الحرب السورية بوسائل أخرى

ميدان المعركة الاقتصادية

لا تزال آمال سوريا في التعافي ودمل جراحها بعيدة المنال مع انتقال البلاد من الصراع المسلح إلى المعاناة الاقتصادية، فالدولة تخوض الآن معركة عصيبة في سبيل نجدة اقتصادها بعد أن غدت في مأمن بفضل انتصارها العسكري، لكنها دولة جوفاء تموّل نفسها بواسطة فساد مستشرٍ وحكمٍ قائم على السلب والنهب؛ وهي تكتيكاتٌ - وإن ساعدت الدولة على الوقوف على قدميها – إلا أنها تهدد بتقويض قدرة الاقتصاد على التعافي، عدا عن عجز دمشق عن توفير الدعم الأساسي حتى لعامة المواطنين والشركات.

يزيد خصوم النظام الأجانب من حدة هذا التعطل عبر جولات جديدة من العقوبات الاقتصادية، ومع تعاظم الألم الناجم عن تشديد الغرب للعقوبات التي راحت تمسّ المجتمع السوري أكثر من أي وقت مضى - من نقص حاد في الوقود إلى التأثير المهول حتى على الاستثمارات الأكثر سلمية - تصبح الغايات السياسية لهذه العقوبات أكثر غموضاً وغير قابلة للتصديق، أما حلفاء دمشق فهم إلى حد ما أكثر نفعاً إذ تراهم مصممين على إبقاء النظام على حاله، ولكن دون إظهار أي اهتمام حقيقي بانتعاش أوسع نطاقاً، فتطالب روسيا وإيران، بدلاً من ذلك، بنصيب كل منهما من موارد البلاد الآخذة بالتضاؤل، من النفط والفوسفات إلى التجارة البحرية.

لقد تُرك عامة السوريين ليعانوا العواقب ويرتجلوا الحلول بأنفسهم، فظلّ هؤلاء، رغم ازدياد عزلتهم، روادَ أعمالٍ بحق يطوفون في مناخ اقتصادي مُبهم وغير مضياف، وهذا الجَلَد وحده لن يفضي إلى تعافٍ واسع النطاق، بيد أنّه أفضل فرصة تحقق بها سوريا استقراراً جزئياً مؤقتاً بعد ما يقرب من عقد من التدهور الاقتصادي.

مدن مزدهرة لكنه ازدهار هش

لم تدمر الحرب اقتصاد سوريا فحسب، بل أعادت تشكيل ما تبقى من نشاطها الاقتصادي، فبعد تدمير مساحات واسعة من البلاد وإفراغها من سكانها، استوعبت مناطق أخرى سكان هذه المناطق وتجارتها وقدراتها الاقتصادية. العشرات من رجال وسيدات الأعمال على امتداد سوريا يشيروا الى عملية نقل الثروة الفوضوية هذه والتي حفّزت نمواً اقتصادياً محدوداً؛ لتخلق في مقابل ذلك حالاتٍ جديدة من الخلل الاجتماعي-الاقتصادي.

تمثّل مدن الساحل السوري تجسيداً صارخاً وجلياً لهذا الاتجاه، حيث ظلت محافظتا اللاذقية وطرطوس مستقرتان نسبياً طوال الحرب، فاستوعبتا تدفق موجة تلو الموجة من النازحين من حمص وحلب وإدلب، وقد أدى هذا التدفق، في زمن ساد فيه الركود، إلى إنهاك اقتصاد المنطقة وتحفيزه في آن معاً. أكدت مديرة فندق في طرطوس – المحافظة التي اعتمد اقتصادها لعقود على من يزورون شواطئ المتوسط من السياح – على هذه المفارقة بقولها: "صحيحٌ أنّ السياحة تراجعت بين عامي 2012 و2017، إلا أنّ العائلات النازحة استأجرت جميع الفنادق والمنتجعات."

وقد أدّى هذا التدفق، في زمن ساد فيه الركود، إلى إنهاك اقتصاد المنطقة وتحفيزه في آن معاً

ضمّتْ قائمة الوافدين الجدد تجاراً وصناعيين من حلَب وحِمص اللتين كانتا فيما مضى محوري نقل ومركزي تصنيع تأثرتا كثيراً بالحصار والقصف، وقد أتى كثير من هؤلاء بشركاتهم الصغيرة والمتوسطة، ما أدى إلى تحفيز النشاط الاقتصادي في المنطقة بشكل ملحوظ، وقد وصف أحد سكان اللاذقية كيف غدا اليومَ شارع بمتاجرَ كانت مغلقة قبل عام 2011 مفعماً بالنشاط بفضل سكان حلب الذين استأجروا وافتتحوا جميع ما في هذا الشارع من متاجر.

تمثل طفرة النشاط التجاري هذه تحولاً تاريخياً كبيراً، إذ طالما امتد مركز الثقل الاقتصادي في سوريا على طول المحور الشمالي-الجنوبي من حلب إلى دمشق، وقد أدى هذا التحول إلى اضطرابات كثيرة، ليس أقلها على شكل تنافس بين القادمين الجدد من العمال والتجار وأقرانهم ممن كانوا سادة الساحة قبل الحرب. يقول صاحب متجر مفروشات حمصي كان قد نقل عمله الى طرطوس عام ٢٠١٣: "النجارين الذين أتوا من حمص وحلب يعملوا بجهد أكبر ولديهم خبرة أكثر من النجارين هنا، لذلك فهم يتنافسوا مع المحليين وغالبا ما يدفعوهم خارج سوق العمل."

وضعت بعضُ المخاوف الأخرى النخبَ في مواجهة المنتفعين من الحرب الذين يسعون إلى غسل ثرواتهم في الاقتصاد النظامي، ليأخذ هذا الانقسام صبغة طائفية لا لبس فيها، فغالبا ما يتغلغل أفراد من العلويين الذين جنوا أموالهم حديثا في الأسواق التي طالما هيمن عليها السنة والمسيحيون على مر التاريخ، ولكن مع ذلك، يعمل هذا التحول أيضاً على إذكاء تعاون براغماتي في علاقة تكافلية يسهم فيها رجال الأعمال المخضرمون بخبرتهم، بينما يقدم الأغنياء الجدد المال والعلاقات بأجهزة الأمن. لخّص رجلٌ مسيحي يملك مطعماً في مدينة طرطوس هذه الدينامية في لكنة تشي بميله الطائفي بقوله:

أدارت العائلاتُ السنية على مر التاريخ مطاعمَ طرطوس ومقاهيها وفنادقها، بينما كانت متاجر النبيذ والمطاعم التي تقدم المشروبات الكحولية من نصيب المسيحيين، أما في العامين الأخيرين، فقد تهافت المزيد من ضباط الأمن وقادة ميليشيات من العلويين على شراء المطاعم والمقاهي ومحلات النبيذ من السنة والمسيحيين.

