لا هنا ولا هناك

السوريون في تركيا، معلّقون في الزمن

أليكس سايمون

 يمكن القول إن تركيا هي أكثرُ الدول التي تستضيف اللاجئين السوريين كرماً، ففي السنوات الأولى للثورة فتحَ هذا البلد بابه على مصراعيه أمام اللاجئين السوريين، ليفوق عددهم في تركيا عددَهم في بقية دول العالم مجتمعةً، كما وفّرت تركيا منصة انطلاقٍ للمعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري، وملاذاً آمناً ومربحاً للطبقة التجارية التي فرّت من الحرب الدائرة في بلادها.

غيرَ أن كثيراً من السوريين يرون في تركيا بَرْزَخاً أكثر من كونها وطناً، إذ يعتمد معظمهم على مصادر رزقٍ غير مستقرّةٍ في اقتصاد البلاد غير الرسمي، وغالباً ما يصعب على ذوي الوظائف الثابتة من الطبقة الوسطى تصوَّرُ مستقبلهم في هذا البلد بفعل المشاعر المعادية للسوريين والسياسات الحكومية التي تبدو مصمَّمةً خصيصاً لمنعهم من المكوث أطول من فترة الضيافة. 

والعلاقة الناتجة عن ذلك متضاربةٌ وفُصامية، فبينما تتأرجح تركيا بين احتضان السوريين ورفضهم، يحار السوريين أنفسهم بين السعي للاستقرار في هذا البلد أو المضي قدماً في رحلة اللجوء. وتروي هذه الحالة من عدم اليقين قصةً أكبر، ففي جميع أنحاء العالم اليوم، تتقطّعُ السبلُ بأعدادٍ متزايدةٍ من الناس بينما تتضاءل ​​احتمالات وصولهم إلى وجهتهم أو العودة من حيث أتوا. هي ذي حكايةُ من كُتب عليهم أن يُقتَلعوا من جذورهم في عالمنا اليوم. 

الأخوة الغرباء

في صيف 2011، وفيما راح النظام السوري يقمع الاحتجاجات السلمية والتمرد الناشئ، فرّ السوريون بالآلاف عبر حدود بلادهم الشمالية، وحينئذٍ أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التضامن الأخوي على الملأ بقوله: "سنُبقي أبوابنا مفتوحةً على الدوام لإخواننا وأخواتنا السوريين"، وهو إعلانٌ يكمنُ خلفه قرونٌ من التاريخ المشترك، أضف إلى ذلك التعاطفَ واسعَ النطاق مع الثورة السورية داخل تركيا وفي كافة أنحاء الشرق الأوسط. تمسّك أردوغان وحزبه "العدالة والتنمية" بهذا الوعد الكبير حتى عام 2016، عندما بلغَ عدد السوريين الذين استجابوا لدعوته نحو مليونين ونصف.

في ظاهر الأمر هنالك كثيرٌ من الأسباب وراء هذه الأُلفة بين المجتمعين السوري والتركي، فالبلدان يشتركان في حدودٍ تبلغ نحو 900 كيلومترٍ تمتد من ساحل البحر المتوسط ​​إلى نهر دجلة، وهي حدودٌ مستحدَثةٌ رُسمت إبّان انهيار الإمبراطورية العثمانية. كما أن شمال سوريا كان أكثر ارتباطاً بالأناضول منه بدمشق طيلة القرون التي سبقت ظهور هذه الحدود، فمدينة حلب، أكبرُ مركزٍ تجاريٍّ وصناعيٍّ في سوريا، تدينُ بثقلها الاقتصادي لارتباطها بمدنٍ غدت جزءاً من تركيا اليوم، فإلى الغرب من المدينة، أتاح ميناء إسكندرون لحلب الوصول إلى البحر المتوسط​​، ومن ثم إلى أوروبا. وأما إلى الشمال الشرقي من المدينة، كانت مدن الأناضول مثل أورفا وماردين وديار بكر محطاتٍ على الطريق المؤدية إلى المراكز التجارية الواقعة على طول نهر دجلة، ولا سيما الموصل. وعلى الجانب الشرقي منها تقعُ منطقة الجزيرة التي سكنتها لقرونٍ من الزمن قبائلُ بدويّة وشبهُ بدويّة كانت تتنقلُ بسلاسةٍ عبر ما غدا اليوم أراضيَ حدوديةً.

ظهرت هذه الروابط واضحةً عندما راحت موجاتٌ من السوريين تسعى لملجأٍ في الشمال، فبفعل تزايد الإجرام وانعدام الأمن، توجّهَ أصحابُ رؤوس المال الحلبيون إلى غازي عنتاب، حيث يتمتّع كثيرٌ منهم بعلاقاتٍ شخصيةٍ وتجاريةٍ، كما وجدَ سكانُ الرقة ودير الزور الأمان في ولاية أورفة، حيث أقاربهم الذين اعتادوا زيارتهم منذ أمدٍ طويلٍ، أو على الأقل يمكنهم فيها التواصل بأريحيةٍ مع السكان المحليين الذين ينحدرون من أصولٍ عربيةٍ. تحدّث صحفيٌّ من الرقة يعيش الآن في اسطنبول مع زوجته وابنه بنبرةٍ تشي بالحنين إلى العلاقة التي ربطت مسقط رأسه بجنوب تركيا قبل عام 2011:

كان عبورُ الحدود سهلاً للغاية حينئذٍ، فلم يكن عليك سوى إبراز جواز سفرك، وكان كرمُ الوفادة سمةَ الأتراك على الدوام. كان السوريون محبوبين، كما أن بلدتَي أقجة قلعة التركية وتل أبيض السورية قريبتان جغرافياً واجتماعياً من بعضهما البعض لدرجة أن كثيراً من السوريين يطلقون على أقجة قلعة "تل أبيض التركية."

