إن من بين جميع المشاكل التي تواجه لبنان، يمكن القول إن أزمة المياه التي تلوح في الأفق هي الأخطر ... والأسهل تفاديها، فعلى عكس نُدرة الوقود والكهرباء والدولار، يحظى هذا البلد بكثيرٍ من المياه التي تتجدد من خلال هطول الأمطار وتساقط الثلوج؛ غير أن اللبنانيين يعانون من انقطاع مياه الصنبور في الصيف، وارتفاع أسعار الصهاريج التي تعيد ملء الخزانات الموجودة على أسطح منازلهم، ونوباتٍ من الأمراض التي تنتقل عن طريق المياه؛ وهي مشاكل ستتفاقم بفعل ارتفاع درجات الحرارة وتدهور الاقتصاد أكثر فأكثر. لا تأتي هذه المشاكل من أيّ نقصٍ في حدٍّ ذاته، بل من دولةٍ تخلت منذ زمنٍ عن مسؤوليتها عن إدارة هذا القطاع. وفي غياب أي دورٍ للدولة، تصبح المياه في لبنان - واللبنانيون أنفسهم - رهينةً لمقدمي الخدمات من القطاع الخاص ممن يثرون أنفسهم بنهب أحد ثروات الدولة.
يَمنح تجددُ المياه السنويُّ فرصاً كبيرةً لإصلاح
الحال، فبالإضافة إلى المياه نفسها، لدى لبنان مواردُ وفيرةٌ يمكنه الاستفادة منها،
إذ طالما حرص المانحون الأجانب على الاستثمار في هذا القطاع المتعثر، كما أنّ المؤسسات
والجامعات والقرى اللبنانية تزخر بالدراية والمعرفة الفنية. لقد بات تصحيح المسار
اليوم أهمَّ من أيّ وقتٍ مضى، فإذا أراد لبنان أن يتعافى من تدهوره الكارثي، فسيكون
للمياه دورٌ محوريٌّ في تعافي قطاعات الصحة والزراعة والصناعة. ولتحقيق هذا الهدف،
تتمثل الخطوة الأولى في فهم الكيفية التي يجري وفقها إهدار هذا الكنز ونهبه وتحويله
من ميراثٍ وطنيٍّ إلى تهديدٍ خفيٍّ.
الفوضى الوفيرة
يتعلم اللبنانيون منذ الصغر أن تضاريس بلادهم الجبلية
توفر لهم كثيراً من الماء، إذ يغذي الثلج الذي يغطي جبل صنين كثيراً من الينابيع أسفله،
ولا يزال الناس يملؤون القوارير من هذه الينابيع مباشرةً، كما يشق نهر الليطاني
طريقه بين سلسلتي الجبال الغربية والشرقية، فيغذي سهل البقاع الخصب، ويملأ بحيرة القرعون
ذات المناظر الخلابة. كما يوجد المزيد من المياه تحت السطح، حيث تنفذ المياه من
خلال الحجر الجيري المسامي إلى طبقات المياه الجوفية التي استفاد منها السكان
لقرونٍ من خلال حفر الآبار الارتوازية. وعموماً ينعم لبنان بنحو 4.5 مليار مترٍ
مكعبٍ من المياه المتجددة سنوياً، أي أكثر من ضعف ما يستهلكه سنوياً، وهي كميةٌ
تُقدر بنحو 1.8 مليار مترٍ مكعبٍ، وفقاً لتقديراتٍ نشرتها منظمة الأغذية والزراعة
التابعة للأمم المتحدة سنة 2018.
غير أن هذه النعمة طالما تطلبت إدارةً دقيقةً لكي تلبي احتياجات المجتمع لأن هطول الأمطار يختلف اختلافاً كبيراً من موسمٍ إلى آخر، إذ يُقدِّر المجلس الاقتصادي والاجتماعي اللبناني أن الأشهُر الخمسة الأولى من العام توفر ثلاثة أرباع التدفق السطحي السنوي في لبنان، في حين تجلب الأشهر الخمسة الأخيرة أقلَّ من عشرةٍ بالمئة. تعوضُ الأمطارُ الغزيرةُ وذوبانُ الثلوج منسوبَ المياه الجوفية في الشتاء، لكن سرعان ما يعاني البلد من النقص المتواتر في فصل الصيف الجاف، حين تتبخر المياه السطحية، وتجفّ الجداول الموسمية، وينخفض منسوب المياه الجوفية.