سأترك سوريا في يوم لا أراه بعيداً، وأظن أني سأبيع متجري لأحدهم، فقد تلقيتُ عروضاً جمّة من عدة أشخاص علويين، وبحوزتهم وفير المال لشرائه، لكنهم يفتقرون في مقابل ذلك للقدرة على إدارته كما أديره، فأنا ذو خبرة كبيرة في تحضير ألذ الطعام وأطيب الشراب، في حين لا يملك هؤلاء سوى المال، ونتيجة لذلك ترى ضباط علويين يُقبلون على شراء المطاعم ليُبقوا على السنة والمسيحيين في مناصبهم كمدراء لها وطهاة، بينما يشكل الشباب العلويون غالبية النادلين وعمال النظافة.

على الرغم من استفادة بعض علويي الساحل من اقتصاد الصراع في سوريا، إلا أن معظمهم غارق في وظائف بائسة لا يجنون منها إلا ما يسدّ رمقهم، وقد ازداد المجتمع الذي ذاق الأمرّين قبل الحرب فقراً على فقر جراء الضائقة الاقتصادية التي ألمّت بسوريا بأكملها، فضلاً عن وفاة أو اختفاء أو وهن عدد لا حصر له من شباب شكلوا عماد جهاز النظام الأمني، فنتج بذلك نسيجٌ معقد من الإحباط وعدم المساواة، وبينما يغتاظ رجال الأعمال في الساحل من منافسة النازحين لهم على نحو متزايد، هناك طبقة مجتمعية فقيرة من العلويين آخذة في الاتساع باتت تجد نفسها محط إهمال لا سابق له، على الرغم من تقديمهم التضحيات الجسام دفاعا عن النظام.

نتج بذلك نسيجٌ معقد من الإحباط وعدم المساواة

توافدَ النازحون من حمص وحلب على مدينة حماة وسط سوريا، المدينة التي نأت بنفسها عن الصراع إلى حد كبير، لتكتسب بذلك أهمية متزايدة كمركز إداري؛ فبعد أن فقدتِ الحكومة السيطرة على مركز محافظتي إدلب والرقة، نقلت دمشق مكاتب الدولة في هاتين المدينتين (إلى جانب موظفيها ومواردها) إلى مدينة حماة التي أصبحت بذلك عاصمة الأمر الواقع لمحافظاتٍ ثلاث، وفي الوقت عينه، فإن موقع المدينة الاستراتيجي الكائن على مفترق طرق بين مناطق سيطرة النظام ومناطق المعارضة والإدارة الكردية الذاتية قد جعلها مركزاً للعبور والتجارة. روى صناعيّ حلبي من مصنعه الكائن جنوب المدينة قصة انتقاله إلى هذه المدينة فقال:

جئت إلى حماة مطلع العام 2014 بعد أن وصلَتِ الاشتباكاتُ في حلب إلى المنطقة الصناعية في الشيخ نجار، فحماة مدينة مستقرة وذات موقع مثالي، وأعرف مئاتٍ من التجار والصناعيين الذين أتوا من حلب ليفتتحوا أعمالهم فيها، كما قام عدد كبير من تجار حمص وإدلب والرقة بافتتاح شركات في هذه المدينة؛ ليشتروا اليومَ موادهم من موردين فيها.

كما كرر تاجر منسوجات من سكان حماة هذه النقطة مشيراً إلى تلك المفارقة المتمثلة في أن السكان المحليين غالباً ما يستفيدون من الوافدين الجدد رغم استيائهم منهم:

نمتْ أرباحي أكثر من عشرة أضعاف خلال هذه الحرب، فلا يكاد ينقضي يوم إلا ويأتي تجار وأصحاب متاجر من الرقة وإدلب لشراء ملابس جاهزة ومنسوجات بالجملة لكي يبيعوها في مسقط رأسهم. لأخي مكتبٌ عقاريٌّ معظم زبائنه من النازحين؛ كما أنّ لدى صهري متجرُ مثلجاتٍ كبير يبيع أغلبها للنازحين. الجميع هنا يكسبون المال من النازحين ثم يتذمرون منهم.

يمثل هذا النمو المضطرب، في جزء منه، الإرث الدموي لتاريخ حماة التي عانت وطأة قمع النظام للتمرد الذي قادته جماعة الإخوان المسلمين في الثمانينات، والذي لا تزال ندوبه ظاهرة إلى يومنا هذا، وقد ثنى هذا الإرث الحمويين عن زج أنفسهم كلياً في انتفاضة العام 2011، وما زال يساهم في توتير العلاقة بين السكان الأصليين والوافدين الجدد الذين ينتمي العديد منهم إلى فئة الموظفين الحكوميين. "لا يثق الحمويون في هؤلاء الغرباء"، هذا ما قاله أحد أفراد عائلة حموية عريقة يزاول تجارة الحبوب. "إنهم يعتبرونهم موالين للنظام ومخبرين." تتشابك الحساسيات السياسية مع الانقسامات الاجتماعية بين سكان مدينة حماة المحافظين من جهة والنازحين الذين يميلون إلى أن يكونوا أقرب للعادات الريفية وللعلمانية من جهة أخرى. "إن أهالي حماة متدينون للغاية"، أضاف التاجر نفسه. "صحيح أن الوافدين الجدد هم من أبناء الطائفة السنّية مثلنا، لكنهم غير متدينين."

وما يزيد حدةَ هذه التوترات ذلك التنافس التاريخي بين حماة وحمص التي تبعد عنها 45 كيلومتراً من جهة الجنوب. كان تدمير حماة - في صورة تعكس الحاضر بشكل مذهل - هو ما سمح لمدينة حمص لتزدهر كمركز للصناعة والنقل في الثمانينات والتسعينات، لتظل حمصُ اليوم مشلولة الاقتصاد إثر مواجهتها المدمرة مع النظام، وذلك أنها كانت في طليعة الانتفاضة السورية عام 2011، فينظر بعض الحمصيين إلى جيرانهم في الشمال بمرارة؛ جيرانهم الذين استفادوا من الحرب التي دفع فيها الحمصيون الثمن باهظاً.

