وعدٌ ولا يقينٌ
لقد دفعت التناقضاتُ في السياسة التركية مجموعاتٍ مختلفةً من السوريين إلى سلك مساراتٍ متباينةٍ تبايناً صارخاً. في أحد طرفي الطيف، مكّنت سياساتُ أنقرة المشجعة للأعمالِ التجارية وحمْلةُ التجنيس أقليةً من السوريين من الاستقرار، بل والازدهار، غير أن الغالبية العظمى لا يزالون معلّقين في الزمن في ظلّ غيابِ أيّ مسارٍ واضحٍ نحو الاستقرار. يلاقي كثيرون صعوباتٍ في تأمين لقمة العيش، ويعملون بأجورٍ بخسةٍ وبدون شبكة أمان. تقول الصحافية الدمشقية في إسطنبول: "ينتهي الأمر بمعظم السوريين ممن لا ينتمون لعائلاتٍ تجاريةٍ ميسورةِ الحال إلى العمل في مصنعٍ قذرٍ"، وتقول إنها استفادت من علاقات والدها التجارية. أدّت سياسات تركيا إلى تفاقم هذه الفجوة من خلال تقديم الفرص لأقل السوريين حاجةً لها.
كما يرى عدد كبير من أبناء الطبقة الدنيا في تركيا مكاناً يودّون الفرار منه بأسرع ما يمكن، أكثر مما يرون فيها وطناً. أوضح شابٌّ من دير الزور قضى خمس سنواتٍ في العمل بصورةٍ غير رسميةٍ في الأراضي الزراعية التركية أن "معظم السوريين الفقراء مقتنعون بأن تركيا لن تسمح لهم بالاستقرار أبداً، لذا يواصل هؤلاء الناس البحثَ عن سبيلٍ للوصول إلى أوروبا". إن قصته مثالٌ على ذلك، فقد اقترض مؤخراً المالَ من الأصدقاء والعائلة ليدفعه للمهربين.
ويمكن تلمّس هذا التناقض لدى السوريين من الطبقة الوسطى: فمن ناحيةٍ، تركيا هي الدولة التي استقبلتهم وأفسحت لهم المجال لكسب لقمة العيش، وقد تستوعبهم رسمياً من خلال التجنيس، أما من الناحية الأخرى، غالبية المجتمع التركي لا يريدهم، وليس هناك ما يؤكد أنهم سيتحولون يوماً ما من ضيوفٍ غير مرّحبٍ بهم إلى مواطنين بالمعنى الكامل للكلمة. شرحَ المهندس المعماري الدمشقي في اسطنبول تأثيرَ غياب الاطمئنان على خُطط السوريين، حيث يفكر هو نفسه بالهجرة إلى أوروبا، على الرغم من تعلمه التركية وحصولِه على دخلٍ ثابتٍ:
تضعنا السياسة التركية في موقفٍ شديد الغموض، فليس لدينا معاييرُ واضحةٌ لمعرفة أين نقف، وهذا أحد الأسباب التي دفعت الكثير من الناس للهجرة إلى أوروبا عبر قنواتٍ خطيرةٍ للغاية، وفي ذلك بعضُ المنطق. سأركب قارباً، فإن متُّ، فهذا قَدَري، وإن لم أمت، فسأحصل على الجنسية الألمانية. إن من غادرَ تركيا عن طريق البحر في عام 2015 يعودون اليوم كزوارٍ بجوازات سفرهم الأوروبية.
تؤدّي المشاعرُ المعادية للسوريين في المجتمع التركي إلى مفاقمة هذا الشعور باللايقين، الذي يبلغُ ذروتَه أثناء الانتخابات أو إبّان حوادث العنف. يقولُ كاتبٌ من مدينة الرقة يعيش الآن في أورفة: "إنْ تورّطَ أحدُ السوريين في مشكلةٍ، فإن ذلك سينعكس علينا جميعاً. قبل بضع سنوات وقعتْ حادثةٌ قتَلَ فيها سوريٌ تركياً في أورفة، فظلّ جميع السوريين على إثرها حبيسي منازلهم لعدة أيام، وأغلقت المتاجر السورية أبوابها". في رأي البعض، لا تغذّي كراهيةُ الأجانب الشعورَ بالغربة فحسب، بل الخوفَ كذلك، وفي ذلك يقول الصحفيٌ من ريف دمشق: "حياة السوريين رخيصةٌ هنا. في كلَّ أسبوعٍ أو أسبوعين هناك قصةٌ جديدةٌ عن مقتلِ سوريٍّ بسبب خلافٍ ما."