يجهز سكان الريف منازلهم للأمطار الغزيرة في "المربعانيات"
دأَبَ اللبنانيون على تطوير عاداتٍ وبنىً تحتيةٍ منزليةٍ لإدارة الهطول الموسمي، إذ لا يزال كبار السن من سكان الريف يترقبون ويجهزون منازلهم لأمطار "المربعانيات" الغزيرة، وهي أول أربعين يوماً من الشتاء، وتمتد من 21 كانون الأول / ديسمبر إلى نهاية كانون الثاني / يناير. كما تلجأ المجتمعات الزراعية إلى عادةٍ عريقةٍ تتمثل في حفر برك الري التي تحتفظ بمياه الأمطار لاستخدامها في ريّ الحقول خلال فصل الصيف، وتبتكر كثيرٌ من الأسر القروية أنظمةً خاصةً بها لتخزين مياه الأمطار، عن طريق توجيهها من أسطح المنازل إلى خزاناتٍ أسفل المنازل.
لكن على الصعيد الوطني، تمثل هذه الممارساتُ الفعالةُ الاستثناءَ لا القاعدةَ، ففي غالب الأمر لا يفعل لبنان الكثير لتسخير ثروة المياه التي تتدفق في ربوعه: في كل عامٍ يضيع أكثر من نصف مياه الأمطار في البحر، وفقاً لدراسةٍ أجراها معهد عصام فارس في عام 2019، والأسوأ من ذلك أن الدولة اللبنانية لا تحرك ساكناً لحماية المياه التي تبقى داخل أراضيها. ويؤدي تهالك البنية التحتية إلى مزيدٍ من الخسائر، كما أنّ التلوث يلطخ تضاريس لبنان الخضراء، ومهما بدت بحيرة القرعون خلابةً من بعيدٍ، إلا أنّ مياهها اليوم ملوثةٌ تلوثاً بات يقتل الأسماك، ويسبب تآكلَ الأنابيب المعدنية، ويصدَّ المواشي التي لا تطيق الشرب منها.
وفي غياب نظامٍ فعالٍ لإدارة المياه، يلجأ بعض
اللبنانيين إلى شكلٍ مدمرٍ من أشكال "الاعتماد على النفس"، فيستغلون كل
ما يتدفق أسفل أقدامهم، غير مبالين بالتكاليف الجماعية. أوضح مزارعٌ في بعلبك أنه ومعظمَ
السكان المحليين لا يترددون في استجرار المياه من الأنابيب العامة التي تتقاطع في
منطقتهم: "لأصحاب الأراضي حقٌ في هذه المياه لأنها تأتي من نبعٍ كانوا
يستخدمونه قبل مجيء الرومان إلى هنا". ويقال إن هنالك المئات من الصنابير غير
القانونية في المنطقة المحيطة، مما يؤدي إلى استنزاف الإمدادات العامة. اشتكى مواطنٌ
آخر من بعلبك من ذلك بقوله:
عندما قررتُ بناء منزلٍ هنا لأول مرةٍ، اقترحتُ على الجيران أن نحفر بئراً يمكن للجميع استخدامه، غير أن معظمهم لا يبالي بالصالح العام؛ فلماذا يتشاركون بئراً وبإمكانهم حفر بئرٍ خاصٍّ بهم؟ ونتيجةً لذلك، فإن النبع الذي نعتمد عليه جميعاً لري أراضينا يجف بسبب الإفراط في النضح.
تشجّع السلطاتُ هذه التوجهاتِ ليس إلا، وذلك من خلال تقاعسها عن ضبط عمليات الحفر الكثيرة وغير المرخصة. في عام 2014، أحصى تقييمٌ رسميٌّ نحو 80 ألف بئرٍ في أنحاء البلاد، أي ما يقرب من ثمانية آبارٍ لكل كيلو مترٍ مربعٍ من مساحة لبنان، وثلاثةُ أرباع هذه الآبار غيرُ قانونيةٍ. وبدلاً من السعي إلى كبح جماح هذا الأمر، ضاعفتِ الدولة من نهجها المتهاون: ففي عام 2018، أكد قانون المياه الجديد في لبنان أن ملاك الأراضي لا يحتاجون إلى تصريحٍ لحفر الآبار في ممتلكاتهم، بشرط ألا يحفروا أكثر من 150 متراً، وألا يضخوا أكثر من 100 مترٍ مكعبٍ في اليوم. ولعلمهم أن هناك القليل من المراقبة، يحفر كثيرٌ منهم أعمق من ذلك، ويستخرجون مياهاً أكثر من الحد المسموح.
