المدينة التي لم تعلم نقطة الانطلاق

أزمات طرابلس المتجددة

أليكس سايمون

لا شيء يعيب طرابلس، المدينة الثانية في لبنان ومعين الإمكانات الاقتصادية الذي لا ينضب. مع ذلك، و بكل وضوح، لا شيء فيها على ما يرام. إنها المكان الذي يملك جميع مستلزمات النجاح دون أن ينجح فيه شيء. تتمتع المدينة ببنية تحتية متينة، وبتاريخ تجاري غني، وبثروات محلية تصل إلى مليارات الدولارات، ناهيك عن أصول ثقافية تنافس أي مدينة أخرى في العالم العربي. لكن بعد عقود على نهاية الحرب الأهلية، ما يزال كل ذلك حبراً على ورق، فيما تشتهر المدينة اليوم وقبل كل شيء بمستوى فقرها وبجولات العنف التي تضرب شوارعها بشكل متفرق.

يكمن تفسير هذه المفارقة في بيئة المدينة، لا المدينة نفسها. يبدو أن الديناميات الوطنية والإقليمية وحتى العالمية تتكدس وتتحول إلى أعباء مستعصية على عاصمة لبنان الشمالية. أمنياً، شهد العامان الماضيان حالة من الهدوء الهشّ، غير أن  والركود الاقتصادي اللذين طالما جلبا الويلات على المدينة ما يزالان على حالهما. الآن طرابلس معلقة في حالة غريبة من الفراغ، و لا يقدم أحد إجابات مقنعة حول متى أو كيف ستقف المدينة على قدميها بعد تعثرها الطويل.

من مركز تجاري إلى طريق مسدود

سرعان ما يتعمق الطرابلسيون في الحنين لأمجادهم الغابرة، فيستحضرون أيام التجارة البحرية التي أثرت المدينة، قبل أن تصبح بيروت باريس الشرق بزمن طويل، بالإضافة إلى بساتين المدينة وحقول زيتونها ومعامل صابونها وصناعاتها الخشبية الشهيرة، و صورة رومانسية  للكوزموبوليتانية التي سادت قبيل الحرب. أما التاريخ ينبض في شوارع المدينة. قلعة طرابلس الشامخة مدهشة كغيرها من قلاع المنطقة؛ و تطل على سوق متعرج ومترامي الأطراف لا نظير له في لبنان و التي  تقود إلى المسجد المنصوري، الذي يعود إلى القرن الثالث عشر. في الساحة الرئيسية يقع برج الساعة، الذي أهداه السلطان العثماني عبد الحميد الثاني للمدينة قبل أكثر من قرن، أيام كانت عاصمة إقليمية ذات شأن في إمبراطورية ضمت معظم العالم العربي الحالي وأجزاء من أوروبا الشرقية.

لكن في ذات الوقت، تنافس هذه الفخامة التاريخية دلائل صارخة على انحسار المدينة. تعد طرابلس القديمة واحدة من أكثر مناطق لبنان فقراً، فيما تظهر ندوب الحرب على مبانيها من خلال آثار الرصاص. ومنذ عام 2014 يحتل القلعة جنود لحفظ السلام، والذين يفوق عددهم عدد السياح –في يوم جيد– بمرتين على الأقل. ولعل أبلغ رمز إلى حال المدينة محطة القطار، والتي ما تزال خارج الخدمة منذ بدايات الحرب الأهلية (بين 1975 و1990)، بأطلالها وخمولها والعشب النامي على جوانبها، فهي اليوم مقبرة لبقايا القطارات الصدئة التي كانت ذات يوم تربط ميناء طرابلس بأسواق بيروت وسوريا وغيرهما.