ومثلما ساهمت العلاقات الممتدة قروناً من الزمن في رسم ملامح الهجرة، فإنها كذلك أثّرت في سياسة الباب المفتوح التي تبنتها الحكومة التركية؛ إذ سعى حزب العدالة والتنمية بعد وصوله إلى السلطة عام 2003 إلى التقارب السياسي والاقتصادي والروحي مع البلدان ذات الأغلبية المسلمة، ومن بينها سوريا برئاسة بشار الأسد، وقد مثّلت هذه الخطوة قطيعةً متعمّدةً مع المسار الذي سلكته تركيا بُعيد انهيار الدولة العثمانية ونأي حكومة مصطفى كمال أتاتورك بتركيا عن الهوية الإسلامية والأراضي العربية التي كانت يوماً ما جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، ولذا مثّلَ انخراطُ تركيا في الثورة السورية امتداداً منطقياً لطموحات أنقرة لاستعادة دورها القيادي للعالم الإسلامي.

كثيراً ما يُبالَغ في عمقِ هذا الإرث وفي تجميله

غير أن كثيرين يميلون إلى المبالغة في الثناء على هذا الإرث، ففي الوقت الذي عادت أنقرة ودمشق إلى الانفتاح على بعضهما البعض في بداية الألفية الثالثة، كان ما يقرب من قرنٍ من القطيعة والتنافس قد أدى إلى تآكل جلّ الألفة التي ربَطَت المجتمعين ذات يوم؛ كما ترافق ظهور الدولة القومية الحديثة في كلٍّ من تركيا وسوريا مع تعمّد كل دولةٍ ذم الأخرى والتشهير بها، وفي ذلك يقول مُخرجٌ دمشقيٌّ: "في مناهجنا الدراسية علّمونا أن تركيا كانتِ المحتلَّ العثمانيَّ والبلدَ الذي سلبنا لواءَ إسكندرون"، وهي منطقةُ تنازعٍ شديدٍ كانتِ القوى الاستعمارية الفرنسية قد سلختها عن سوريا سنة 1939.

فيما خلا المناطق الحدودية، قلّما احتك شعبا البلدين ببعضهما البعض، باستثناء السوريين من أصولٍ تركيةٍ والأتراك المتدينين الذي تعلموا اللغة العربية من خلال دراستهم للدين الإسلامي، وفي ذلك تقول امرأةٌ تركيةٌ أمريكيةٌ ذاتُ تجربةٍ فريدةٍ من نوعها باعتبارها تركيةً علمانيةً تربطها علاقاتٌ وثيقةٌ مع سوريا: "قبل عام 2011، لم يسمع غالبية الأتراك من اللغة العربية إلا ما جاءهم منها من خلال الدِّين، فذات مرّة أرسلتُ ذات مرةٍ أغنيةً شعبيةً عربيةً إلى إحدى صديقاتي التركيّات، فسألتْ بتعجبٍ: آه! هل هذا من القرآن؟"

ولا يزال هذا الإرث المختلط والمتضارب واضحاً للعيان، وفي ذلك قالت صحفيةٌ دمشقيةٌ وصلت إلى اسطنبول في عام 2012: "يبدو الأمر كما لو أن الأتراك يغيّرون موقفهم تجاهنا بين يومٍ وآخر". إن هذا الصحفية مستقرةٌ ما استطاعت، فقد تخرجتْ من جامعةٍ محليّةٍ وتعلّمتْ اللغة التركية، وحصلتْ على الجنسية التركية، ولا تنوي مغادرة هذا البلد، غير أن الشعور بالغربة ما زال يلازمها، فتضيف: "لا يعرف الأتراك إذا كان ينبغي عليهم أن يحبونا لتاريخنا المشترك، أم يكرهوننا لأننا عربٌ قذرون نجلبُ الخراب أينما حللنا."

الاحتواء والتغريب

في المراحل الأولى من الثورة، وفيما كان عُود المعارضة السورية المسلحة يقوى ويشتدُّ، ونظام الأسد يتقهقر أمامها، كان الأمل يحدو السوريين ومضيفيهم الأتراك بأن تنتهي الحرب قريباً، فيتسنى للاجئين العودة لديارهم، ولكن بحلول عام 2016، أثبتتِ الديناميات خارج حدود تركيا خلافَ ذلك، فقد أدّى تدخل موسكو في سوريا إلى ترجيح الكفة لصالح نظام الأسد، أما أوروبا فقد أغلقت حدودها، ما أضعفَ فرصَ وصول اللاجئين إليها. 

وفيما راحت سُبل الهجرة تضيق أكثر فأكثر، كانت العلاقة بين السوريين والأتراك تزداد سوءاً، فبالإضافة إلى الحساسيات القديمة، برزت أسباب توتر لحظيةٌ وأكثرُ واقعيةً، كحاجز اللغة الكبير، والسياسات المعادية للأجانب، والتنافس على الوظائف منخفضة الأجر، إلى أعمالِ العنف المتفرّقة (من الجرائم الصغيرة إلى هجمات داعش). أدّت هذه العوامل إلى تغذية المشاعر المعادية للسوريين وتفاقم الاستياء من وجودهم في تركيا، وفي ذلك يقول شابٌّ سوريٌّ يعيش مع عائلته في ولاية هاتاي الحدودية: "ينعتنا الأتراك بالجبناء، ويقولون إننا تخلينا عن بلدنا، وأن علينا العودة إليه والقتال من أجله". كما يرفض كثيرٌ من الأتراك تأجير منازلهم للسوريين، وإثر ازدياد جرائم الكراهية، راحت بعض الشركات التي يملكها سوريون تقدّمُ نفسها على أنها لبنانيةٌ بغرض الحماية.

