لتكسب عيشاً
كما توفر الأدوات الرقمية مورداً لا غنى عنه، وإن كان شاقاً، للسوريين الذين يسعون إلى قدْرٍ من الاستقرار الاقتصادي. لا تقدّم سوريا حالياً سوى القليل من الآفاق للحصول على تعليمِ لائقٍ أو تأسيس حياةٍ مهنيةٍ مجزية؛ فنظام المدارس والجامعات الحكومية الذي كان قوياً في يومٍ من الأيام غدا اليوم في حالةٍ من الفوضى، حيث تعاني الفصول الدراسية من الاكتظاظ واستنزاف الأدمغة بين المعلمين. كثيراً ما يسأل الشباب أنفسهم عن جدوى تكليف أنفسهم عناءَ السعي لنيل شهادةٍ جامعيةٍ، فالوظائف الحكومية التي كانت فيما مضى تضمنُ راتباً مدى الحياة لم تعد تغطي الحدَّ الأدنى من الاحتياجات، كما أن وظائف القطاع الخاص المجزية نادرةٌ.
في هذه البيئة الخانقة، يُترك لك أمرُ استكشاف المسارات الرقمية لتأمين مستقبلٍ يحمل وعوداً أكبر. يلجأ الطلاب إلى منصات التعلم الإلكتروني مثل كورسيرا و دوولينجو لرفد التعليم الضعيف وتطوير المهارات - لا سيما المتعلقة منها باللغات الأجنبية - التي تجعلهم مرشحين أوفرَ حظاً لنيل فرص عملٍ في الخارج، بينما ينشئ البعض مجموعاتٍ على تطبيق تيليغرام لتبادل الملاحظات ومشاركة المواد التعليمية المقرصنة. يمتد هذا الاعتماد على التعليم الرقمي إلى ما هو أبعد من الطلاب، إذ كثيراً ما يبحث المحترفون عن التدريب الفني في الإنترنت. قال سائق سيارة أجرةٍ: "ظل الميكانيكيون يخبرونني أن سيارتي غيرُ قابلةٍ للإصلاح لأنها تحتاج إلى قطعةٍ لا يمكن شراؤها في سوريا. فبحثت في الإنترنت، وتمكنت بمساعدة ابني من صنع هذه القطعة بنفسي".
كما يجرب بعض أصحاب الأعمال السوريون نقل عملهم إلى الانترنت للالتفاف على التكاليف الباهظة لاستئجار متجرٍ أو مكتبٍ، التي لن يكون فيها كثيرٌ من المنطق بالنظر إلى ضعف القوة الشرائية لدى غالبية السوريين. تفتخر إحدى مديري الأعمال عبر الإنترنت، والتي تصنع الملابس باستخدام أساليب وأقمشة تقليدية؛ بنجاحها في التحول إلى المجال الرقمي:
لقد افتتحنا متجراً، لكننا سرعان ما اضطررنا إلى إغلاقه. إن السبيل الوحيد للنجاح هنا هو بافتتاح متجرٍ في أحد الأسواق التي تتوسط دمشق، غير أننا نفتقد المال لاستئجار أحدها. على أية حالٍ، تحظى منتجاتنا بسوقٍ أكبر في الإنترنت، لا سيما بين السوريين في الخارج ممن يشعرون بالحنين إلى الوطن ويريدون شراء المصنوعات التقليدية.
وبالمثل، يستفيد الباحثون عن عملٍ في سوريا من الأدوات الرقمية لكسب لقمة العيش، لا سيما بالعمل عن بعدٍ لدى الشركات الأجنبية التي تدفع بالعملة الصعبة؛ وبذا يستثمر السوريون، على سبيل المثال، سمعة بلادهم المرموقة في مجال تعليم اللغة العربية للعثور على عملٍ عن بُعدٍ في مضامير التعليم والترجمة والتحرير وكتابة النصوص، وهو ما أوضحته كاتبةٌ شابةٌ طموحٌةٌ بقولها: "أعمل لدى موقعٍ أجنبيٍّ متخصصٍ في التجارة والصناعة، فأُرسل لهم يومياً مقالتين على أقل تقديرٍ، وأحصل على خمس دولارات لكل مقالة".