من الصعب تحديد البداية الدقيقة هذا الانحسار. كان اندلاع الحرب الأهلية المنعطف الأوضح، وتحديداً الاحتلال السوري الذي بدأ عام 1976 واستمر تسعة وعشرين عاماً. ولأنها مدينة ذات أغلبية سنية اتصفت في هذه الفترة بوجود متزايد لحركات إسلامية مسلحة، تعرّضت المدينة لأبشع أشكال التنكيل على يد الجيش السوري، والذي كان يخوض حملة وحشية على جماعة الإخوان المسلمين في سوريا.

لم تُدمّر الحرب مرفأ طرابلس. كان هذا فعل الصين

لكن حتى قبل الحرب كانت الديناميات العالمية تسير في غير مصلحة طرابلس. كان زوال الإمبراطورية ونشوء لبنان الحديث بداية نهاية الهيمنة الاقتصادية التي تمتعت بها طرابلس العثمانية؛ فمع منتصف القرن العشرين برزت بيروت كمركز ثقل السلطة السياسية والاقتصادية، وكان ذلك على حساب طرابلس. كذلك بدأت سوريا في السبعينات بتطوير ميناء طرطوس، ما قوّض بالتدريج الدور الذي كانت تلعبه طرابلس في ربط الداخل السوري بالبحر المتوسط. في الوقت نفسه، رغم أن المدينة استفادت من الصناعة إلى حد ما، إلا أن التكنولوجيا والعولمة –كما دائماً– كانتا سيفاً بحدّين، فالسلع الرخيصة وتكاليف التجارة المنخفضة قضيا على امتيازات التصنيع والاستيراد والتصدير التي كانت تتمتع بها طرابلس. «لم تُدمّر الحرب مرفأ طرابلس. كان هذا فعل الصين»، يقول أحد اقتصاديي طرابلس.

بحلول نهاية الحرب الأهلية، راحت المدينة المعروفة بوزنها الاقتصادي ونزعتها المدينية المنفتحة تنغلق على نفسها، بينما ترزح تحت الاحتلال وتتمزق بفعل العنف. خلال ثمانينيات القرن الماضي راح خليط عجيب من الفصائل السنية –بما في ذلك مجموعات فلسطينية وميليشيات يسارية وحركة التوحيد الجهادية– تقتتل فيما بينها أو تتوحد ضد ميليشيات جبل محسن ذي الأغلبية العلوية والتي كانت تدعمها سوريا.

وهكذا استؤصلت الإمكانات الاقتصادية لطرابلس، ليس تماماً بفعل العنف بل أيضاً بفعل هجرة شرائح كبيرة من الطبقة العالية وكبار تجار المدينة، والذين شكلوا لفترة طويلة العمود الفقري الاقتصادي للمدينة، حيث تركوا وراءهم مدينة محطمة يقطنها فقراؤها وأبناء القرى المهاجرون إليها. وكان لعزلة المدينة المتزايدة أن فاقمت من الخسائر الناجمة عن هجرة رؤوس الأموال، ليس فقط عن الداخل السوري بل أيضاً عن بيروت، فقد تسببت الحرب بتعطيل السكة الحديدية التي كانت ذات يوم تربط بين عاصمتي لبنان.

ورغم بعض الانفراج الذي شهدته أزمات لبنان في زمن السلم، إلا أن جروح طرابلس تركت لتتقيّح. فقد ألقى رئيس الوزراء آنذاك رفيق الحريري وزنه وطموحاته العقارية في إعادة الإعمار، ولكن مع محاباة كاسحة لصالح العاصمة. إزاء ذلك، وبدلاً من أن يؤدي الجلاء السوري عام 2005 إلى الدفع نحو إعادة تصور لدور طرابلس الاقتصادي، أدى الفراغ الذي تركه الاحتلال إلى المزيد من الاضطرابات. فقد وجّهت أطراف خارجية –خليجية غالباً– بالأسلحة والأموال، وأوصلتها عبر النخب الوطنية إلى أيدي الشيوخ والمسلحين المحليين، الذين راحوا يتنافسون، أحياناً بالعنف المسلّح، من أجل حصة لهم في أحياء المدينة الفقيرة. بعبارة أخرى، بينما استقطبت بيروت مليارات الدولارات لإعادة إعمارها بعد الحرب، ذهبت معظم حصة طرابلس من المال إلى السلاح ورعاية الميليشيات.