من جانبها لم تقم السلطات التركية بما يكفي لسدّ الفجوة بين اللاجئين ومضيفيهم المتوجسين من وجود السوريين في بلدهم. لقد رحّبت أنقرة بالسوريين بحفاوةٍ بالغةٍ، لكنها لم تصغْ رؤيةً لانسجامهم مع المجتمع التركي، وعوضاً عن الاعتراف بهم كلاجئين، عدتّهم الدولةُ التركيةُ "ضيوفاً"، وهي تسميةٌ غير ملزِمةٍ تركت السؤال مفتوحاً حول المدّة التي يُسمح لهم فيها بالبقاء، والحقوق التي سيتمتعون بها في هذه الأثناء. كان هذا الإطار متساهلاً للغاية في بادئ الأمر، إذ تمتع السوريون بحرية كبيرةٍ في التنقل وكسب لقمة العيش، سواءً مَن رخّصوا شركاتٍ ومنظماتٍ غيرَ حكوميةٍ، أو مَن عملوا بصورة غير رسميةٍ. قال مهندسٌ معماريٌّ دمشقيٌّ انتقل إلى اسطنبول في عام 2013: "في بادئ الأمر كان نهجُ تركيا قائماً على إظهار التسامح لا على صنع السياسات، فهي لم تضع لنا نظاماً، بل تجاهلت ذلك كلياً."

لم يكن في هذا النهج المتسامح أيُّ منطقٍ باستثناء الافتراض بأن هذا التدفق السكاني - الأكبر في تاريخ تركيا الحديث - سيكون قصير الأجل. وفيما راح الواقع يتكشف أكثر فأكثر، تشبّث كثيرٌ من كلا الجانبين بوهم العودة الوشيكة. ثم ما لبثت أنقرة أن أعادت صوغ آمالها بأن ملايين السوريين سيعودون قريباً إما منتصرين أو على الأقل إلى "مناطق آمنة" اقترحت تركيا إقامتها على الجانب الآخر من الحدود. وبالمثل، ظل الاشتياق إلى الوطن يلازم بعض السوريين، وفي ذلك يقول عاملٌ في منظمةٍ غير حكوميةٍ من ريف دير الزور يعيش الآن في أورفة شارحاً علاقته المتضاربة بمكانٍ وجد فيه راحته، لكنه لا يدري إن كان بإمكانه الاستقرار فيه:

عندما وصلتْ عائلتي إلى هنا عامَ 2014 وبدأتْ تبحثُ عن بيت تسكنه، كان أصحاب العقارات يسألون عما إذا كنا نريد الاستئجار سنوياً أم شهرياً، فنُجيب أنه سيكون شهرياً لأننا أردنا أن نظلَّ مؤمنين بالعودة الوشيكة إلى سوريا. وبعد ست سنواتٍ، ما زلنا نقول الشيء ذاته: شهرٌ واحدٌ فحسب. لا أستطيع أن أجبر نفسي على الشعور وكأنني في بيتي هنا، فأنا أحن إلى حياتي في قريتي، وأعلم أن هناك فرصةً ضئيلةً للعودة في غضون السنوات العشر القادمة، فأنا لست مطلوباً من قبل النظام فحسب، بل وكذلك من قبل داعش والسلطات الكردية [التي تسيطر على شمال شرق سوريا].

بقصدٍ أو بغير قصدٍ، ضربَ السوريون جذورهم في تركيا ببطءٍ، ولكن بثباتٍ، عبر استئجار المنازل، وإنجاب الأطفال، والتسجيل في المدارس والجامعات، وتعلُّمِ ما يكفي من اللغة التركية ليتدبروا أمرهم. أما أنقرة فقد أبقت إنشاءَ السوريين للشركات أمراً في غاية السهولة، ما يعكس أيديولوجيا حزب العدالة والتنمية التاريخية المشجّعة للأعمال التجارية والنهج البراغماتي للاستفادة من الإمكانات الاقتصادية. قال تاجرٌ سوريٌّ متحدّثاً من مكتبه في بلدة الريحانية التركية الحدودية: "لقد حصلتُ على ترخيصٍ لتأسيس شركتي في غضون ساعتين تقريباً." ورغم أنه ينحدر من بلدة تقع بالقرب من لبنان، فقد اختار هذا التاجر أن يقوم برحلةٍ أطول إلى مكانٍ يحمل وعوداً أكبر. ويضيف قائلاً: "لبنان مكانٌ مرهقٌ ومزعجٌ لمزاولة الأعمال التجارية، ففيه القليل من وسائل الحماية، وكل شيءٍ فيه متعلقٌ بالمعارف والصلات الشخصية. أما تركيا فيسود فيها القانون."