والمفارقة هي أن السوريين يصبحون جزءاً لا يتجزأ من تركيا
وما يزيدُ القلقَ هو الظنّ بأن الرمال السياسية في تركيا قد تتحرك بطرقٍ تعرّضُ السوريين لمزيدٍ من الخطر، إذ يساورُ القلقُ البعضَ من أن الانتخابات العامة في تركيا لعام 2023 قد تزيح حزبَ العدالة والتنمية عن السلطة وتؤدي إلى ظهور أحزابٍ معارضةٍ تُجاهر بعدائها للاجئين. قال الصحفي من ريف دمشق: "إذا فازت المعارضة، فقد أُجبَرُ على العودة إلى سوريا. وإذا عدتُ، فقد أموت". وسواءٌ كانت عمليات الترحيل الجماعي ستحدث أم لا، فإن هذا الاحتمال يلوح في الأفق أكثر من أي وقتٍ مضى في أذهان من يشعرون بالضعف أصلاً.
والمفارقة هي أن السوريين يصبحون جزءاً لا يتجزأ من تركيا على الرغم من سعي الكثيرين لمغادرة هذا البلد. إن عملية الاستيعاب هذه عمليةٌ ارتجاليةٌ ومنفصلةٌ عن أية رؤيةٍ حكوميةٍ لِما يجب أن يكون عليه الوجود السوري. أوضحَ شابٌّ سوريٌّ يعملُ مع مؤسسةٍ تركيةٍ في اسطنبول كيف أن مئات الآلاف من الأطفال السوريين المسجلين في المدارس التركية يندمجون أكثر مما يفعل ذووهم:
نحن السوريين نتغير، لكننا لا نندمج في المجتمع التركي. على العكس من ذلك، غالباً ما أشعر أن المجتمَعين السوري والتركي ينغلقان على نفسيهما. قد يعيشُ السوريون والأتراك بجوار بعضهم البعض، لكنهم لا يتبادلون التحية، وجُلّ ما نتمناه هو ألا يضربوا بعضهم البعض في الشارع. إنها مسألة تسامحٍ لا اندماجٍ.
لقد راح كثيرٌ من السوريين يتعلمون اللغة التركية، لكن معظمنا لا يفعل ذلك بجديةٍ باستثناء الأطفال الذين أصبحوا بارعين في اللغة التركية بحيث يصعب تمييزهم عن الأتراك. أشعر أن أطفالنا سيصبحون أتراكاً أكثر من كونهم سوريين، فلدى الطفل الذي ولد في ريف إدلب ونشأ وترعرع في إسطنبول ما يربطه بإسطنبول أكثر مما يربطه بريف إدلب.
وحتى أولئك الذين يأملون مغادرة تركيا تراهم غالباً ما يعترفون بإيجابيات البلاد، إذ يقرّون بأن تركيا تبنّت موقفاً أكثر سخاءً من الدول الأخرى التي سارعت إلى إغلاق حدودها أو منعت السوريين من العمل على أراضيها. كما يُشيدُ الكثيرون بتطور البنية التحتية التركية، وأحياناً يرون أن تركيا تبدو كدولةٍ أوروبيةٍ أكثر من كونها دولةً شرقَ أوسطيةٍ. وبالإضافة إلى كون حداثة تركيا نعمةً، فإن قربها الجغرافي والديني من سوريا يُعدُّ بمثابة بلسمٍ لمن يخشون غربة المنفى في أوروبا.
والنتيجة أنه فيما يبحث كثيرٌ من السوريين عن مخرجٍ من تركيا، يبحث آخرون عن سبيلٍ لدخولها. ففي لبنان، ينظرُ عدد متزايد من السوريين إلى تركيا على أنها دولةٌ مضيفةٌ أكثر استقراراً وأقلُّ عدائيةً، كما ويؤدي التباطؤُ الاقتصادي في دول الخليج والقيودُ المفروضة على العمالة الوافدة إلى زيادة عدد السوريين الذين ينتقلون إلى تركيا، ويرى من يأمل القدوم إلى تركيا أنها توفر متنفساً أكبر مما قد تكون البلدان الأخرى مستعدةً لتقديمه.