تعمل شبكة المياه العامة بطرقٍ مشابهةٍ للغاية، فعلى سبيل المثال، يدفع المشتركون في بيروت مبلغاً سنوياً ثابتاً قدره 340 ألف ليرةٍ لبنانيةٍ، وهو ما يمنحهم من حيث المبدأ الحقَّ في الحصول على مترٍ مكعبٍ واحدٍ من المياه يومياً، لكن من الناحية العملية، هناك القليل من عدادات المياه، ولذا يمكنهم بسهولةٍ استهلاكُ ما شاؤوا منه. اعترف أحد سكان قريةٍ في جنوب لبنان بذلك بقوله: "لا أعرف ما إذا كنا قد تجاوزنا حصتنا، لكننا ربما نفعل ذلك، خاصةً أن لدينا أربعَ أُسرٍ مختلفةٍ مرتبطةٍ باشتراكٍ واحدٍ". كما تفاخر أحد سكان بيروت باستجرار المياه من الشبكة العامة لمدة 15 عاماً دون اشتراكٍ بقوله: "لماذا أدفع المال إذا كان بإمكاني الحصول على الماء مجاناً؟ معظم الناس هنا يفعلون الشيء نفسه، ويحصل سكان المبنى بأكمله على المياه من خلال اشتراكاتٍ لشقتين فقط".
وحتى الصناعات يمكنها استغلال هذا النقص الكبير في الرقابة. أوضح صاحب مصنعٍ للصابون في طرابلس أنه لا يقلق بشأن الحصول على المياه، رغم كونها عنصراً مهماً للغاية في عملية التصنيع، وأضاف: "إنّ سعر المياه من الشبكة العامة ضئيلٌ للغاية لدرجة أنني لا أدرجه في حساباتي". وبالمثل، قد تستهلك المنتجعات السياحية أكثر من حصتها المعقولة من المياه العامة لملء برك السباحة، حتى لو حُرم الجيران من الماء.
الاتجار بالانهيار
إلى جانب كل هذا الاستهلاك غير المقيد، يواجه غالبية اللبنانيين صعوبةً في الوصول إلى المياه، إذ طالما كانتِ الشبكة العامة غيرَ موثوقةٍ لأسبابٍ كثيرةٍ أبرزها النقص المزمن في الكهرباء؛ فلا يستطيع كثيرون الوصول إلى الآبار الخاصة، وأولئك الذين بإمكانهم فعل ذلك مقيدون بتكاليف الوقود وتراجع منسوب المياه الجوفية. لقد أدى هذا المأزق إلى ظهور صناعةٍ مزدهرةٍ من مقدمي الخدمات الخاصة، ممن يحققون الربح من نقص المياه، بتكلفةٍ كبيرةٍ على عامة الشعب.
تعتمد خدمات المياه الخاصة على منطقِ الاستخراج الموصوف أعلاه ذاتِه، وإن كان على نطاقٍ أوسع. تملأ الشركات ورجال الأعمال الصهاريج بالمياه من الآبار التي قد تكون أو لا تكون مرخصةً للاستخدام المنزلي، ثم ينقلونها إلى المباني السكنية، ويضخونها إلى الخزانات الموجودة على أسطح المباني. تأتي الصهاريج عادةً عند الطلب لتلبية حاجاتِ شقةٍ واحدةٍ في كل مرةٍ، مما يجعلها سمةً مألوفةً من سمات الحياة الحضرية، فتراها تعيق حركة المرور، وتهدر محركاتها في خضم ضجيج أبواق السيارات التي يطلقها السائقون المنزعجون.
تنفق الأسر 21 في المئة من ميزانيتها المخصصة للمياه على المياه المنقولة بالصهاريج
إن المجتمع اللبناني خاضعٌ لهذه الصهاريج، ففي عام 2021، أفادت دراسةٌ أجراها مركز Triangle أنّ الأسر تنفق 21 في المئة من ميزانيتها المائية على المياه المنقولة بالصهاريج. ومرةً أخرى، يزداد هذا الاعتماد في فصل الصيف، عندما تتوفر مياه الدولة يوماً أو يومين في الأسبوع فحسب، أو قد لا تتوفر على الإطلاق. أوضح بوابٌ يعمل في مبنىً سكنيٍّ في ضواحي بيروت الجنوبية أنّ كل مبنىً في منطقته قد يحتاج في الموسم الحار إلى ما بين صهريجٍ وثلاثةٍ أسبوعياً، تحمل كلٌّ منها ما بين ألفٍ إلى ألفي لترٍ من الماء.