أعاد ملايينُ السوريين تشكيلَ بعضٍ من النسيج المحلي

مدعومين بهذه البيئة، وجدت أعدادٌ متزايدةٌ من التجار السوريين – متمرّسين ومبتدئين على حد سواء - سُبلاً لإعالة أنفسهم من خلال البيع بالتجزئة والتصنيع وتقديم الخدمات، وقد أدى ذلك في بعض الأحيان إلى خلق تنافسٍ بين المتاجر والمطاعم السورية والتركية، وفي أحيانٍ أخرى قلّصت المصالحُ المشتركة المسافةَ بين السوريين والأتراك، وفي ذلك يقول رجلٌ سوريٌّ تصنع ورشتُه في غازي عنتاب الملابسَ الجاهزة: "لقد تعلّمنا من اللغة التركية ما يكفي للتعامل بفعاليةٍ مع الآخرين في قطاع عملنا". ورغم افتقاره للخبرة السابقة، اختار هذا الرجل هذا المجال كوسيلةٍ عمليةٍ لكسب لقمة العيش، وأضاف: "كما أن الأتراك يتعلمون بعضاً من اللغة العربية لإنجاز العمل التجاري مع السوريين، وأحياناً يقصدنا جيراننا لطلب المشورة بشأن كيفية مزاولة الأعمال التجارية باللغة العربية."

وإذ سلكَ ملايينُ السوريين سبلَهم الخاصةَ إلى أركانٍ شتّى من تركيا، فقد أعادوا تشكيل بعضٍ من النسيج المحلي. لم تشكّل غازي عنتاب، المدينةُ الواقعةُ في الجنوب الشرقي، والتي تشتهر بالبقلاوة والفستق، ملاذاً للشركات السورية فحسب، بل عاصمةً فعليةً للمعارضة والمجتمع المدني السوري كذلك، وهذا ما أوضحه عاملٌ في منظمةٍ غير حكوميةٍ من وسط سوريا بينما كان يقود سيارته بجوار شقته في منطقةٍ سكنيةٍ كثيفةِ الأشجار بقوله: "يغصُّ هذا الحيُ بموظفي المنظمات السورية غير الحكومية."

هذه التحولات واضحةٌ في جميع أنحاء البلاد، وفي ذلك يقول مفكّرٌ عربيٌّ عاش في دمشق لعقودٍ: "في معظم المدن التركية، ترى منطقةً واحدةً على الأقل وقد جعلها السوريون منطقةً خاصةً بهم". لقد صَنعَ هذا المفكّر لنفسه منزلاً مؤقتاً في اسطنبول، لا سيما لكي يبقى على اتصالٍ بأصدقائه الذين فرّوا من سوريا. ويقول إن السوريين تركوا بصماتهم في هذه المدينة الضخمة التي يبلغ عدد سكانها خمسة عشر مليون نسمةٍ، ويضيف قائلاً: "يبدو الأمر كما لو أن السوريين أعادوا هندسة حي الفاتح بأكمله، ففيه ترى متاجرَ وعلاماتٍ تجاريةً لا تتوقع أن تجدها إلا في دمشق."

أذرعٌ مفتوحةٌ وقبضاتٌ حديديةٌ

وفيما تضرب المجتمعاتُ السوريةُ جذورَها في تركيا يوماً بعد يوم، وجدَ أردوغان وحزبه "العدالة والتنمية" نفسيهما أمام معضلةٍ: ما السبيلُ إلى تنظيم وجود ملايين اللاجئين دون تطبيعِ وجودهم؟ تتوقف الإجابة على سياستين متناقضتين في ظاهرهما. فمن جهةٍ، عزّزت السلطات التركية علاقاتها مع شرائح النخبة في المجتمع السوري من خلال التجنيس، ومن جهةٍ أخرى، جرّدت هذه السلطاتُ السوريين الآخرين من الحريات التي سبق أن منحتهم إياها، وبذا تركتهم عالقين في منطقةٍ رماديةٍ تشكّلت بفعل سياساتٍ تزداد قمعاً وتقييداً يوماً بعد يوم. 

في قلب المقاربة التركية المتناقضة يكمنُ نظامٌ قانونيٌّ مُبهمٌ يحكم وجود السوريين في تركيا، فبحرمانهم من صفة اللاجئ، يخضع معظم السوريين لقانون الحماية المؤقتة، وهو إطارٌ يمنح الأشخاص الذي هُجّروا قسراً حقَّ الحصول على الملاذ الآمن والتعليم العامّ والرعاية الصحية، وضماناتٍ شكليةٍ ضد العودة القسرية، غير أنه لا يَسمحُ للسوريين بالعمل دون إذنٍ تجدُ الغالبيةُ العظمى من السوريين صعوبةً في الحصول عليه، ولذا يعملون بصورةٍ غير قانونيةٍ في الكثير من المزارع والمصانع في اقتصاد الظل. كما لا يُسمح للسوريين بتملك العقارات بأسمائهم، ما دفع البعضَ إلى تأسيس كياناتٍ تجاريةٍ بغرض شراء منزلٍ ليس إلا.

وبمرور السنين، أصبح مصطلح "الحماية المؤقتة" منطوياً على تناقضٍ وغموضٍ كبيرين، إذ يغدو وجود السوريين في تركيا مؤقتاً بدرجةٍ أقلَّ يوماً بعد يوم، بينما تتضاءل الحماية المقدّمة لهم. في عام 2015، فرضت السلطات التركية - في سابقةٍ لها- على من يتمتعون بحمايةٍ مؤقتةٍ، استصدارَ إذنٍ قبل السفر خارج الولاية التي سُجلوا فيها في الأصل، أما السوريون الذين انتقلوا من ولايةٍ إلى أخرى لأسبابٍ تتعلق بالعمل، أو ليلحقوا بأُسرهم، فقد وجدوا أنفسَهم فجأةً مخالفين للقانون، وعرضةً للغرامة المالية والترحيل إلى مكان تسجيلهم، ما أدى بهم إلى الحدّ من تحركاتهم خوفاً من توقيف رجال الشرطة لهم.