ذهبت معظم حصة طرابلس من المال بعد الحرب إلى السلاح ورعاية الميليشيات

لذا فقد كانت طرابلس تعيش حالة يرثى لها حتى قبل 2011، يوم أغرقت الانتفاضة السورية بأمواجها المزلزلة المدينة وأدخلتها مرحلة جديدة من الاضطراب. من جهة، أفرز النزاع السوري استقطاباً حاداً بين موالي ومعارضي النظام السوري من اللبنانيين، الأمر الذي تأثرت به طرابلس بشدة، حيث شهدت شوارعها اشتباكات متفرقة بين ميليشيات جبل محسن العلوية وفصائل حي باب التبانة المجاور للجبل. فى الوقت نفسه وصل حوالي 70 ألف لاجئ سوري إلى قلب مدينة لا يتجاوز عدد سكانها 500 ألفاً، وقد تمركز معظمهم في المناطق الأشد فقراً حيث الخدمات الأساسية والأسواق العقارية منهكة أصلاً.

وبالإضافة للانقسام السياسي وآثار النزوح، كان للأزمة السورية أثر آخر لا يقل أهمية و ان كان أقلّ وضوحا ، هو تغذية الشعور بالاضطهاد الذي كان كامناً بالأصل. فقد أثارت الانتفاضة السورية تضامناً واسعاً في شوارع طرابلس، وهي مدينة تربطها بحمص وحماة روابط تاريخية أمتن من أي شيء يربطها ببيروت – بالرغم من ذكرياتها المريرة مع نظام دمشق. «كانت طرابلس ستقف مع الشعب السوري بكل تأكيد»، يقول أكاديمي من المدينة: «سوريا جزء منا». ولم يكن من المفاجئ أن يؤدي التوحش الذي سقطت سوريا فريسة له إلى شعور بالغ بالمظلومية. وبينما كان الأسد يقصف المناطق المتمردة عليه بالبراميل المتفجرة، كان مقاتلو حزب الله يعبرون الحدود ليشاركوا إلى جانبه في المعركة. وبينما شاهد سنة طرابلس المذبحة عن بعد، كانوا يعرفون تماماً أن مصير أي سني ينضم إلى المعارضة إما أن يموت في سوريا أو أن يقبض عليه بتهم تتعلق بالإرهاب عند عودته.

أزمة هوية متعددة الرؤوس

بعد عقود من التدهور، تجد طرابلس نفسها اليوم في براثن أزمة هوية متعددة الطبقات، تمتزج فيها الضوائق الاقتصادية مع السياسية مع الاجتماعية وتعزز بعضها بعضاً. غالباً ما يصف الطرابلسيون مدينتهم بأنها تعيش حالة من الفوضى؛ لكنهم بالمقابل يشيرون إلى أن من المستحيل تحديد حاجة المدينة بدقة، فهي –باختصار– «بحاجة إلى كل شيء».

سيطر الصمت على المكان

من بين أبرز ما تعاني منه المدينة هي فقدانها منذ فترة طويلة أي حس بالتوجيه الاقتصادي. يعبر عن ذلك رجل أعمال وسياسي طرابلسي ثري (من مكتبه في بيروت): «لقد تبخرت قدرات طرابلس القيادية في شمال لبنان. نحن متأخرون في كل القطاعات و المجالات». تبقى الصناعة ذكرى بعيدة تحوم حول مستودعات فارغة، بينما تحتكر بيروت التجارة البحرية إلى حد كبير. الطريق جنوباً نحو العاصمة يخنقه الزحام، أما الطريق شرقاً نحو سوريا والخليج فقد أغلقته الحرب بشكل شبه كلي. قد تحمل السياحة في ساحل المدينة ومعالمها الثقافية الغنية بعض الوعود، إلا أن قصص العنف التي تروى عن المدينة تجعل السياحة مسألة غير واردة حالياً.