يعمل هذا القطاع دون إشرافٍ رسميٍّ تقريباً، غير أنه لا يُعد سوقاً حرةً، بل إنه أشبه بمافيا مولدات الكهرباء سيئة السمعة، إذ يحتفظ سائقو الصهاريج باحتكاراتٍ افتراضيةٍ داخل مناطق عملياتهم، وينسقون مع أقرانهم لتشكيل كارتلاتٍ صغيرة الحجم. أوضح سائقُ صهريجٍ سابقٌ في ضواحي بيروت هذا الترتيب غير الرسمي والقوي:
إذا غطى سائق صهريجٍ معينٍ منطقتك، فلن يحاول أيُّ مزودٍ آخر القيام بذلك. يوافق مالكو الصهاريج على عدم التعدي على مناطق بعضهم البعض. لنفترض أنك تعيش في منطقتي، وقررتُ ألا أبيعك الماء - ربما لمجرد أنك لا تروق لي - فيمكنك حينئذٍ الاتصالُ بمزودٍ آخر، وأول شيءٍ سيفعله هذا المزود هو أن يسألك عمن تشتري منه الماء عادةً؛ وذلك أن آخر شيءٍ يريده هو التسبب في مشاكل بيننا، ما قد يؤثر بعد ذلك على عمله هو.
يمكّن غياب المنافسة مقدمي الخدمات الخاصة من التربح والتلاعب في الأسعار كيفما شاؤوا، ففي عام 2016، قدّر فريقٌ من الباحثين في الجامعة الأمريكية في بيروت أنه في الأشهُر الجافة، قد تُنفق الأسرة في العاصمة اللبنانية ما متوسطه 16 في المئة من دخْلها على المياه المنقولة بالصهاريج. كانت هذه التكاليف الباهظة تذهب بعد ذلك إلى جيوب أصحاب الصهاريج الذين - وفقاً للدراسة نفسها - قد يجنون أرباحاً تصل إلى 700 في المئة. صحيحٌ أن هذه الأرقام تغيرت على مدى السنوات الست الماضية، غير أنّ الأساسياتِ ظلت ثابتةً: يضخ المستفيدون غير الخاضعين للمساءلة المياهَ بأقل تكلفةٍ، ثم يقررون حجم الزيادة في التكلفة على الزبائن. علاوةً على ذلك، لا يضمن هذا السعرُ المرتفعُ الجودةَ؛ ففي غياب اختبار صلاحية المياه والمراقبة، يمكن للبائعين اتخاذ خياراتهم الخاصة بشأن تدابير السلامة التي يطبقونها، هذا إن طبقوا أيّاً منها.
كما أن هناك سوقاً فرعيةً غامضةً بنفس القدر تتحكم في مياه الشرب في البلاد، ففي جميع أنحاء البلاد، تبيع المتاجر مياهاً بالغالون يزعمون أنها صالحةٌ للشرب؛ وقد لا يكون هذا الماء في الغالب سوى ماء صنبورٍ جرتْ تصفيته وفقاً لعمليةٍ غير معلَنةٍ وغير خاضعةٍ للرقابة، وهناك أيضاً 42 علامةً تجاريةً مرخصةً تتنافس على المستهلكين من خلال الترويج لمياهها الصحية، إذ تتباهى صنين، التي استمدت اسمها من الجبل المغطى بالثلوج والذي يمكن رؤيته من بيروت، بخلوّ مياهها كلياً من النترات، في حين تزعم شركة "نستله بيور لايف" في إعلاناتها عن وجود عمليةٍ من ثماني خطواتٍ لمراقبة الجودة. وحتى هؤلاء لا يخضعون لسوى القليل من الرقابة اللازمة لنفي أو تأكيد مزاعمهم التسويقية.
وكما هو الحال في قطاع النقل بالصهاريج، ينضح المزودون المياه بسعرٍ رخيصٍ، ثم يبيعونها بسعرٍ مرتفعٍ للمستهلكين الذين لا يملكون سوى خيار الدفع. كشف مديرٌ سابقٌ للاستثمار في وزارة الطاقة والمياه أنّ العلاماتِ التجاريةَ المرخصةَ كانت تدفع أقلَّ بكثيرٍ مما تدفعه الأُسر لكل مترٍ مكعبٍ من الماء، وهو سعرٌ زهيدٌ أصلاً، في ظل مراقبةٍ ضعيفةٍ للاستهلاك الفعلي. أكّد صحفيٌّ استقصائيٌّ ذلك بقوله: "لا أحد يشرف على عمل شركات المياه الخاصة؛ فالوزارة لا تتحقق من العدادات، ولذا وحده الله يعلم مقدار ما يستهلكونه في الواقع". غير أن ما هو واضحٌ هو كم أن هذا السوق مربحٌ: في عام 2019، وجدت دراسة أجرتها شركة Blominvest أن هذه الشركاتِ كانت تبيع ما يقدّر بنحو 800 مليون لترٍ من المياه سنوياً، بإجمالي 300 مليون دولارٍ.