وقد بلغَ ضغطُ الدولة على السوريين ذروتَه في صيف 2019، ففي أعقاب الانتخابات المحلية التي هاجمت فيها أحزابُ المعارضة سياسةَ الباب المفتوح التي انتهجها حزبُ العدالة والتنمية، سعى أردوغان إلى تشديدِ قبضة حكومته أمام الرأي العام التركي، فأطلقت وزارة الداخلية حملةً كبيرةً لتوقيف السوريين المخالفين لقانون الحماية، واعتقلت المئات، إن لم يكنِ الآلاف، ورحلّتهم إلى سوريا، كما أُجبر الكثيرون على توقيع موافقاتٍ باللغة التركية تنازلوا بموجبها عن وضع الحماية المؤقتة، وبالتالي خضعوا "طواعيةً" للعودة القسرية. قال طالبٌ جامعيٌّ في جنوب تركيا: "أعرف سوريَّين إثنين رُحّلا على الرغم من أن أوراقهما كانت سليمة. لقد رُحِّل جميعُ سكان المبنى الذي كانا يقطنانِه برفقة نحو أربعين سورياً، ولأسبابٍ لم يفهمها أحد. ربما أزعج هؤلاء الجيرانَ فحسب، أو ربما كان أحدهم يبيع الممنوعات."

كانت تلك الحملة جزءاً لا يتجزأ من تبني تركيا سياسةً غدت تتركّزُ على الأمن أكثر فأكثر

كانت تلك الحملة جزءاً لا يتجزأ من تبني تركيا سياسةً تتركز على الأمن أكثر فأكثر لإدارة وجود السوريين داخل البلاد وعلى طول حدودها، في عام 2018، أعلنتْ أنقرةُ اكتمالَ بناءِ جدارٍ خرسانيٍّ تعلوه الأسلاك الشائكة بتمويلٍ من الاتحاد الأوروبي، ويمتد الآن مسافة 764 كيلومتراً على طول حدود تركيا الجنوبية التي كانت قبل ذلك سائبةً. كما يطلقُ حرس الحدود النار على السوريين الذين يحاولون عبور الحدود، وينهالون بالضرب على كل من يحاول دخول الأراضي التركية ويرحلّونه. في موازاة ذلك، شدّدت السلطات قبضتها على المنظمات السورية والدولية غير الحكومية التي تنفّذ برامجَ مساعداتٍ بتمويلٍ غربيٍّ. كما تَزُورُ الشرطةُ هذه المنظماتِ، وتُغلقها في بعض الأحيان لعدم امتثالها للضوابط القانونية بالغةِ التعقيد. قال مدير منظمةٍ سوريةٍ غير حكوميةٍ كان على وشك نقل أنشطته من تركيا إلى أوروبا: "في غضون عامين فقط، انتقلنا من سياسة عدم التدخل إلى سياسة السيطرة الكاملة تقريباً."

لكن فيما كانت تركيا تعتقل بعض السوريين وترحلّهم، كانت تحوِّل عشرات الآلاف من السوريين الآخرين إلى مواطنين أتراك، ففي أواخر عام 2016، أعلن أردوغان عن خطةٍ لمنح الجنسية "لذوي الكفاءات... كالمهندسين والمحامين والأطباء". وقد راحت تركيا تفعل ذلك من خلال عمليةٍ غامضةٍ وتقديريةٍ تدعو فيها الدولةُ السوريينَ للتقدم بطلبٍ للحصول على الجنسية. صحيحٌ أن قواعد الاختيار مبهمةٌ، لكنّ السوريين يعرفون أوفرَهم حظاً في الحصول على الجنسية، وهم طلاب الجامعات وأصحاب الأعمال والمهنيون من مجالات بعينها، وبذا أصبح التجنيس بمثابة أداةٍ لاستيعاب أكثر السوريين حظوةً في المجتمع التركي، كما غدا حافزاً للسوريين غير المجنّسين للالتحاق بالجامعات أو فتح شركاتٍ تدفعُ الضرائب بغية الحصول على الجنسية. 

وعندما تصاعدت عمليات الترحيل منتصف عام 2019، قدّرت الحكومة التركية أنها منحت الجنسية لأكثر من 90 ألف سوريٍّ. لقد حلّتِ الجنسيةُ بعضاً من أصعب العُقد التي تواجه السوريين في تركيا، إذ أصبح بمقدور مَن حصلَ على الجنسية العملُ بصورةٍ قانونيةٍ، والتنقلُ بحريةٍ، وتملّكُ العقاراتِ، والبدءُ في التخطيط للمستقبل، غير أن كثيرين يرون أن هذا الإجراء فيه من الغموض ما يجعله لا يختلف عن الإجراءات الاعتباطية الأخرى. قال صحفيٌّ من ريف دمشق يعيش في اسطنبول: "يتلقّى البعضُ دعوةً لتقديم طلبٍ للحصول على الجنسية خلال أول عامين من وجودهم في تركيا، بينما لم يُرشّح آخرون يعيشون هنا منذ خمس أو ستّ سنواتٍ". أحياناً تظل هذه الطلبات قيد الدراسة لسنواتٍ، وفي بعض الحالات أعلنت السلطات التركية أنها أزالت مئات الطلبات بسبب مشاكل فنية غامضة.