وفي الوقت نفسه، تقدر مستويات الفقر بحوالي 50%. ومع الركود الذي تشهده المدينة، فإن أحلام حاملي شهادات أكثر من اثنتي عشرة جامعة خاصة تبدأ من المغادرة نحو بيروت أو إلى ما وراء البحار؛ أما الفقراء فلا تصل أحلامهم إلى ذلك الحد، فيكتفي الكثير بالتسرب والبحث عن عمل في اقتصاد غير رسمي يقدر –على ما يقال– بـ70% من إجمالي النشاط التجاري في المدينة. هذا بينما يهاجر آخرون بطرق غير رسمية، فيسلكون الطرق الخطيرة اليائسة نفسها التي يسلكها السوريون الهاربون من بلادهم (وإن على نطاق أضيق بكثير).

هذا الانغلاق الاقتصادي القاتم هو الشريان الذي يتنفس منه العمل الميليشيوي. رغم ميل السرديات الغربية واللبنانية إلى اعتبار طرابلس معقل المتعاطفين مع السلفية الجهادية، إلا هذا الاعتبار أكثر رومانسية بكثير مما تحفل به المدينة من شقاء. ففي أوقات السلم، يشتري الزعماء المحليون أصوات الناخبين الفقراء عبر شراء أئمة مساجد ، والذين يقدمون بدورهم أفكاراً متشددة تضرب على وتر الإحباط المحتدم بين جماهيرهم. أما في أوقات العنف، فينجرف الشباب المفقر وراء أمراء الحرب –المعروفين شعبياً باسم «قادة المحاور»– المحظيين لدى شبكات دعم وطنية (ودولية) تقوم بتمويلهم. بالنسبة لأفقر فقراء المدينة، لا بأس أن يجازف المرء بحياته في سبيل بضع مئات من الدولارات.

لكن النزعات المتشددة تبدو أنها مجرد أعراض لا أمراض

لا شك أن لسياسات الهوية والتطرف الديني دوراً أساسياً في كل ذلك، ولا شك أن الجماعات الجهادية وجدت لنفسها جيوب دعم في السنوات والعقود الأخيرة. لكن النزعات المتشددة، كما هي دائماً، مجرد أعراض لا أمراض. يعبر أحد الممثلين الطرابلسيين عن الجماعة الإسلامية (الإخوان المسلمون في لبنان) عن هذا الواقع ببراعة: «البيئة الطرابلسية ممغنطة. من السهل جداً تحريك الناس».

أما البعد الاجتماعي لأزمة الهوية الطرابلسية فذو جذور أعمق. من الناحية الدينية، تنجرف المدينة –أو على الأقل أجزاء منها– نحو مزيد من المحافظة، وذلك لأسباب عدة ليس أقلها جهود شيوخ لا يتوقفون عن المزايدة في التشدد على بعضهم البعض. ورغم وجود دار الفتوى، وهي هيئة حكومية تشكل نظرياً الإطار الرسمي للحياة الدينية في المدينة، إلا أن تأثيرها الفعلي محدود في أحسن الأحوال، ما يترك مساحة متشرذمة يتنافس فيها الشيوخ على ولاء الشباب الباحثين عن قضية. يوضّح هذه النقطة أحد الأكاديميين بقوله: «من يجنحون إلى التطرف متدينون، لكن تدينهم ذو طابع شعبي بسيط؛ أما ذلك الإسلام فجديد على طرابلس عموماً، إنه أمر دخيل وسطحي».