ينظر بعض الحمصيين إلى جيرانهم في الشمال بمرارة

وفي الوقت نفسه، أعيد تنظيمُ حمص بطرق تزيد من إحباط الكثير من أهلها، فبينما أفضى حصار النظام وحملته العسكرية إلى تدمير مساحات واسعة من الأحياء الغربية ذات الغالبية السنية بما فيها السوق القديم ذو الأهمية التجارية، تحول مركز الثقل الداخلي في حمص نحو الأحياء الشرقية التي تقطنها أغلبية علوية، وقد شهدت هذه الأحياء طفرة مصغرة خاصة بها، وذلك بسعي المقاتلين وقادة الميليشيات إلى استثمار غنائمهم. وصف أحد سكان حي علوي يعمل في منظمة غير حكومية ذاك التحول الذي شهدته المنطقة بقوله:

لقد ازدهرت حمص الشرقية، ولكنه ازدهار هش للغاية، ازدهارٌ يتمثل جلّه في أفراد الميليشيات الذين يفتتحون متاجر ببضعة آلاف من دولارات نهبوها بالرغم من افتقارهم لأدنى فكرة عن كيفية إدارة متجر، فيبيعون المتجر لشخص آخر لا يملك أيضاً أية فكرة عن كيفية إدارته، فهذا الاجراء كله قائم على السرقة، ولكن لم يتبقّ ما يمكن سرقته اليوم، ولذا فالانحدار قادم لا محالة.

إن كثيراً من النمو الحاصل في زمن الحرب في سوريا يبدو سريع الزوال أيضا، فرواد الأعمال يندفعون إلى إنفاق مكاسبهم غير المشروعة استجابة للمطالب المتغيرة بسرعة. يقول أحد الاقتصاديين السوريين: "مثلما تنتج التجارة والخدمات مرابح سريعة، يحتاج البناء الكثير من المال؛ لكن ذلك سيخلق فقاعة". وفي مقابل ذلك، يبدو مستقبل القطاع الصناعي السوري - والذي يعد جزءاً لا يتجزأ من أي تعاف واسع النطاق –قاتماً بسبب نقص الاستثمار والخبرة والدعم الحكومي. وأضاف ذلك الاقتصادي بالقول: "سيكون قطاع الصناعة أشبه بالجحيم لكل من يعمل فيه لقادم السنين، فإعادة إحياء الصناعة سيخلق شراكات بين حديثي النعمة وقدامى الصناعيين أولي الخبرة"، وكثير من هؤلاء لا يزالون حالياً في المنفى.

دولة كهيكل عظمي

تساهم الدولة السورية في الاضطراب الحاصل في خضم هذا الاقتصاد المتاح للجميع، وعلاوةً على عجزها عن توفير البنية أو التوجيه، فالحكومة المتهاوية المفلسة لا تمارس من أشكال الحكم إلا أكثره سطحية، لتركز بدلاً من ذلك على تمويل نفسها بطرق تدفع البلد نحو الهاوية، وفي قلب الدولة المتداعية في سوريا بيروقراطيةٌ تعاني ضعفاً شديداً في الأجور وشحاً في الموارد لدرجةٍ تجعل من الموظفين المدنيين عاجزين عن تأمين لقمة العيش دون مزاولة وظائف متعددة ـومشاركة في أشكال شتى من الفساد البسيط، وفي أحسن الأحوال، يؤدي ذوو النوايا الحسنة من الموظفين الحكوميين وظائفهم دونما كفاءة نتيجة لذلك. يصف موظف حكومي يعمل كرجل إطفاء وضعه فيقول:

تريد الحكومة جنوداً لا موظفين، فهي لا تبالي كيف يعيش عامة الشعب، ورواتبنا لا تتجاوز عشرين ألف ليرة (نحو 40 دولار)، ولذا فأنا أعمل لوجه الله أكثر من أي شيء آخر. أنا قائد فرقة إطفاء ولا زلت مضطراً للعمل كسائق سيارة أجرة وأعتمد على الدعم من عائلتي، وكل أفراد فوج الإطفاء يزاولون عملاً آخر.

اشترت لنا الدولة بدلات رجال إطفاء من مقاول فاسد، فيمكنك القول إن جلّها مصنوع من البلاستيك، وأعتقد أنها لابد ستذوب على أجسادنا في حال شب حريق خطير، وليس فينا غير سائق واحد لسيارة الإطفاء الخاصة بنا، ولذا لا يوجد ما نقوم به إذا ما تغيب عنا حين حاجتنا إليه.

إنّ لهذا التدهور آثار متنوعة وبعيدة المدى على اقتصاد بني أصلاً على المبادئ الاشتراكية ولا يزال يعتمد على تدخل الدولة المكثف في قطاعات كالصناعة والطاقة والتجارة والزراعة، وحتى في بعض المناطق التي سيطرت عليها الدولة طول فترة النزاع، تخلّت هذه الدولة عن القيام بمجموعة من الوظائف الأساسية كتقديم الإعانات المالية وضمان استمرار الخدمات البلدية الأساسية من قبيل جمع النفايات. علّق مهندس زراعي حكومي على تراجع دعم الزراعة في الساحل السوري بقوله:

إنّ معظم أصحاب البيوت البلاستيكية في اللاذقية وطرطوس هم من العائلات التي تربطها صلات بالجيش وأجهزة الأمن والميليشيات الموالية، ويطالب هؤلاء الحكومة بتزويدهم بوقود التدفئة والأسمدة الكيماوية والمبيدات الحشرية، لكن الحكومة لا تعطهم شيئاً من ذلك.

عندما تحتفظ الدولة بالوظائف الاقتصادية الإيجابية، فإنها تفعل ذلك بطرق انتقائية ولخدمة مصالحها، ففي العام 2019، على سبيل المثال، جددت دمشق تأكيدها على دورها التقليدي في شراء القمح بأسعار ثابتة من المزارعين رغم تركز هؤلاء في المناطق التي تسيطر عليها الإدارة الكردية الذاتية. كانت هذه الخطوة والتغطيةُ الواسعة التي أولتها إياها وسائل الإعلام الحكوميةُ ذاتَ دوافعَ سياسية بامتياز، وعكست جهود دمشق لاستعادة نفوذها الاقتصادي في شمال شرق سوريا مع تقليل اعتمادها على القمح المستورد. في مثال معبّر آخر، أشار أحد سكان ضاحية حرستا بدمشق إلى أن الحي الذي يعيش فيه، بخلاف كثير من الأحياء الأخرى، قد حظي بإزالة الأنقاض وإعادة الكهرباء على مدار الساعة. يقع هذا الحي بالقرب من الطريق السريع الحيوي والاستراتيجي M5 ، ويضم مواقع عسكرية عدة أو يتاخمها، وعلاوة على ذلك، أشيع بأن أحد أزلام النظام قد تولى إعادة تنظيم الحي.

بينما تتقهقر الدولة، يُترك المواطنون ليتنقلوا في عملية خصخصة تتدخل فيها الحكومة للحصول على الموارد في نسخة متطرفة من مساعي سوريا نحو تحرير الاقتصاد في التسعينات والعقد الماضي. قدمت المجالس البلدية في دوما وغيرها من المناطق المدمرة في الغوطة الشرقية مثالاً صارخاً في أواخر العام 2018: "إذا أراد الناس إزالة الأنقاض، فعليهم استئجار جرافات من البلدية على نفقتهم الخاصة"، هذا ما قاله تاجر عقارات من دمشق. "يقتصر تعامل البلدية على الطرق الرئيسية فقط، ومن المعروف أن عمال البلدية يدمرون المباني عندما يزيلون الأنقاض دون مبالاة، ولذا يفضل الناس القيام بذلك بأنفسهم."