والتجنيس هو واحدٌ من بين طرقٍ أخرى تستخدمها السلطات التركية لاستيعاب السوريين الذين ترى فيهم فائدةً لها ونفعاً، ويصلُ الأمر في الحالات القصوى من هذه العملية حدَّ استخدام السوريين كسلاحٍ، إذ تقوم الأجهزة الأمنية التركية بتنشئة شبكةٍ من الميليشيات السورية الوكيلة لتستخدمها كأدواتٍ لتنفيذ سياسة أنقرة العسكرية في شمال سوريا ومناطق الصراع الأخرى، أي في ليبيا والقوقاز. تستهدف أشكال الاستيعاب الأخرى السوريينَ في المجالات الرئيسة مثل الأعمال التجارية وقطاع المنظمات غير الحكومية، لا سيما في المدن الجنوبية مثل أورفة وغازي عنتاب حيث الوجود السوري أكثر كثافة. كما يسعى الكثير من السوريين بجدٍّ لبناء علاقاتٍ مع المسؤولين الأتراك. وصَفَ عاملٌ سابقٌ في منظمةٍ غير حكوميةٍ المقايضةَ التي لاحظها في غازي عنتاب:

ينظّمُ الوالي اجتماعاتٍ دوريةً مع ممثلي الجالية السورية، وأظنّ أنه يفعل ذلك في الغالب لجعل السوريين يشعرون أن لديهم بعضَ التمثيل، وللحدِّ من الاحتكاك المحتمل، ولا ريب أنها طريقةٌ لاختراق المجتمع السوري كذلك. يتنافس السوريون على الوصول إلى هذه الاجتماعات، فقد تساعدُ العلاقة مع الوالي في تسهيل الحصول على الجنسية، أو تسهيل تجارتك، أو مساعدتك إذا واجهتَ مشاكل مع الهيئات الحكومية.
 
لقد أصبح هذا الوصول مهماً للغاية للتنقل في بيئةٍ بيروقراطيةٍ وقانونيةٍ متغيرةٍ باستمرارٍ. قال مستشارٌ سوريٌّ يجيدُ التعامل مع العوائق البيروقراطية أكثر من غيره، لكنه لا يزال يواجه عقباتٍ لا حصر لها في الحفاظ على تجارة يديرها بمفرده: "يعتمدُ تنفيذ القانون على الموظف الذي تتعامل معه". ويرى هذا المستشار أن الطريق الأمثل للنجاح هو بناء صلاتٍ داخل هيكل السلطة التركية، ويضيف قائلاً: "أكثر المنظمات السورية نجاحاً هي تلك التي طوّرت الارتباطات والصلات الصحيحة."

وعدٌ ولا يقينٌ

لقد دفعت التناقضاتُ في السياسة التركية مجموعاتٍ مختلفةً من السوريين إلى سلك مساراتٍ متباينةٍ تبايناً صارخاً. في أحد طرفي الطيف، مكّنت سياساتُ أنقرة المشجعة للأعمالِ التجارية وحمْلةُ التجنيس أقليةً من السوريين من الاستقرار، بل والازدهار، غير أن الغالبية العظمى لا يزالون معلّقين في الزمن في ظلّ غيابِ أيّ مسارٍ واضحٍ نحو الاستقرار. يلاقي كثيرون صعوباتٍ في تأمين لقمة العيش، ويعملون بأجورٍ بخسةٍ وبدون شبكة أمان. تقول الصحافية الدمشقية في إسطنبول: "ينتهي الأمر بمعظم السوريين ممن لا ينتمون لعائلاتٍ تجاريةٍ ميسورةِ الحال إلى العمل في مصنعٍ قذرٍ"، وتقول إنها استفادت من علاقات والدها التجارية. أدّت سياسات تركيا إلى تفاقم هذه الفجوة من خلال تقديم الفرص لأقل السوريين حاجةً لها.

كما يرى عدد كبير من أبناء الطبقة الدنيا في تركيا مكاناً يودّون الفرار منه بأسرع ما يمكن، أكثر مما يرون فيها وطناً. أوضح شابٌّ من دير الزور قضى خمس سنواتٍ في العمل بصورةٍ غير رسميةٍ في الأراضي الزراعية التركية أن "معظم السوريين الفقراء مقتنعون بأن تركيا لن تسمح لهم بالاستقرار أبداً، لذا يواصل هؤلاء الناس البحثَ عن سبيلٍ للوصول إلى أوروبا". إن قصته مثالٌ على ذلك، فقد اقترض مؤخراً المالَ من الأصدقاء والعائلة ليدفعه للمهربين.

ويمكن تلمّس هذا التناقض لدى السوريين من الطبقة الوسطى: فمن ناحيةٍ، تركيا هي الدولة التي استقبلتهم وأفسحت لهم المجال لكسب لقمة العيش، وقد تستوعبهم رسمياً من خلال التجنيس، أما من الناحية الأخرى، غالبية المجتمع التركي لا يريدهم، وليس هناك ما يؤكد أنهم سيتحولون يوماً ما من ضيوفٍ غير مرّحبٍ بهم إلى مواطنين بالمعنى الكامل للكلمة. شرحَ المهندس المعماري الدمشقي في اسطنبول تأثيرَ غياب الاطمئنان على خُطط السوريين، حيث يفكر هو نفسه بالهجرة إلى أوروبا، على الرغم من تعلمه التركية وحصولِه على دخلٍ ثابتٍ:

تضعنا السياسة التركية في موقفٍ شديد الغموض، فليس لدينا معاييرُ واضحةٌ لمعرفة أين نقف، وهذا أحد الأسباب التي دفعت الكثير من الناس للهجرة إلى أوروبا عبر قنواتٍ خطيرةٍ للغاية، وفي ذلك بعضُ المنطق. سأركب قارباً، فإن متُّ، فهذا قَدَري، وإن لم أمت، فسأحصل على الجنسية الألمانية. إن من غادرَ تركيا عن طريق البحر في عام 2015 يعودون اليوم كزوارٍ بجوازات سفرهم الأوروبية.