لا تتوقف الانقسامات عند هذه النقطة. فهناك فجوة صارخة بين أغنياء وفقراء طرابلس، وهي المدينة التي تضم بعض أشد اللبنانيين فقراً جنباً إلى جنب مع نخبة من أصحاب الملاييين. كذلك ثمة فجوة بين الطرابلسيين «الأصليين» وأولئك القادمين من الريف (أو النازحين من سوريا) الذين ينظر إليهم على أنهم استوطنوا المدينة المنفتحة وغيروا وجهها. يعبّر عن ذلك أحد السكان بقوله «لقد بتنا نسير في الشارع ولا نميز الوجوه، لم نعد نتعرف على مدينتنا»، فيما يعرب أحد المراقبين عن أسفه من «انتشار الريبة كالطاعون».

هناك بعد آخر للتشوش الطرابلسي، وهو البعد السياسي. ففي حين يمكن تعريف السياسة في لبنان بالفصائلية والجمود، يبدو المشهد الطرابلسي فوضوياً بامتياز. وبما أنها أكبر مركز مديني بأغلبية سنية في لبنان، دون وجود أية مجموعة سياسية تتمتع بالصدارة الواضحة، فهي تمثل ساحة تنافس محموم بين مختلف الزعماء السنة في البلاد. يؤدي هذا التنافس إلى آثار هدامة واسعة النطاق، بدءاً من العنف في الشوارع بين ميليشيات ترعاها النخب وانتهاءً بالشلل التام للمجلس البلدي. ولا تزيد مركزية النظام اللبناني هذا الشلل إلا تعقيداً، فالبلدية التي تعاني أصلاً من الجمود مضطرة للحصول على موافقة المركز البيروتي قبل تمرير أي مشروع مهما كان اعتيادياً.

تمثل  طرابلس ساحة تنافس محموم بين مختلف الزعماء السياسيين

لقد ظهر مستوى الإحباط الشعبي حيال هذه الأوضاع بشكل جلي في الانتخابات البلدية في أيار 2016، حيث تمكن سياسي دخيل على مشهد المدينة مثل أشرف ريفي من تشكيل قائمة انتخابية هزمت التحالف الواسع للنخب المحلية التقليدية. اتسمت حملة ريفي بالشعبوية والضرب على عصب الهوية؛ فبعد أن استقال من منصب وزير العدل احتجاجاً على نفوذ حزب الله في الحكومة، قدم الوزير السابق نفسه كمدافع عن سنة لبنان في وجه القمع الداخلي والخارجي. علاوة على ذلك، رسم لنفسه صورة الرجل العادي المناهض للنخب – بينما يحيط خصومه أنفسهم بالمساعدين والمستشارين، كان يقوم هو شخصياً بالرد على هاتفه. وقد علق على ذلك أحد الصحفيين قائلاً: «اعتمد النخب على الديكتاتورية السياسية، أما ريفي فاعتمد على التواضع السياسي».

وكما هي عادة  الشعبوية ، كان انتصار ريفي تنفيساً أكثر مما كان تأسيسا. ما تزال المدينة هائمة، ولم يتمكن أي طرف من وضع رؤية متماسكة لكيفية وقوف المدينة على قدميها عد عقود من الانحدار يراهن المتفائلون على انحسار العنف في سوريا قريباً، ما سيفتح أمام طرابلس –وميناءها غير المستثمر ويد عملها العاطل عن العمل– باباً واسعاً للمشاركة في إعادة الإعمار. لكن مع ذلك تبقى إعادة الإعمار مسألة رهان متوسط الأجل في أفضل الأحوال، وحجم المشاركة الطرابلسية ما يزال غير واضح بعد.