ألقتْ هذه الترتيباتُ عبئاً ثقيلاً على عامة المواطنين حتى قبل وقوع الأزمة الاقتصادية في لبنان. واليوم، يعني ارتفاع الأسعار وانهيار الدخل أن مزيداً من اللبنانيين سيعانون لشراء المياه الخاصة. كما يواجه بائعو المياه تكاليفَ متزايدةً خاصةً بهم - لا سيما الوقود اللازم للضخ والنقل، وهي تكاليف يحمّلونها حتماً لقاعدة عملائهم ممن لا خيار لهم سوى الدفع. قال أكاديميٌّ مرموقٌ متخصصٌ في إدارة المياه: "يعمل القطاع الخاص بطريقةٍ بسيطةٍ للغاية: سيفرض قدر ما يستطيع من السعر، وإذا لم تتمكن من دفع ثمن المياه، فسيجدون من باستطاعته الدفع".
"يعمل القطاع الخاص بطريقةٍ بسيطةٍ للغاية: إذا لم تتمكن من دفع ثمن المياه، فسيجدون من باستطاعته الدفع"
ومما لا شك فيه أن الماء لا غنى عنه، ولذا تضطر أعدادٌ متزايدةٌ من الناس إلى التحايل بطرقٍ تضر بصحتهم وحتى ببنيتهم التحتية، مما يؤدي إلى تكبدهم تكاليفَ خفيةً يتحملها هؤلاء الناس أنفسُهم، وفي النهاية المجتمعُ بشكلٍ عامٍّ. على سبيل المثال، تعتمد الأحياء الفقيرة في المناطق الساحلية على الحفر إلى درجة أن المزيد والمزيد من مياه البحر يتسرب إلى الخزانات الجوفية التي يعتمدون عليها. تحدث أحد سكان الشياح، إحدى ضواحي بيروت الجنوبية، عن تجربته: "نحن لا ندفع أية نفقاتٍ على الإطلاق على المياه لأننا نستخرجها من بئرٍ محليٍّ، لكن الماء شديد الملوحة، وغالباً ما نضطر إلى استبدال الأنابيب والمصارف لأن المياه تتلفها".
وصحيحٌ أن مجتمعاتِ الطبقة الفقيرة هي الأكثر تأثراً بهذه الأزمة، لكن الشرائح الثرية في المجتمع لم تعد بمنأىً عنها، وخاصةً في أشهُر الصيف عندما يصل الطلب إلى ذروته، وينخفض العرض، وترتفع أسعار الطاقة، فحينئذٍ قد يسعى بائعو المياه إلى زيادة الأرباح عن طريق اللجوء إلى حيلٍ خاصةٍ بهم. فلتوفير الوقود، قد يلجأ أصحاب الصهاريج إلى تعبئتها من الآبار الضحلة والملوثة أو حتى من الأنهار والبحيرات، وقد تبخل شركات المياه المعبئة في استبدال المرشحات لتجنب تكاليف شراء مرشحاتٍ جديدةٍ بالعملة الصعبة، وهي حيلٌ قد يترتب عليها تكاليفُ باهظةٌ، لا سيما في شكل أمراضٍ تنقلها المياه، ففي حزيران / يونيو من هذا العام، تفشى التهاب الكبد الوبائي من النوع A، فألمح بذلك إلى ما قد تحمله الأيام القادمة من تبعاتٍ. وفي ظل كثرة هذه القصص، قد يتساءل حتى أكثر الناس حظاً، في راحة مساكنهم الفخمة ومنتجعاتهم الفاخرة، عما يشربون بالضبط، وبم يستحمون، وفي أيّ ماءٍ يسبحون.
دولةٌ ذاويةٌ
إنّ المَخرج من هذا المأزق واضحٌ بقدر ما هو بعيد المنال: باختصارٍ، يحتاج لبنان إلى دولةٍ لإصلاح إدارة هذا المورد الثمين وتنظيمه، لكنّ السلطاتِ في الوقت الحالي لا تبدي أيّ اهتمامٍ بالقيام بذلك، بل على العكس، يبدو أنها اليومَ أقلُّ اهتماماً بهذا القطاع من أيّ وقتٍ مضى، في اللحظة التي تشتد فيها الحاجة إليها، رغم أن الحال لم يكن كذلك دائماً.