تؤدّي المشاعرُ المعادية للسوريين في المجتمع التركي إلى مفاقمة هذا الشعور باللايقين، الذي يبلغُ ذروتَه أثناء الانتخابات أو إبّان حوادث العنف. يقولُ كاتبٌ من مدينة الرقة يعيش الآن في أورفة: "إنْ تورّطَ أحدُ السوريين في مشكلةٍ، فإن ذلك سينعكس علينا جميعاً. قبل بضع سنوات وقعتْ حادثةٌ قتَلَ فيها سوريٌ تركياً في أورفة، فظلّ جميع السوريين على إثرها حبيسي منازلهم لعدة أيام، وأغلقت المتاجر السورية أبوابها". في رأي البعض، لا تغذّي كراهيةُ الأجانب الشعورَ بالغربة فحسب، بل الخوفَ كذلك، وفي ذلك يقول الصحفيٌ من ريف دمشق: "حياة السوريين رخيصةٌ هنا. في كلَّ أسبوعٍ أو أسبوعين هناك قصةٌ جديدةٌ عن مقتلِ سوريٍّ بسبب خلافٍ ما."

والمفارقة هي أن السوريين يصبحون جزءاً لا يتجزأ من تركيا

وما يزيدُ القلقَ هو الظنّ بأن الرمال السياسية في تركيا قد تتحرك بطرقٍ تعرّضُ السوريين لمزيدٍ من الخطر، إذ يساورُ القلقُ البعضَ من أن الانتخابات العامة في تركيا لعام 2023 قد تزيح حزبَ العدالة والتنمية عن السلطة وتؤدي إلى ظهور أحزابٍ معارضةٍ تُجاهر بعدائها للاجئين. قال الصحفي من ريف دمشق: "إذا فازت المعارضة، فقد أُجبَرُ على العودة إلى سوريا. وإذا عدتُ، فقد أموت". وسواءٌ كانت عمليات الترحيل الجماعي ستحدث أم لا، فإن هذا الاحتمال يلوح في الأفق أكثر من أي وقتٍ مضى في أذهان من يشعرون بالضعف أصلاً.

والمفارقة هي أن السوريين يصبحون جزءاً لا يتجزأ من تركيا على الرغم من سعي الكثيرين لمغادرة هذا البلد. إن عملية الاستيعاب هذه عمليةٌ ارتجاليةٌ ومنفصلةٌ عن أية رؤيةٍ حكوميةٍ لِما يجب أن يكون عليه الوجود السوري. أوضحَ شابٌّ سوريٌّ يعملُ مع مؤسسةٍ تركيةٍ في اسطنبول كيف أن مئات الآلاف من الأطفال السوريين المسجلين في المدارس التركية يندمجون أكثر مما يفعل ذووهم:

نحن السوريين نتغير، لكننا لا نندمج في المجتمع التركي. على العكس من ذلك، غالباً ما أشعر أن المجتمَعين السوري والتركي ينغلقان على نفسيهما. قد يعيشُ السوريون والأتراك بجوار بعضهم البعض، لكنهم لا يتبادلون التحية، وجُلّ ما نتمناه هو ألا يضربوا بعضهم البعض في الشارع. إنها مسألة تسامحٍ لا اندماجٍ. 

لقد راح كثيرٌ من السوريين يتعلمون اللغة التركية، لكن معظمنا لا يفعل ذلك بجديةٍ باستثناء الأطفال الذين أصبحوا بارعين في اللغة التركية بحيث يصعب تمييزهم عن الأتراك. أشعر أن أطفالنا سيصبحون أتراكاً أكثر من كونهم سوريين، فلدى الطفل الذي ولد في ريف إدلب ونشأ وترعرع في إسطنبول ما يربطه بإسطنبول أكثر مما يربطه بريف إدلب.

وحتى أولئك الذين يأملون مغادرة تركيا تراهم غالباً ما يعترفون بإيجابيات البلاد، إذ يقرّون بأن تركيا تبنّت موقفاً أكثر سخاءً من الدول الأخرى التي سارعت إلى إغلاق حدودها أو منعت السوريين من العمل على أراضيها. كما يُشيدُ الكثيرون بتطور البنية التحتية التركية، وأحياناً يرون أن تركيا تبدو كدولةٍ أوروبيةٍ أكثر من كونها دولةً شرقَ أوسطيةٍ. وبالإضافة إلى كون حداثة تركيا نعمةً، فإن قربها الجغرافي والديني من سوريا يُعدُّ بمثابة بلسمٍ لمن يخشون غربة المنفى في أوروبا. 

والنتيجة أنه فيما يبحث كثيرٌ من السوريين عن مخرجٍ من تركيا، يبحث آخرون عن سبيلٍ لدخولها. ففي لبنان، ينظرُ عدد متزايد من السوريين إلى تركيا على أنها دولةٌ مضيفةٌ أكثر استقراراً وأقلُّ عدائيةً، كما ويؤدي التباطؤُ الاقتصادي في دول الخليج والقيودُ المفروضة على العمالة الوافدة إلى زيادة عدد السوريين الذين ينتقلون إلى تركيا، ويرى من يأمل القدوم إلى تركيا أنها توفر متنفساً أكبر مما قد تكون البلدان الأخرى مستعدةً لتقديمه.