يُترك المواطنون ليتنقلوا في عملية خصخصة

يتزامن تضاؤل قدرة البيروقراطية مع توجه متزايد نحو الكسب غير المشروع، فالسوريين من شتى مناحي الحياة - بمن فيهم موظفو الحكومة - يتذمرون باستمرارٍ من تفشي ثقافة الفساد، كما يتندرون أحياناً بأن مسؤولية دعم الدولة اليوم تفع على عاتق المجتمع السوري، وذلك في انعكاس صارخ للجذور الاشتراكية لنظام البعث. يصف صاحب مصنع هذه الدينامية والاضطرابات الناتجة عنها بقوله:

يتدخل موظفو الحكومة الآن في كل شيء، فيمكن لموظف صغير في مديرية الكهرباء السير إلى مصنعي فيفتش كل شبر فيه دون إبداء السبب، وينطبق الشيء نفسه على موظفي المياه وخطوط الهاتف والضرائب والصحة والبيئة والإدارة المحلية والجمارك.

قبل بضعة أيام فقط، جاء أربعة من موظفي الجمارك إلى مصنعي وهم يصرخون مطالبين بتفتيش منشأتنا بأكملها، حتى المطبخ فيها، وعندما سألتهم عن سبب وقاحتهم الفجة تلك، أجابوا بأنهم يتمتعون بسلطة التحقق من أي شيء واعتقال أي شخص، فما كان مني إلا أن رشوتهم في نهاية المطاف. قبل ذلك، جاءت لجنة من مديرية البيئة إلى المصنع للتحقق مما إذا كنا نستخدم مواد ضارة، ولو أنني لم أرشهم، للفقوا لي تقريراً وأغلقوا المصنع بكل سهولة.

يمتد توجه الدولة نحو الابتزاز من الأسفل إلى الأعلى، ورغم توقف الهيئات الحكومية عن تأدية وظيفتها كمهندسة للسياسة الاقتصادية إلى حد كبير، إلا أنها تواصل التدخل في القطاعات التي توفر فرصاً لجباية الأموال إلى خزائن الدولة. قال أحد رجال الأعمال: "يزيد النظام حياة الجميع صعوبة، وبصفتي مصنّعاً، كان علي مؤخراً شراء مليون ملصق من الحكومة لأضعها على منتجاتي لكي أثبت أنها صنعت في سوريا، فكلفني ذلك 14 مليون ليرة (أي ما يعادل 30،000 دولار) في الوقت الذي أصارع فيه لتحقيق تساوٍ بين المصاريف والأرباح.

يمتد توجه الدولة نحو الابتزاز من الأسفل إلى الأعلى 

تتجلى عمليات الانسحاب والتدخل المتزامنةُ تلك في قطاع الاستيراد والتصدير بشكل خاص. ونظراً لأن سوريا تغدو معزولة وغير منتجة على نحو متزايد، فقد تراجعت الصادرات وزاد الاعتماد على الواردات من الدول المجاورة وكذلك من روسيا وإيران والصين. من بين المشاكل الأخرى، يفاقم هذا الخللُ في الميزان التجاري النقصَ في احتياطي العملات الأجنبية الناجم عن العقوبات الأمريكية والأوروبية.

لقد تمكنت دمشق من تحمل هذا الضغط من خلال الإدارة الدقيقة لتدفق الواردات ومنح الحقوق لأفراد بعينهم وزيادة الرسوم المختلفة، وأبرز مثال على ذلك هو إعادة فتح الحدود السورية مع الأردن في أواخر العام 2018 ما أدى إلى ارتفاع قصير الأجل في التبادل التجاري، ارتفاعٍ سرعان ما تلاشى بسبب زيادة بلغت ثمانية أضعاف على الرسوم على الشاحنات العابرة من الأردن. تحد هذه القيود - من وجهة نظر دمشق - من قدرة مستوردي القطاع الخاص على إنفاق العملات الأجنبية، وتزيد من فرص الفساد عالي المستوى، بيد أنها تحرم الدولة من عائدات التطبيع الجزئي للتجارة وتكبّل المصدّرين الذين تحتاجهم سوريا لاستقطاب العملات الأجنبية. وصف أحد مصدّري المواد الغذائية المصاعب التي يواجهها قائلاً:

تريد منا الحكومة السورية أن نقوم بالتصدير وتيسر لنا ذلك نسبياً، بيد أن المشكلة تكمن في الواردات، فنحن بحاجة لاستيراد المواد الخام من الخارج، لكنّ الحصول على موافقة لشرائها بشكل قانوني أمرٌ في غاية الصعوبة، ولا يستطيع سوى عدد قليل من المستوردين ذوي الصلات القوية مع الحكومة إدخال البضائع عبر المنافذ، ونتيجة لذلك، تلجأ كثير من المصانع إلى التهريب من لبنان، ما يستوجب دفع الكثير من الرشاوى.

في موازاة ذلك، فرضت دمشق في العام 2019 مطلباً يقضي بأن يبيع جميع المصدّرين أرباحهم بالدولار إلى البنك المركزي السوري بسعر الصرف الرسمي في محاولة لدعم وصول الحكومة للعملات الأجنبية. شرح رجل أعمال يصدر الملابس إلى لبنان والأردن والعراق والخليج كيف أن هذا القانون الجديد يلزم المصدرين بدعم الدولة قائلاً:

يفرض البنك المركزي علينا أن نبيع دولاراتنا للحكومة بسعر الصرف الرسمي وقدره 435 ليرة سورية، أما في السوق الرمادية فيبلغ سعره 615 ليرة، وهو السعر الذي نشتري به جميع موادنا الخام، ما يعني أننا نخسر نحو 200 ليرة لكل دولار. إننا نعمل لصالح حكومة لا تعطينا شيئاً في المقابل: لا إعانات، لا مواد، لا شيء.

أصدقاء كهؤلاء

في العموم، إن جُلّ ما يفعله حلفاء سوريا الاقتصاديين الأهم هو أنهم يفاقمون هذا الخلل الهيكلي، فموسكو وطهران، من ناحية، عنصران لا غنى عنهما لإبقاء الاقتصاد السوري واقفاً على قدميه وذلك من خلال شحنات الوقود والقمح التي تشتد الحاجة إليها، إلى جانب التعزيز الشامل للعلاقات التجارية في وقت تسعى فيه هذه الدول الثلاث إلى التحايل على العقوبات الغربية، فراحتِ المنتجاتُ الروسية والإيرانية الرخيصة تغزو الأسواق السورية تدريجياً، وظلت الصين شريكاً تجارياً رئيساً، ولكنها لم تقْدم في مقابل ذلك على أية خطوة ملموسة نحو استثمارات واسعة النطاق.