كانتِ المياه في الواقع إحدى الدعائم غير المعروفة في بناء الدولة اللبنانية في السنوات التي أعقبتِ استقلالَ البلاد في عام 1943. فكما هو الحال في أيّ مكانٍ آخر في العالم العربي ما بعد الاستقلال، أعدّتِ الحكومة اللبنانية الوليدة كثيراً من الدراسات والاستراتيجيات ومشاريع البنية التحتية بهدف تطوير إدارة المياه وجعلها إدارةً مركزيةً، ومن أبرز هذه المشاريع تشييد سدٍّ بارتفاع 60 متراً على نهر الليطاني لإنشاء بحيرة القرعون: وهي خزانٌ ضخمٌ كان يشغّل في أوجِه ثلاثَ محطاتٍ لتوليد طاقةٍ كهرومائيةٍ توفر الطاقة لمعظم لبنان. تولى الإشرافَ على هذه المشاريع الطموحة جهازٌ إداريٌّ قويٌّ: فقد أُنشئت وزارة الموارد المائية والكهربائية في عام 1966 لتنظيم هذا القطاع من خلال 22 مكتباً للمياه مسؤولةً عن التوزيع لجميع أنحاء البلاد.
غير أن الحرب الأهلية في لبنان أخرجت عملية التنظيم هذه عن مسارها، فقدِ انقسمت إدارة المياه، حالها حال معظم الجوانب الأخرى للحوكمة وتقديم الخدمات، إلى إداراتٍ لامركزيةٍ ومفككةٍ، وانتقلتِ المهام اليومية من أيدي السلطات المركزية إلى أيدي طبقةٍ جديدةٍ من 209 لجانٍ محليةٍ نادراً ما كانت ترفع تقاريرها إلى الوزارة. في غضون ذلك، عُلّقتِ الاستثمارات، وتضررت محطات الضخ، وتفككتِ الشبكات القائمة. دفع هذا الاضطرابُ الذي رافق الحربَ مزيداً من الناس إلى حفر الآبار، وبذا زرعوا بذور "الحرية للجميع" التي استمرت حتى يومنا هذا.
بعد الحرب، سعتِ النخب اللبنانية إلى إعادة فرض سيطرتها على الجوانب الأكثر ربحاً من هذا القطاع، في حين أهملت كل شيءٍ آخر. قبل كل شيءٍ، كان هذا يعني جذب الأموال من الدول الأجنبية المستعدة لتمويل مشاريع البنية التحتية الكبيرة: بدايةً؛ كجزءٍ من حملة إعادة الإعمار في التسعينات، ولاحقاً وسط تدفق المساعدات الأجنبية التي رافقت الصراع السوري وتدفق اللاجئين. بين عامي 1992 و 2006، خُصص ما لا يقل عن ملياري دولارٍ لمشاريع المياه في البلاد وفقاً لدراسةٍ نشرها معهد عصام فارس. وفي عام 2018، تقدمتِ الحكومة بطلبٍ للحصول على قروضٍ بقيمة 6 مليارات دولارٍ لبناء سدودٍ جديدةٍ. هذه المشاريع متوافقةٌ مع نموذجٍ اقتصاديٍّ قائمٍ على الريوع والمحسوبية، وذلك أنها تجذب العملة الأجنبية التي يمكن للفصائل الحاكمة تقسيمها بين أنصارها في الحكومة والقطاع الخاص، واستخدامها لتمويل الوظائف والاستثمار والخدمات في أجزاء البلاد الموالية لكلٍّ منها.
تتلكأ السلطات في أداء واجبها، لتنتزع المزيدَ من المساعدات في حين تقوم بأقل قدرٍ ممكنٍ من العمل
كان حرص السلطات على بناء السدود باستخدام أموال المانحين يقابله عدم رغبتها في إصلاح وتنظيم قطاعٍ يعاني من الفوضى؛ فعلى الرغم من التحفيز السياسي المستمر والحوافز المالية من الرعاة الدوليين، استغرق الأمر عقداً من السلام قبل أن تضع الدولة قانوناً جديداً يَعِدُ بدمج المؤسسات اللبنانية في أربع مؤسساتٍ مائيةٍ إقليميةٍ، ثم انتظرتِ السلطاتُ خمسَ سنواتٍ أخرى قبل أن تصدر، في عام 2005، المراسيمَ اللازمةَ لتطبيق هذا القانون. استمرت هذه الدورة في السنوات التي تلت ذلك، إذ يطالب المانحون بالإصلاحات والسلطات تتلكأ، بهدف الحصول على المزيد من المساعدات مع بذل أقلّ قدرٍ ممكنٍ من العمل.