بيْد أن لهذا النموذج سلبياتٌ كثيرةٌ، إذ يلجأ أربابُ الأعمالِ الأجانبُ عديمو الضمير إلى العمال السوريين على وجه التحديد لأنهم يقبلون أجوراً أدنى بكثيرٍ من أجورهم الفعلية في السوق. "نظراً لعدم تمكنهم من العثور على أي عملٍ آخر، يتولّى بعضُ مهندسي الكمبيوتر تنفيذَ مشاريع كبيرةً مقابل بضع مئاتٍ من الدولارات فحسب" يعرب مبرمجٌ يعمل عن بعد عن أسفه: " هم يعرفون أن الوسيط في دول الخليج يأخذ ضعف ما يكسبونه، لكنهم مجبرون على قبول ذلك".
لكن مشاكلُ الاتصال تعيق هذا الشكل من العملَ عن بعدٍ، وتسبب إزعاجاً مستمراً لكلٍّ من العمال السوريين وأرباب الأعمال في الخارج. لخّص مطورٌ سعوديٌ تجربته في التعاقد مع مبرمجين من داخل سوريا: "كانت جودة العمل ممتازةً، لكننا واجهنا معوقاتٍ مستمرةً بسبب الكهرباء والإنترنت". قد تؤدي هذه المعوقات إلى تقويض الثقة، حيث يَفترض أربابُ العمل أن التذرع بضعف الاتصال قد يخفي ضعفَ الأداء ليس إلا. قالت ربّةُ عملٍ في لبنان: " أحياناً، يستغرق المستشار الذي أعمل معه داخل سوريا أكثر من يومٍ للرد على رسائلي، ويقول إن السببَ في تأخره هو انقطاعُ الخدمة، ولكني متأكدةٌ أن الاتصال بالإنترنت متاح لمرةٍ واحدةٍ في اليوم على الأقل، حتى في سوريا".
ومن أكثر المشاكل الشائكة هو ما تؤدي إليه العقوباتُ الغربيةُ من عزل لسوريا عن جزءٍ كبيرٍ من البنية التحتية العالمية، فخوفاً من كسر بعض القوانين سيئة التوضيح، يتحاشى كثيرٌ من مزودي الخدمات التكنولوجية السوقَ السوريةَ الصغيرةَ وعاليةَ المخاطر، فالخدمات والمواقع من قبيل باي بال وأدوبي وسلاك وتيك توك محظورةٌ على المستخدمين داخل البلاد. وحتى التطبيقات التي لا تزال تعمل - لا سيما بريد جيميل - قد تمنعك فجأةً من الدخول إليها لاشتباهها بأنك فعلت أمراً "مريباً" عند تسجيلك الدخول باستخدام شبكة خاصة افتراضية VPN تخفي من خلالها عنوان بروتوكول الإنترنت IP الخاص بجهازك.
قد يغير مضمار الحواجز هذا حياةَ المرء، وذلك أنه يغلق الأبواب ذاتها التي تعِدُ التكنولوجيا بفتحها. خَبِر مهندسُ كمبيوترٍ شابٌّ هذه الآثار بشكلٍ مباشرٍ، وفي ذلك يقول: "لقد نلت منحةً للالتحاق بإحدى الجامعات الإنجليزية ونيل درجة الماجستير عبر الإنترنت، لكني لم أتمكن من النفاذ إلى مكتبة الجامعة من داخل سوريا، مما سَلَبَ المنحةَ قيمتها، واضطرني إلى صرف النظر عنها".