وعلى النقيض من ذلك، تتطلع روسيا وإيران إلى تعويض ما ينفقانه في سوريا عن طريق وضع يديهما على حصص متزايدة مما تبقى من ثرواتها في عملية ترقى إلى رهن مستقبل البلاد الاقتصادي، وأبرز مثال على ذلك هو نفوذ روسيا المتزايد في ثروات سوريا من النفط والغاز والفوسفات. يصف مهندس نفط من حمص هذه العملية بالقول:

في أوائل عام 2018، بدأت الشركات الروسية بالتغلغل في قطاعي النفط والغاز، فوقّعت هذه الشركات عقوداً مع الحكومة السورية، حيث أنها سوف تستثمر بموجبها حقول النفط والغاز وتشغلها مقابل الحصول على نحو 25 في المائة من الأرباح. أما في السابق فكانت الحكومة السورية تدير كل شيء وتحصل على الإيرادات كلها. تريد روسيا احتكار هذا القطاع ودفع الحكومة نحو تجنب إصدار عقود لأية شركات غير روسية.

تمثل الموانئ البحرية السورية أيضاً مقصداً رئيساً للتغول الروسي والإيراني، ففي مطلع العام 2019، منحت السلطاتُ السورية شركةً روسية عقد إيجار لميناء طرطوس التجاري مدته 49 عاماً، ما أثار حفيظة حتى الموالين الذين راحوا يتهمون دمشق بالتفريط بالبنية الاقتصادية التحتية الحيوية، ويقال إن طهران تنافس على دور مماثل من خلال مباحثات بين الحكومة السورية وشركة إيرانية تسعى لتولي إدارة ميناء اللاذقية، وفي حال تم هذا الاستحواذ فسيقوي نفوذ إيران الاقتصادي وسيخلق مشاكل جديدة تتعلق بالعقوبات. يصف مدير يعمل في شركة شحن دولية تلك المخاطر قائلاً:

يضع العرض الإيراني من أجل الميناء الحكومةَ السورية في موقف حرج، فإن شقّ عليها الرفضُ، سيكون من المستحيل أن توافق، فإنّ منحك شركة إيرانية الهيمنة على الميناء لا يختلف عن إطلاقك النار على رأسك لأن الشركات الغربية لا تستطيع التعامل مع الإيرانيين وسيكون عليهم وقف الشحن إلى هذا الميناء على الفور.

ضباب العقوبات

بينما تأتي دمشق وحلفاؤها على ما تبقى من الاقتصاد السوري، تسرّع الحكومات الغربية من هذا التدهور من خلال التصعيد الاقتصادي، فقد تراكمت العقوبات الأمريكية والأوروبية في طبقات مستهدفة مزيجاً من الشخصيات المقربة من النظام وقطاعات الأعمال المرتبطة بجهود دمشق الحربية، بل وراح تأثيرها يطال كل سوري يعيش داخل سوريا تقريباً، وكثيراً ممن لا يعيشون فيها.

تُعزى هذه الصعاب بالدرجة الأولى إلى نقص الوقود والمواد الأخرى اللازمة لنشاط التجارات من الصناعة إلى الزراعة، وتندمج العقوبات القطاعية هنا مع الإجراءات الغربية ضد الشركاء التجاريين الرئيسيين، أي روسيا وإيران. قال مهندس مقيم في دمشق متذمراً: "تجلب العلاقات مع إيران مزيداً من العقوبات على سوريا، وسوريا وإيران مختنقتان، ولذا لا يمكن لأحدهما أن يساعد الآخر. هناك مثل سوري يقول: "الميت لا يحمل ميتاً."

وما يضاعف من هذا الألم الاقتصادي طردُ سوريا من نظام مالي عالمي يتربع الدولار على عرشه، حيث يقول مصرفي في دمشق: "تسيطر نيويورك على القطاع المصرفي في العالم، ولذا لا يمكن للمصارف السورية أن تتعامل إلا مع بنوك أخرى داخل سوريا أو عبر صفقات خاصة مع البنوك الروسية والإيرانية، وروسيا وإيران عاجزتان عن سد هذه الفجوة لأنهما لا تملكان قطاعين مصرفيين مستقلين محترفين." إن لهذه الحالة من النبذ آثار غير مباشرة، فعلى سبيل المثال، من الصعب للغاية بالنسبة للسوريين هنا فتح حسابات مصرفية أجنبية أو تحويل الأموال بين البنوك السورية والأجنبية، كما يعاني السوريون في الخارج من هذا الأمر لأن جنسيتهم وحدها كافية لإقناع العديد من المؤسسات المالية الغربية بأن تزويدهم بالخدمات الأساسية قد يعود عليها بمخاطر أكبر مما ستدره عليها هذه التعاملات.

لذلك تجد المنظمات السورية غير الحكومية الممولة من الغرب نفسها مجبرةً على تكريس موارد ثمينة لطمأنة مموليها أنها في منأى عن أية تعاملات يمكن أن تجلب لهم العقوبات، كما يجب على الممولين أنفسهم أن يفعلوا الشيء نفسه، أي جعل الالتزام بالقانون أولويتَهمُ القصوى عند أيّ تدخل، إذ يمكن لأدنى خطوة خاطئة - كإدراج كلمة "سوريا" في مذكرة التحويل المصرفي - أن تؤدي إلى مضاعفات لا حصر لها، ولذلك يتم دفع أجور الموظفين السوريين نقداً أو عن طريق أنظمة تحويل الأموال شبه الرسمية التي تُعرف بالحوالة.

إن لهذه الحالة من النبذ آثار غير مباشرة

تأخذ مثل هذه الصعوبات أبعاداً جديدة لدى الشركات العاملة في سوريا، حتى بالنسبة لتلك التي تقوم بأكثر الأنشطة براءة. يصف أحد تجار المواد الغذائية في دمشق مصاعبه قائلاً:

كان من السهل استيراد البضائع من روسيا وأوروبا الشرقية عبر موانئ اللاذقية وطرطوس. تزيد العقوبات من صعوبة تحويل الأموال إلى البنوك الأوروبية وحتى الروسية، ولذا فإنَّ علينا أن نعتمد بشكل متزايد على شراكات مع التجار اللبنانيين الذين يستوردون المواد إلى بيروت بأسمائهم ثم يشحنوها إلى دمشق عبر الحدود، وأتوقع أن يزداد اعتمادنا على شراكات كهذه كلما اشتدت العقوبات.