وبين هذا وذاك، يسود الارتباك وسوء الإدارة قطاع المياه الذي يكتنفه الغموضُ ويشوبه الهدرُ، فمثلاً لا يزال التعامل مع مياه الصرف الصحي واحداً من المسؤوليات المتداخلة بين سلطات المياه الإقليمية واللجان المحلية والبلديات، مما يمكّن المديرين فيها من التنصل من واجباتهم، أو على العكس من ذلك، يتنافسون على الموارد والمكاسب البيروقراطية. رسم باحثٌ ذائعُ الصيت في قطاع المياه في لبنان هذه الفوضى بقوله:
قامت بلدية "عليّ النهري" قرب زحلة بإعادة تأهيل وتشغيل شبكة المياه في منطقتها، لكنّ مؤسسة البقاع الإقليمية حاولت تولي تحصيل الرسوم والرقابة الإدارية. في بعض الأحيان، ترغب المؤسسات في تحمّل جميع المسؤوليات لأنّ ذلك يزيد من تمويلها؛ وفي حالاتٍ أخرى تفعل العكس لأنها تريد عملاً أقل.
وغالباً ما يبدو أن الهيئات العامة لا تبالي كثيراً بأساسيات إدارة المياه، إذ ثمة فجوةٌ كبيرةٌ ناتجةٌ عن تقاعس السلطات عن تحصيل رسوم الاشتراك التي ينبغي من حيث المبدأ أن تغطي تكاليف العمليات اليومية، لكن من الناحية العملية، تختلف معدلات التحصيل اختلافاً كبيراً: من 79٪ في بيروت إلى 32٪ في البقاع، وذلك وفقاً لاستراتيجية الحكومة الوطنية لقطاع المياه لعام 2020. علاوةً على ذلك، لا تزال هذه الفواتير مسعرةً بالليرة اللبنانية، ما يعني أن قيمتها لا تساوي شيئاً مقارنةً بتكاليف إدارة قطاعٍ يعتمد على المعدات والوقود المسعّر بالدولار. وأما الحكومة المركزية فإنها لا تفعل شيئاً يُذكر لسد هذه الفجوة: ففي عام 2020، لم يُخصص لوزارة الكهرباء والماء إلا ما نسبته 0.38٪ وحسب من إجمالي ميزانية الدولة، وذلك وفقاً للمعهد المالي في بيروت.
خُصص لوزارة الكهرباء والماء ما نسبته 0.38٪ فحسب من إجمالي ميزانية الدولة
في الظروف المثالية، يجب أن تفرض الأزمة الحالية إعادة نظرٍ طال انتظارها، من جانب كلٍّ من الحكومة اللبنانية والداعمين الأجانب الذين دعموا نظاماً معطوباً منذ زمنٍ. لكن بدلاً من ذلك، يحدث العكس، فمع ارتفاع الاحتياجات ونضوب خزائن الدولة، يعتمد قطاع المياه على دولارات المساعدات أكثر من أيّ وقتٍ مضى. في مؤتمرٍ عُقد العامَ الماضي، أقرّ المدير العام لمؤسسة مياهٍ جنوبَ لبنان بأن مكتبه لا يمكنه شراء المعدات لولا الأموال المقدمة من الوكالات الدولية مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية واليونيسيف، كما أقرّ مدير مؤسسةٍ أخرى بذات الأمر سراً بقوله: "لولا ما نتلقاه من دعمٍ من منظمات الإغاثة الدولية، ما استطعنا الاستمرار في العمل، فنحن ننفق أكثر من 10 آلاف دولارٍ يومياً كتكاليفَ تشغيليةٍ يسددها أولئك الشركاء!"