مدينة في الرمال المتحركة

تزداد مأسوية الوضع بالنظر إلى وفرة الموارد المتاحة لطرابلس. ميناء المدينة هو أبرز الأمثلة على الأصول الاقتصادية غير المستغلة، فرغم أنه يستطيع التخفيف عن ميناء العاصمة المكتظ، ما تزال السياسات المتمركزة حول بيروت تعيق الجهود الرامية إلى تعزيز دور طرابلس التجاري. ثمة خطط جارية لتطوير الميناء بقروض أجنبية، مع تعزيزه بمنطقة اقتصادية خاصة لتحفيز الصناعة الطرابلسية والاستثمار الأجنبي المباشر فيها، وبالتالي خلق آلاف فرص العمل. لكن حتى المتفائلون يشددون على أن المنطقة الاقتصادية الخاصة بحاجة إلى ثلاث سنوات على الأقل لكي تؤتي ثمارها؛ وإلى ذلك الحين، قد يتوقف المشروع أو يتعثر بفعل أي عراقيل سياسية أو أمنية قد توضع في طريقه. يعلق على ذلك أحد ممثلي المنطقة الاقتصادية الخاصة: «كل الطرق المؤدية إلى أي شيء بنّاء في لبنان محفوفة بالعقبات».

أربعون عام من التوقف

المثال الآخر على وجود إمكانات غير مستغلة في المدينة هو معرض رشيد كرامي الدولي، وهو مبنى حداثي شاسع يمتد على مساحة مليون متر مربع، وقد أنشئ في الأصل ليكون ملتقى مسؤولين و رجال الأعمال الأجانب. بعد أن صممه المعماري البرازيلي الشهير أوسكار نيماير في الستينات، سرعان ما توقف عن العمل بعد اندلاع الحرب عام 1975. وقد شهد المعرض خلال السنوات الأخيرة مزيجاً من الاضطراب المتواتر والإجراءات الإدارية اللامنطقية، ما ألحق المزيد من الخراب بهذا المرفق وجعل من شبه المستحيل وضعه في الخدمة قريباً. و  رمز آخر يدلّ على تدهور المدينة في  هوفندق "كواليتي إن" المتضعضع الذي يقع إلى جانب المعرض، فمالكوه متأخرون عدة سنوات عن دفع متوجباتهم المالية.

الأغرب من البنية التحتية غير المستخدمة قدر تحملها في المدينة هو الثروة الهائلة التي راكمتها الأسر الغنية عبر عقود. ثمة زمرة من أصحاب الملايين –وحتى المليارات– من رجال الأعمال والسياسيين تحوم فوق (أو في معظم الأحيان خارج) المدينة، في حين تذهب معظم استثماراتهم في أعمال خيرية غير منتجة. في أفضل الأحوال، يخدم هذا الواقع الاستثماري الوظيفة المزدوجة المتمثلة بتعزيز شبكات الولاء مقابل تأمين مجموعة من الخدمات كالرعاية الصحية والتعليم لأشد سكان المدينة احتياجاً؛ أما في أسوأ الأحوال فإن هذا الواقع يؤدي إلى عسكرة الحياة العامة وتسلط زعماء عصابات المعتمدين على المال والسلاح القادمين من الأعلى. ما لا يؤدي إليه هذا الواقع هو دفع المدينة بأي شكل من الأشكال نحو النمو والإنتاج. ورغم أن كثيرين يستهجنون هذه الدينامية ويرون فيها حالة طفيلية، يدافع آخرون عنها باعتبارها الوضع الطبيعي. «القضية ليست قضية نية حسنة أو نية سيئة، بل قضية مصالح»، كما يشرح أحد رجال الأعمال. فالاستثمار في مدينة تعاني من العزلة والاضطراب ينطوي على مخاطر كبيرة وعوائد غير مضمونة.

المثال الأخير على إمكانات المدينة، وإن كان مثالاً بلا ملامح واضحة، هو المشاركة المحلية التي يزخر بها المجتمع الطرابلسي. هناك العشرات –إن لم يكن المئات– من الجمعيات المحلية التي نشأت خلال السنوات القليلة الماضية. وقد تعززت المبادرات المحلية بملايين الدولارات التي ضخها مانحون غربيون ومنظمات دولية جهدت لتخفيف تداعيات الحرب السورية من نزوح و ما يسمى بال« تطرف العنيف». لكن حتى القطاعات الإنسانية والتنموية تعاني من نوع من الفوضى: تتصف طرابلس ببيئة مزدحمة بالممولين والجمعيات تسعى نحو غايات متعاكسة، في حين يندر التنسيق وتغيب الرؤية حول كيفية مراكمة تغيير جذري ومستدام بدلاً من ذاك المجزأ وسريع الزوال.