تجبر العقوبات الشركات السورية على اللجوء إلى حلول معقدة، كما أنها تشكل رادعاً قوياً للشركات الأجنبية ورجال الأعمال السوريين المغتربين الذين يفكرون في الدخول إلى السوق، فالأمر متعلق بالعقوبات نفسها كما هي الحال مع الإفراط في الامتثال، فغالباً ما تتجنب الشركات حتى النشاط المشروع في بيئات تخضع لعقوبات شديدة درءاً للمخاطر والتكاليف الإدارية التي قد تجلبها لنفسها إن هي أقدمت على الخوض في بيئات كهذه. يصف مسؤول شركة الشحن هذه التعقيدات بقوله:

تجعل العقوبات الأمريكية الحياة صعبة للغاية. لدينا مكتبٌ مخصصٌ لهذه المسألة وعليه أن يقول عند كل عملية منفردة: "يمكنك القيام بذلك" و "لا يمكنك القيام بذلك" و "يجب أن تتم هذه العملية بهذه العملة." عليك أحياناً أن تقرر بكل بساطة أن أرباح الشحنة لا تستحق المجازفة.

لا شك أن بعض العقوبات الغربية مبررة، فالتدابير التي تستهدف شخصيات بعينها مقربة من النظام وأزلامه الكبار لهي تدابير مستحقة ومفيدة على حد سواء لأنها تولد قدراً صغيراً من المساءلة لأولئك الذين يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بجرائم الحرب، كما أنها تمثل مصدر إزعاج مالي ولوجستي لهؤلاء الأفراد والنظام على نطاق أوسع.

اتسمت المناقشة العالمية للعقوبات بكونها سطحية وثنائية صِرفة

بيد أن العقوبات "القطاعية" الأكثر شمولاً تمثل صورة أكثر تضارباً، ويمكن القول إنها تتجاوز الحدَّ إلى عقاب جماعي، حداً سيزداد انطماساً حالَ تمريرِ "مشروع قيصر" المقترح في واشنطن، وهو قانون من شأنه أن يوسع بشكل كبير دائرة الأفراد المستهدفين بالعقوبات، ما سيضاعف من تأثيرها المهول أصلاً، وفي حال إقرارها، سيصبح التراجع عنها صعباً للغاية، فلا تزال سوريا خاضعة لعقوبات أمريكية فُرضت في الثمانينيات واستمرت حتى أثناء التقارب الدبلوماسي بين البلدين.

اتسمت المناقشة العالمية للعقوبات - بالنظر إلى مدى الخطر – بكونها سطحية وثنائية صِرفة، فأنصار دمشق يرون أن العقوبات هي العقبة الرئيسة أمام تعافي الاقتصاد، بينما يميل خصومها إلى التقليل من دور العقوبات في مفاقمة معاناة المدنيين، أو يتجاهلون هذا الدور كلياً، وهذا الاتجاه بين صانعي السياسة والمعلقين الغربيين يعززه المعارضون المتشددون في الشتات السوري، والذين غالباً ما يكونون في طليعة الدعوات لفرض عقوبات أقسى مع القليل من الاهتمام بالتكلفة. حلّل ناشط سوري أكثر اعتدالاً يقيم في واشنطن الوضع قائلاً: "هناك انفصال تام وكامل عن الظروف داخل سوريا، فالناس هنا أصابهم العمى من شدة كرههم للنظام الذي يرون فيه ورماً يجب استئصاله بكافة الوسائل الممكنة."

وما يثير الحفيظة أيضاً ذاك الفصل بين تشديد العقوبات وأهداف السياسة، فالخطاب الغربي يصور العقوبات في إطار أهداف تتراوح بين اللامعقول والعبثي، حيث ما تزال الدول الأوروبية تأمل في أن يجبر الضغط المالي المستمر دمشق على قبول شكل ما من أشكال التسوية السياسية، الأمر الذي سيسمح بدوره بانتعاش الاقتصاد وبالتالي عودة اللاجئين، أما صناع السياسة الأمريكيون، فيربطون العقوبات بالانتقال السياسي في حين يتمسكون بمطلبهم الغريب المتمثل بطرد القوات الإيرانية من سوريا. تشكل هذه العقوبات - بالنظر إلى انعدام عقلانية هذه الأهداف – عماد سياسة تتلخص في العقاب الاقتصادي بشكل افتراضي.

الإفراغ

تتراكم هذه العوامل في طبقة فوق أخرى من ضغطٍ يثقل كاهل مجتمع غير مجهز للتعامل مع هذا الضغط، ويتجاوز إفراغُ سوريا الأرقام المفزعة عن الموت والدمار والتجنيد والنزوح، إفراغٌ أدى إلى تآكل قدرة المجتمع على تجديد ما قد خسره.

يوفر القطاع الزراعي في سوريا نافذة على انحدار سوريا المستمر. لقد أثبتت المجتمعات الريفية في جميع أنحاء سوريا قدرتها على التكيف بشكل ملحوظ خلال الحرب، كما أظهر الإنتاج الزراعي على نطاق صغير علاماتٍ على تعافٍ أسرع من الميادين التي تتطلب رؤوس أموال كبيرة كالصناعة والطاقة، غير أن المزارعين من درعا إلى الحسكة مروراً بحمص يؤكدون على التحديات المستمرة التي يفرضها تضاؤل رأس المال البشري، من العمالة غير الماهرة إلى المحترفين المتخصصين. يصف مزارع في ريف حماة تأثير الهجرة الذي شل الزراعة بقوله:

لا يمكنك الزراعة دون مزارعين، وأعتقد أن ثلث سكان قريتنا قد رحلوا، ولا يزال الوضع غير مستقر. أنا شخصياً أخطط للهجرة مع عائلتي في الأشهر المقبلة، ولدى معظم الآخرين خطط مماثلة، وبصراحة لا أعتقد أن أحداً سيظل هنا في غضون بضع سنوات، وإذا ما استمرت الهجرة بهذه الوتيرة، فستتوقف الزراعة في المنطقة بالكامل.

وكذلك أدى نزيف العقول المستمر إلى إنهاك المؤسسات الحكومية المسؤولة عن تعزيز الزراعة والقطاعات الرئيسة الأخرى بطرق تزيد من تعقيد فرص التعافي. قال موظف في المصرف الزراعي السوري، وهو كيان حكومي يقدم للمزارعين القروض والإعانات: "لقد هاجر محاسبونا ومديرونا الأكفاء إلى تركيا ودول الخليج وأوروبا؛ كما أنَّ تدني الرواتب الحكومية يثني خريجي الجامعات عن العمل في البنوك التي تديرها الدولة، فهم يجنون ضعف هذه الرواتب في القطاع الخاص، كما أنّ معظم الموظفين الجدد من الأرامل وبنات الشهداء."