كما أن اقصاء سوريا من الأسواق المالية العالمية يؤثر بشدةٍ على عموم السوريين. قد تكون بعضُ التداعيات بسيطةً ويمكن استدراكها، كأن تفشل في تحديث نظام التشغيل في هاتفك لافتقادك طريقةَ دفعٍ مقبولةً، بيد أن بعضها الآخرَ قد يهدد سبل معاشك أيضاً؛ فبسبب عدم تمكن العمال وأرباب الأعمال عن بُعدٍ من تلقي وإرسال التحويلات النقدية الدولية، فإنهم يلجؤون إلى إجراءاتٍ مكلفةٍ وخطيرةٍ، ابتداءً بحمل النقود عبر الحدود، إلى نقلها عبر وكلاء مريبين في السوق المالية السوداء. بعض السوريين يفقدون كل إمكانية للوصول إلى أموالهم في الخارج، وهو ما أوضحته مضيفة طيرانٍ في دمشق بقولها: "لقد وضعتُ كل مدخراتي في حسابٍ مصرفيٍّ أستراليٍّ، لكني حُظِرت من الوصول إلى حسابي بعد محاولة إجراءَ تحويل من سوريا؛ سألتُ محامين عما بوسعي فعله، فقالوا إنني لا أستطيع فعل أيّ شيء".
تعني هذه العوائق الكثيرة أن مستخدمي الإنترنت في سوريا يواظبون على استنباط حلولٍ شتى مرنةٍ مرونةَ العقبات التي يواجهونها. قد تكون أكثرُ الحيل شيوعاً هي استخدام الشبكات الخاصة الافتراضية VPN للوصول إلى المنصات المحجوبة، وقد كانت هذه الشبكات ذات يومٍ من اختصاص الخبراء والناشطين، بيد أنها انتشرت مؤخراً بين مستخدمي التقنيات الأبسط. يشارك قراصنةٌ سوريون دروساً على وسائل التواصل الاجتماعي تشرح كيفية كسر حظر المواقع والخدمات، ولطالما انتشرت البرامج المقرصنة على نطاقٍ واسعٍ بحيث تُباع في المتاجر أو يثبّتها البائعون على أجهزة زبائنهم؛ كما أن المستخدمين العاجزين عن الوصول إلى بطاقات الائتمان يطلبون من الأصدقاء أو الزملاء في الخارج مساعدتهم بالاشتراك في الخدمات الرقمية نيابةً عنهم، يزداد الطلب على تلك الخدمات لدرجة أن بعض المغتربين السوريين حوّلوا ذلك إلى تجارةٍ، وراحوا يفرضون أجوراً باهظةً على تسجيل العملاء للحصول على خدماتٍ مدفوعةٍ عبر الإنترنت.
لقد غدت هذه الحلول من صلب ثقافة السوريين الرقمية سريعةِ التطور، وأحد أسس آفاقهم الاقتصادية على نطاقٍ أوسع، وهو ما أوضحه مهندسٌ سوريٌّ يقيم الآن في ألمانيا بقوله:
إن المكان الوحيد الذي أحنّ إليه في سوريا هو سوق البحصة الإلكتروني (السوق التكنولوجي في دمشق)، ففيه يمكنك دفع نصف دولارٍ لشراء قرصٍ مضغوطٍ فيه برامجُ تبلغ قيمتها 2000 دولارٍ. لقد سمح ذلك للمبرمجين السوريين بالوصول إلى جميع أنواع البرامج، وبالتالي اكتساب الخبرة وصقل مهاراتهم؛ عندما نأتي إلى أوروبا، غالباً ما نجد أننا ملمّون ببرامجَ أكثر عدداً مما يُلمُّ به الأوروبيون.
وإلى جانب الحلول المرتجلة، شهدت سوريا لحظاتٍ نادرةً ولكن مفعمة بأمل الإنصاف الجماعي، حين ضغطت مجموعات الناشطين على شركات التكنولوجيا لاستعادة الوصول إلى المنصات التعليمية الرائجة على الإنترنت، وبعد أن ناشدت عريضةٌ جرت مشاركتها على نطاقٍ واسعٍ منصةَ دوولينجو لإتاحة امتحان إجادة اللغة الإنجليزية في سوريا، حصل التطبيق في كانون الأول / ديسمبر 2020 على استثناء من وزارة الخزانة الأمريكية للقيامَ بذلك. للأسف، غالباً ما يحجب أهمية مثل هذه الانتصاراتِ الصغيرة، سعيٌ مستمر لاستباق التحديات الوشيكة الأخرى.