 رسم مسارات جديدة

تجسّدُ قصة السوريين في تركيا التوجهات الأوسع التي نراها تتكشف في نظام الهجرة العالمي اليوم، ولعل الأهم من ذلك أن نهج أنقرة التقديري يعكسُ عقداً من الزمن تخلى فيه العالم تقريباً عن المعايير الأخلاقية الراسخة والأطر القانونية التي تَحكُم الهجرة القسرية. إنّ استجابة الدول الغربية، وكذلك تركيا، للموجات الأخيرة من اللاجئين تمليها الغرائز السياسية المتقلبة ضيقة الأفق أكثر مما تمليها الأطُر أو الالتزامات القائمة، والنتيجة هي متاهةٌ من السياسات غير المتسقة وغير المتماسكة، والتي تختلف كثيراً من دولةٍ إلى أخرى، ومن إقليمٍ ومدينةٍ لأخرى داخل البلد الواحد، وبذا يُترك طالبو اللجوء ليجولوا في نظامٍ غامضٍ ولا إنسانيٍّ.

لقد سعت معظم الحكومات الأوروبية إلى تجميد حركة الهجرة عن طريق بناء الحواجز المادية، وإبقاء اللاجئين في معسكراتٍ بائسةٍ خارج حدودها، والاستعانة بشركاء أقرب جغرافياً إلى البلدان التي يأتي منها المهاجرون بغية احتواء الهجرة، والنتيجة هي نظامٌ غير مُعلن ولكنه يزداد ترسّخاً وتعقيداً يوماً بعد يومٍ، ويقوم على تقديم الدول الأوروبية التمويلَ لدول الشرق الأوسط وأفريقيا لوقف المهاجرين قبل وصولهم إلى وجهتهم بوقتٍ طويلٍ، فيُقيّدُ الناسُ في ظروفٍ فيها من البؤس ما يجعلهم لا يكادون يكفون عن محاولة بلوغ مرامهم. تقوم سياسة الولايات المتحدة حيال حدودها الجنوبية على النهج عينه تقريباً.

لقد تبيّن أن لهذه الصفقة آثاراً بالغةَ السوء، فبمعاملة طالبي اللجوء كتهديدٍ يجب صدّه قبل كل شيءٍ، وضعت الدول الغربية منطقاً تقوم فيه دولٌ أخرى - من تركيا إلى لبنان إلى ليبيا - باستخدام اللاجئين كسلاحٍ لاستجداء الدعم الأوروبي والأمريكي فيما تسيءُ هذه الدول، ودونما خجلٍ، معاملةَ الأشخاص الذين تُؤويهم مقابل الحصول على المال. وقد بلغَ هذا الترتيب حدّ مكافأة الأنظمة والميليشيات على احتجاز اللاجئين وتعذيبهم، والاتجار بهم كعبيدٍ، وتجنيدهم كمرتزِقةٍ، وإعادتهم إلى مناطق الحرب بالقوة، وأكثرُ ما يُقلق في هذا المنطق أنه غدا ركناً مقبولاً في السياسة الخارجية. 

تكمنُ المفارقةُ في هذا النهج في أنه يدفع أعداداً متزايدة من الناس لسلك مساراتٍ أكثر تكلفةً وخطورةً ليهاجروا بسبب ما يبعثُ في نفوسهم من يأس، وبذا تُنفقُ المجتمعاتُ الغربيةُ بسخاءٍ على البرامجِ التي تدفع المشكلةَ بعيداً عن الأنظار وتتركها تتفاقم بدلاً من حلّها، وهي سياسةٌ يترتّبُ عليها تكاليفُ أخلاقيةٌ وعمليةٌ، من تقويض المعايير والمواثيق القائمة إلى تشجيع السياسات القومية، ما يغذي عدم اليقين والقلق من برلين إلى واشنطن. 

توضّح معاملةُ تركيا للسوريين تكاليفَ هذا الوضع الذي غدا طبيعياً، ففيما يقع العبء الأثقل في هذه الحالة على عاتق السوريين، فإن لهذه الحالة من عدم اليقين تداعياتٍ على تركيا نفسها أيضاً بعد أن أصبحت الهجرة مسألةً خلافيةً للغاية في سياسات البلاد المنقسمة بشدة. كما تمتدُ آثار ذلك حتى الشواطئ الأوروبية، حيث يخشى صناعُ القرار يوماً ينفّذُ فيه أردوغان تهديداته بإطلاق العنان لموجة المهاجرين نحو أوروبا، والأدهى من ذلك كله هو أن هذه المشكلات ستستمر وتتفاقم طالما بقيت الرغبة بالهجرة تعادل الرغبة بردِّ المهاجرين على أعقابهم. 

16 شباط/فبراير 2021

أليكس سايمون: مدير برنامج سوريا في سينابس
قام بترجمة هذا المقال حسان حساني

تم استخدام الصور من:

Boris Thaser Istanbul 2015
وبترخيص من:
Creative Commons


تم إنتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة كونراد أيناور ستيفتنغ. إن مضمون الورقة لا يعكس بالضرورة الرأي الرسمي لمؤسسة كونراد أديناور ستيفتنغ. كما أن مسؤولية المعلومات والآراء الواردة فيها تقع على عاتق الكاتب وحده.


محتوى ذو صلة