على الرغم من انحسار العنف في معظم أنحاء البلاد، سيُبقي سوط التجنيد الإلزامي الشباب خارج إطار القوى العاملة في المستقبل المنظور. قال طالب في السنة الثالثة في كلية الهندسة الزراعية بجامعة دمشق: "ليس لدي أية أحلام أو خطط للمستقبل، وهمّي الوحيد هو تجنب الخدمة العسكرية، فأمام أمثالي من خريجي الجامعات الذكور خياران: إما الانضمام إلى الجيش أو مغادرة البلاد."

وما يضاعف هذه المشكلة تدهور قطاع التعليم الذي استُنزفت موارده البشرية والمالية بينما يغرقُ في دائرة الفساد ورداءة التعليم، قال الطالب نفسه: "يتقاضى المعلمون رواتب منخفضة للغاية، لذلك يركزون على تلقي الرشاوى أو الهدايا لإعالة أسرهم، فيبيع بعضهم إجابات الامتحان للطلاب مقابل هاتف ذكي أو زجاجة ويسكي." وأضاف أستاذ في الكلية نفسها قائلاً:

منذ سنة 2011 رحل نحو ثلث أساتذة الكلية التي أدرّس فيها؛ فقد فرّ الأساتذة الشباب لتجنب الالتحاق بالخدمة العسكرية، أما الأساتذة الأكبر سناً من ذوي الخبرة فقد هاجروا لأنهم وجدوا في الخارج فرصاً أفضل، أو لمجرد إخراج أبنائهم في سن التجنيد من سوريا، ثم إنَّ معدلات التخرج باتت منخفضة للغاية لأن الطلاب الذكور لا يرغبون في التخرج، فهم يرسبون عمداً من أجل تأجيل الخدمة العسكرية.

إن هذا النمط الذي يتم من خلاله إضعاف القوة العاملة في سوريا بسبب تدهور هياكل الدعم الأساسية يتكرر في جميع القطاعات الأخرى. يصف أحد مصنعي البلاستيك في منطقة الشيخ نجار الصناعية بحلب مأزقه قائلاً:

يحاول أصحاب المصانع إعادة فتح مصانعهم، لكنهم يواجهون تحديات هائلة، من نقص في الكهرباء والوقود إلى نقص في الأيدي العاملة المدربة، فقد انتقل جميع العمال ذوي الخبرة إلى المناطق التي يسيطر عليها المتمردون أو إلى تركيا، وعندما أتحدث مع الصناعيين الآخرين، يقولون لي إنهم يريدون إعادة تشغيل مصانعهم لكنهم لا يستطيعون العثور على عمال ذكور، وعندما يعثرون على العمال، تأتي الأجهزة الأمنية لتعتقلهم. قبل عام 2011، كان لدي مئتا عامل، أما اليوم فلدي عشرون رجلاً وبضعة نساء وأطفال يعملون في التنظيف والتغليف وإعداد الشاي والطعام لمن تبقى من الطاقم.

لقد كان لتدمير القوى العاملة من الذكور في سوريا تأثير جانبي تمثل في دفع النساء - والأطفال بدرجة أقل - إلى واجهة النشاط الاقتصادي، حيث باتت العائلات تجد طرقاً لتأمين قوت يومها في غياب المعيلين من الرجال، وهكذا راحت النساء تضطلع بدور متزايد في كل مجال تقريباً، من الخدمات المدنية إلى الحِرف اليدوية إلى ريادة الأعمال، وقالت أكاديميةٌ في دمشق: "تلعب النساء دوراً بارزاً بشكل متزايد في الأعمال التجارية الصغيرة والشركات الناشئة والمنظمات غير الحكومية، فهن أقل عرضة للخطر في وضع كهذا كونهن في منأىً عن خطر التجنيد، ويمكنهن التنقل عبر نقاط التفتيش بسهولة أكبر. تشكل النساء 70 في المائة من الموظفين في جامعتي."

الركود المستمر يؤدي إلى تقييد النساء والرجال على حد سواء في نوع من النسيان أثناء الحرب

إنَّ هذا التطور حلو ومر في آن معاً، ففي حين أن بعض النساء سعيدات بطبيعة الحال بالتحول نحو قدر أكبر من الاستقلال المالي والاجتماعي، إلا أن البعض الآخر يشتكين من الإرهاق والقلق اللذين يصاحبان العمل في وظائف متعددة غايتها إطعام أسرهن. قالت امرأة في منتصف العمر من ضاحية داريا المدمرة في دمشق: "نحن نعتمد الآن على أنفسنا، ونلبي احتياجاتنا الخاصة بأنفسنا، بينما في السابق كان كل شيء يأتينا في المنزل. لقد كنا نعيش في ترف."

وما يضاعف من هذا التناقض تلك التوترات الاجتماعية التي تصاحب هذا التغيير السريع، وكذا السؤال الذي يلوح في الأفق والمتمثل فيما إذا كانت العناصر الإيجابية لهذا التحول ستستمر بعد انحسار الصراع. عبّرت الأكاديمية نفسها عن مخاوفها بالقول:

أخشى على استدامة هذا التطور على المدى الطويل، فمن ناحية، تعتمد الأعمال التجارية الصغيرة التي تديرها النساء إلى حد كبير على التمويل الذي تقدمه برامج المساعدات الخارجية، فهن غير مكتفيات ذاتياً، ومن ناحية أخرى تبعث نظرة المجتمع إلى هذه التغيرات على القلق. سوف يعترف الرجال بأن النساء العاملات هنّ الخيار الوحيد في الوقت الحالي، لكنهم يعتقدون أن المسألة باتت خارج أيديهم، الأمر الذي سيؤدي إلى تفاقم التوترات داخل الأسر والمجتمع، ولذلك لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به على هذا الصعيد.

علاوة على ذلك، يضع الركودُ المستمر في سوريا النساءَ في خضمّ اقتصاد لا يطمح معه معظم الناس إلى ما هو أكثر من مجرد البقاء على قيد الحياة، وغالباً ما تؤدي ضرورة الكفاح من أجل الحد الأدنى من الدخل إلى تقييد النساء والرجال على حد سواء في نوع من النسيان أثناء الحرب كونهم لا يستطيعون العودة إلى مسقط رأسهم الذي نزحوا منه، حيث قالت امرأة في ضاحية جرمانا بدمشق أنها ترغب في العودة إلى مسقط رأسها في حي القدم، لكنها لا تزال مقيدة في جرمانا بسبب الحاجة إلى مواصلة العمل:

أعيش حالياً على ما أجنيه من عملي في التنظيف في مدرسة خلال الأسبوع، وفي المنازل في عطلات نهاية الأسبوع؛ ولا يمكنني العودة إلى حي القدم لأنني لن أتمكن من العثور على عمل كهذا هناك، وإن عدت، فسيتعين عليّ السفر إلى جرمانا عبر ثلاث حافلات مختلفة، فأهدر بذلك كل وقتي وأموالي على الطريق.