مصدر لأكاذيب ممكنة مع تنامي الانخراط المحلي بين الطرابلسيين

في هذا الصدد وغيره، تبدي طرابلس حيوية كبيرة لكن دون أي تغير ملموس: الكثير من الإنفاق والجهود والقليل من التقدم. لعل أبرز الأمثلة على هذه النزعة أعمال «التدريب المهني» في المدينة، وهي حالة فريدة من الكفاح العبثي الذي يبدأ بالمانحين، الذين يجندون الجمعيات المحلية، التي تقوم بتجهيز المتدربين للدخول في أسواق عمل غير موجودة أساساً. وبينما تحصل قلة قليلة للغاية على وظيفة بعد التدريب، يعود الآخرون لإعادة تعلم المهارات نفسها التي لا وظيفة لها، بينما يقبضون الأجور الزهيدة التي يحصلون عليها أثناء التدريب.

جزء من هذه الديناميات المحبطة يعود إلى المشاكل الجمة التي تعاني منها طرابلس، لكن أيضاً إلى غياب التواصل بين العاملين على معالجتها. من جهة أخرى لا تقل أهمية، تعكس هذه الديناميات حجم التشوش التي تعيش على إيقاعه طرابلس، حيث تطوّقها حرب في بلد آخر وتحكمها في بلدها دولة هي في أحسن الأحوال غائبة وفي أسوأ الأحوال ظالمة. يقول ناشط في حي باب التبانة الفقير «لدينا الكثير من الإمكانات والطموحات هنا، نحاول استغلالها لكن الأمور تبقى معقدة. أنا هنا، أعمل هنا وأطلب المساعدة، لكني أعيش في رمال متحركة. يمكن للمنظمات الدولية أن ترمي لنا حبال إنقاذ من حين لآخر، لكن في نهاية المطاف نحن بحاجة إلى دولة تمدّ يدها إلينا».

صورة مصغرة ضمن صورة مصغرة

وفي حين أن هذا التيه يبقى من نوع خاص في طرابلس، إلا أنه لا يشكل حالة فريدة على الإطلاق. بالعكس، تلخص قصة طرابلس تاريخ القرن الماضي في لبنان والشرق الأوسط عموماً. كما يقول صحافي طرابلسي: «أهم ما تجب معرفته بخصوص طرابلس أنها صورة مصغرة: للأحداث خارجها صدى يتردد داخلها». فكغيرها من مدن المنطقة، تعرضت طرابلس لهزة عنيفة إثر رسم خرائط العالم ما بعد العثماني؛ ثم مرت مع منتصف القرن بعصرها الذهبي، أيام التعايش والانفتاح، والتي ينظر إليها نظرة رومانسية اليوم مع قدر غير قليل من الحسرة مؤخراً؛ ثم لم تلبث أن دفعت أثمان الانهيار السياسي، والذي توجه الاستقطاب الطائفي وتوالد الأحزاب والميليشيات في البلاد؛ وأخيراً ضربها زلزال الانتفاضات العربية، والذي لم يكد ينجُ ركن من أركان المنطقة من آثاره.

