدِّيمقراطيَّة والحكم الرَّشيد وتمكين الشَّباب والنِّساء والتَّنمية الاقتصاديَّة وحريَّة التَّعبير، وغيرها من العناصر الأساسيَّة في الأجندة اللِّيبراليَّة الَّتي دامت لعقود من الزَّمن، والَّتي جُنِّدت لخدمة الحرب على الإرهاب، ما أدَّى إلى تآكل الافتراض القائل بأنَّ لأهداف كهذه قيمة في حدِّ ذاتها، وزاد الشُّبهة حولها في عيون المستفيدين المزعومين على أرض الواقع.
إنَّ ذلك أمر غير منطقيٍّ، فحتَّى التَّقارير الَّتي تموِّلها صناعة "منع التَّطرُّف العنيف" تشير إلى أنَّ "التَّطرُّف العنيف" غالباً ما يُختصر إلى مسائل بديهيَّة وشديدة الوضوح، أي السِّياسات القمعيَّة والحكم السَّيِّئ في "العالم الجنوبيِّ" والبطالة الجزئيَّة في البلدان الأكثر ثراءً، ومن الجدير بالملاحظة إذاً كم أصبح صعباً جَعلُ الحكومات الغربيَّة تعترف علناً بالارتباط المثبَت بالتَّجربة والقويِّ بين انتهاكات حقوق الإنسان والحكم السَّيِّئ والاستبداد من جهة، والتَّطرُّف من جهة أخرى، وأن تتصرَّف حيال ذلك. يبدو "منع التَّطرُّف العنيف" وسيلةً لعدم معالجة المشاكل الأساسيَّة؛ لأنَّ ذلك من شأنه أن يزعزع الوضع الرَّاهن.
ما "يجدي نفعاً" بالفعل، بطرق سطحيَّة، هو الإجراءات العسكريَّة الَّتي تُظهر فعالية أكثر بكثير- على المدى القصير- من أيَّة إجراءات لـ"منع التَّطرُّف العنيف". ببساطة، هُزم تنظيم الدَّولة الإسلاميَّة في الوقت الحاليِّ من خلال القصف العشوائيِّ إلى حدٍّ كبير، ما تسبَّب في تدمير واسع النِّطاق للبنية التَّحتيَّة وأوقع عدداً كبيراً من الضَّحايا المدنيِّين. في هذه العمليَّة، لم يُبذَل أيُّ جهد جادٍّ لمعالجة أيٍّ من "الأسباب الجذريَّة" لهذه الظَّاهرة، من قبيل الإهمال الحكوميِّ والتَّمثيل المحلِّيِّ والوطنيِّ الضَّعيف والانتهاكات واسعة النِّطاق على أيدي الأجهزة الأمنيَّة وزحف الفصائل المسلَّحة، وما إلى ذلك.