تهدف الشبكة المترامية الأطراف من برامج المساعدات الممولة من الخارج إلى تذليل هذه الصعاب، وذلك من خلال مجموعة واسعة من التدخلات لبناء القدرات وأخرى لخلق الوظائف، ومع ذلك، غالباً ما تنطوي مثل هذه البرامج على آثار جانبية غير مقصودة، حيث تستقطب الوظائف جيدة الأجر في وكالات الأمم المتحدة أو المنظمات غير الحكومية المواهبَ من القطاعات الأخرى إلى سوق عمل يعتمد وجوده على قرارات سياسية يتم اتخاذها في عواصم بعيدة. في هذه العملية، أنشأ قطاع المساعدات طبقة جديدة من أثرياء الحرب، والذين تُعتبر رواتبهم العالية جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد السوري الهش بقدر ما تسبب حنقاً لدى أغلبية السكان الذين ما زالوا غارقين في الفقر.

خطوتان إلى الأمام، خطوتان إلى الوراء

إن الصراع الاقتصادي المتعمق في سوريا يحمل أصداء مشؤومة من الصراع العسكري، فكل بطل يتقدم بنفس النهج الذي اتبعه طوال حقبة الحرب، وفي خِضمّ هذه الفوضى، تحول دمشق حملتها العدمية للنجاة بنفسها من الميدان العسكري إلى الساحة الاقتصادية بشكل تدريجي، فمنذ البداية سعى النظام إلى النجاة، لا عن طريق وضع جدول أعمال إيجابي للمستقبل، بل عبر إطلاق العناصر والنزعات الأكثر عنفاً في صفوفه لإرهاب البلاد وإجبارها على الخضوع، لتتحول هذه العملية الآن من مرحلة إلى أخرى، حيث يقوم أفراد الميليشيات السابقون والأجهزة الأمنية بدمج أنفسهم في اقتصاد غدا أكثر تعقيداً، اقتصادٍ قائم على السلب والنهب.

حتى الغرب اتسمت سياسته بالتشوش وعدم الاتساق

من جانبهما، ظلّت موسكو وطهران ملتزمتين بثبات بالحفاظ على النظام في شكله الحالي حتى وإن أغاظتهما عيوبه، ففي حالة روسيا، نجد أنَّ كل ما تفعله هو الكلام عن وعود بالإصلاح، وهي وعود لم يتم الإيفاء بأي منها، ومع استخفاف دمشق باتفاقات وقف إطلاق النار والمصالحات التي جرت بوساطة روسية، أثبتت موسكو أنها إمّا غير قادرة على تغيير سلوك النظام بشكل جذري أو غير راغبة في ذلك. وهكذا، فإن الوساطة الروسية هي غطاء سياسي أكثر من كونها أداة تغيير، وهو الأمر الذي يزيد من عناد النظام وتردد الغرب.

وحتى الغرب اتسمت سياسته بالتشوش وعدم الاتساق، فاللاعبون الذين اختاروا بتردد التدخل العسكري أملاً في فرض حل سياسي يشددون الآن العقوبات الاقتصادية سعياً لتحقيق الغاية اللامعقولة ذاتها. تجرب الحكومات أشكالاً مختلفة من الضغط على أمل الوصول إلى انفراج، إلا أنها تفشل فشلاً ذريعاً في تقدير الأضرار الجانبية التي لحقت بالمجتمع السوري.

لقد أثبت المجتمع قدرته على التكيف في ظل ظروف اقتصادية مزرية، رغم أن هذا التكيف غالباً ما يأخذ أشكالاً ضارة يلجأ فيها أفراد يائسون إلى وسائلَ يائسةٍ للنجاة، من قبيل النهب والفساد إلى انتشار الخطف والدعارة والاتجار بالمخدرات، كما يتجلى هذا التكيف في أشكال هادئة ومستمرة من الابتكار وريادة الأعمال، فأصحاب المصانع الذين نجوا ذات يوم من الحصار والقصف من خلال تهريب خطوط الإنتاج إلى المحافظات المجاورة سوف يفكرون بالفوائد المحتملة قبل استئناف العمل في مدنهم الأصلية، إلا أن التجار الذين خنقتهم العقوبات الغربية وتدخلات النظام يستفيدون من تحسن حرية الحركة وتدني العنف وانخفاض عدد نقاط التفتيش، أما المزارعون الذين يكافحون من أجل الوصول إلى المواد الرئيسية، مثل الأسمدة والتي تستهدفها العقوبات كعنصر في تصنيع الأسلحة الكيميائية، فيدخرون المال أو يقترضونه لشراء الأبقار التي بدورها تنتج السماد العضوي.

شكراً لك! إنَّ مشاركتك النَّشطة - ببساطة عن طريق استثمار وقتك في عملنا ومشاركته مع مَنْ هم حولك - هي مكافأة كبيرة لنا. يسافر هذا المنشور بقدر ما تحمله والجمهور؛ لذلك نحن ممتنُّون للغاية.

يؤدي هؤلاء مجموعة من المهام التي لا غنى عنها في كفاحهم لتغطية نفقاتهم. لا يوفر أصحاب الأعمال على وجه الخصوص فرص عمل فحسب، بل أشكالاً من الدعم الاجتماعي المنقذة للحياة، من التبرعات الخيرية إلى المساعدة المالية المباشرة لأسر الموظفين المتوفين في وقت توقفت فيه الدولة عن توفير رواتب أو رعاية اجتماعية ذات معنى، كما ويسهمون في الحفاظ على تدفق ولو قدر ضئيل من العملات الأجنبية التي تدعم الاقتصاد السوري، وبالتالي يمنعون الليرة السورية من الانزلاق أكثر في التضخم، ولو استثنينا بعض التغيرات الجوهرية من جانب دمشق أو حلفائها الأجانب أو خصومها، فإن المشاريع الصغيرة هي من ستقود أي تعافٍ جزئي قد يحدث في سوريا.

 30 ايلول/ سبتمبر 2019 

تم اعداد هذا المقال بشكل جماعي من قبل فريق سينابس - سوريا
قام بالترجمة للعربية حسان حساني

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة كونراد أديناور ستيفتنغ


إن مضمون هذه الورقة لا يعكس بالضرورة الرأي الرسمي لمؤسسة كونراد أديناور ستيفتنغ.

مسؤولية المعلومات والآراء الواردة فيها تقع على عاتق الكاتب وحده.

تم استخدام الصور بموجب رخصة المشاع الابداعي من:
 Sebastian Wallroth Unusually quiet even for a Friday by Wikipedia; Syrian pound by Wikipedia


محتوى ذو صلة