كذلك فإن اتساع اللامساواة، وهيمنة السياسة النخبوية، والركود الاقتصادي، وترسانة الثروات غير المنتجة، هي كلها مرايا لأزمات شبيهة نراها على مستوى المنطقة، وهي بطريقة أو بأخرى توازي بعض الديناميات الاجتماعية والاقتصادية التي تشكل الأحداث في أميركا وغيرها في العالم الغربي. وقد أشار أحد الطرابلسيين بالفعل إلى التشابه التكتيكي بين أشرف ريفي ودونالد ترامب، فكلاهما استقطب شرائح ترزح تحت أحاسيس المظلومية عبر خطاب شعبوي حاد اللهجة. وكذلك يمثل شباب طرابلس صورة مصغرة لشباب الإقليم، من حيث لا يجدون لأنفسهم سبيلاً سوى بيروت، أو الخارج، أو اقتصاد غير رسمي مدقع وغير مضمون.

وكغيرها من مدن المنطقة، طرابلس مبنية بطريقة تنفّر رأسمالها البشري

وكغيرها من مدن المنطقة، طرابلس مبنية بطريقة تنفّر رأسمالها البشري، فالنجاح يعني واحداً من خيارين: الهجرة، أو العثور على وسيلة بقاء على شكل أموال تأتي من الخارج.  تجتذب المدينة أموال و اهتمام، لكنه ليس بشكل منتج أو مستدام. ومنذ عقود كان الاحتواء هو الهدف الأبرز لتدخل الخارج: ترى بيروت منذ فترة طويلة أن ازدهارها مرتبط بانحسار طرابلس؛ تدخل قوات النظام السوري طرابلس لمنع سكانها من التأثير على الصراع الذي كان دائراً في سوريا؛ واليوم تنخرط الجهات المانحة الغربية لمحاولة الحد من مخاطر الفقر والتطرف. لكن لا يمكن لتحييد المكان والسكان أن يحل مشكلات متأصلة؛ قد يمكن تغطية هذه المشكلات مؤقتاً لكنها ستعود ذات يوم وبشكل أسوأ حتماً من ذي قبل.

لا داعي لانتظار الفرج على شكل مخلّص يأتي من بيروت أو من الخارج وينتشل طرابلس من انحسارها المديد. إلا أن هناك، ربما، كتلة حرجة من الناس الذين يدركون إمكانات المدينة، والذين يمكن لجهودهم أن تتضافر وتسير بالمدينة إلى الأمام. اليد العاملة العاطلة عن العمل، والثروات المحلية الضخمة، والبنية التحتية الرخيصة والوفيرة، والدعم الأجنبي الجاد إنما العشوائي، وروح المبادرة الكامنة في جيوب المجتمع المدني والقطاع الخاص… ينبغي أن تكون هذه الفرص أكثر من كافية، إلا أنها ما تزال في الوقت الحالي معزولة عن بعضها البعض، ما يجعل طرابلس أضعف بكثير من مجموع قدراتها.

ما تحتاجه المدينة، إذن، جهة أو جهات تتمتع بالرؤية والقدرة على تجميع تلك العناصر. لا أحد يمكنه أن يجزم من هي تلك جهة: لا تعاني طرابلس من نقص في رجال الأعمال والناشطين، أو في المسؤولين المعنيين بالعمل من أجل المدينة، أو في المانحين الأجانب الطامحين إلى ترك أثر إيجابي على حياة السكان. على الأرجح أن أفضل فرص طرابلس تتمثل بتقارب الجهات الفاعلة للتركيز على والاستفادة من الممكنات، الآن وهنا، بدون الغرق في حنين لماضي المدينة أو تعليق الآمال على انبعاث مستقبلي من تحت رماد الحرب السورية كطائر الفينيق. يكمن التحدي المباشر أمام طرابلس في إعادة تعريف نفسها –بشكل واقعي ووفق شروطها الخاصة– لكي تضع إمكاناتها الوفيرة في حيز الاستثمار.

30 كانون الأول/ يناير 2017

أليكس سايمون: مؤسس مشارك ومدير فريق سوريا.

قام بالترجمة للعربية فريق دوكستريم.

تم استخدام الصور مع الامتنان من:
 cover photo by Dina Debbas; outdoor auditorium by Chloe Domat; indoor structure by the author. 


محتوى ذو صلة