في الوقت الحالي، ما من خيارٍ أمام المانحين سوى الاستثمار في حلولٍ سريعةٍ تبطئ انهيار قطاع المياه العام في لبنان؛ فقد دقتِ اليونيسف ناقوس الخطر ضد هذا الاحتمال بالذات قبل عامٍ من الآن، وأطلقت تدخلاً بقيمة 40 مليون دولارٍ كيلا تفقد المجتمعاتُ الضعيفةُ إمكانيةَ الحصول على المياه، وتولت تكاليفَ الوقود وقِطعَ الغيار وصيانةَ البنية التحتية العامة. غير أن التفكير في تمويل هذه الخدمات الأساسية إلى أجلٍ غير مسمىً مسألةٌ تؤرق المانحين، فهم يحذّرون من أن المال سوف ينفد في نهاية الأمر. في غضون ذلك، تُمكّن هذه الجهودُ الدولةَ من التنصل أكثر فأكثر من مسؤولياتها الأساسية، في حين يتعرض موردٌ عامٌّ للنهب لتحقيق الربح الفردي.
***
إذا كان لدى لبنان حالياً كلُّ الموارد التي يحتاجها لإصلاح حاله، فلن تدوم هذه الموارد إلى الأبد. فمع مرور الوقت، سيصبح المانحون أقلَّ تسامحاً، وكذلك الطبيعة الأم، فوسط ارتفاع درجات الحرارة، وانخفاض هطول الأمطار على مستوى العالم، ستتقلص الفرص من عامٍ إلى آخر، وستنفد المياه، وكذلك رأس المال البشري، كما أن قدامى المحاربين في هذا القطاع يتقدمون في السن، وسيواصل نظراؤهمُ الأصغرُ سناً الهجرة بأعدادٍ متزايدةٍ.
ولذا حان الوقت لجميع أطراف هذه الأزمة لاستكشاف نهجٍ جديدٍ. يقع جل العمل على عاتق الدولة، بالرغم من ضآلة ما يمكن توقعه منها. غير أن خطواتٍ بسيطةً يمكن أن تُحدث فرقاً كبيراً. يجب أن تبدأ السلطات بتنظيمِ الأسعار التي يفرضها المستفيدون الذين يسدون النقص، وبفرضِ ومراقبةِ حدٍّ أدنى من معايير النظافة على أصحاب الصهاريج وشركات التعبئة، وقياسِ أشكال الحفر الكبرى قياساً دقيقاً؛ ولا شيء من ذلك كلِّه يتجاوز قدرة المؤسسات اللبنانية، حتى الواهية منها، في ظل ما تحظى به من دعمٍ سخيٍ من الرعاة الأجانب. ولذا يجب على هؤلاء الرعاة أن يفعلوا المزيد للتشديد على أن الدعم المستمر سيعتمد على إحراز تقدمٍ ملموسٍ على جميع هذه الجبهات.
كما أن للمجتمع دوراً لا بد من تأديته. صحيحٌ أن عامة اللبنانيين لا يستطيعون حلّ المشاكل الهيكلية التي تسبب الضرر الأكبر لقطاع المياه، لكنّ يمكنهم البدء باتباع ممارسات تتحلى بحرصٍ أكبر وتعاون أوثق إزاء المياه، هذا المورد والمشكلة التي يشترك فيها الجميع؛ ويمكن تحقيق ذلك باتخاذ إجراءاتٍ بسيطةٍ منها الكفُّ التدريجي عن الهدر، أو اتخاذُ إجراءاتٍ أكثرَ طموحاً، كاستبدالِ الآبار الفردية بآبارٍ مشتركةٍ، أو تجريب سبلٍ لمساعدة بعضهم البعض في لحظات النقص، أو بدءِ محادثات مع السلطات المحلية لإيجاد حلولٍ جماعيةٍ لندرة المياه وتلوثها. ولا شك أن تغييراتٍ كهذه لن تكفي لإصلاح النظام المختل في لبنان، لكن يمكنها مساعدة مجتمعاته في الصمود في غضون ذلك. حين يحمي اللبنانيون ثرواتِهمُ الطبيعيةَ، ولو بطرقٍ بسيطةٍ، فإنهم بذا يدعمون مورداً أساسياً آخر: الروابط الاجتماعية التي طالما ساعدتهم في تجاوز الصعاب والمضي قدماً.
18 كانون الأول/ديسمبر 2022
أجرى مرتضى الأمين بحثاً في قطاع المياه في لبنان لمدة عامين، بصفته باحثاً في شبكة سينابس.
الصور والرسومات: صورٌ التقطها كاتبُ المقال بنفسه لأنابيب مياه في البقاع الغربي، ولأغنامٍ على ضفة بحيرة القرعون، ولمحطة الغدير لمعالجة مياه الصرف الصحي، ولبركةٍ في قريةٍ في الجنوب، ولبحيرة القرعون. الصور مرخصةٌ بموجب المشاع الإبداعي.