إن الجوانب الكثيرة لفشلنا في سورية ستستدعي سنيناً من مسائلة الذات، بيد أنَّ قطاع المساعداتِ الإنسانيةَ هو أحد المجالات التي تتطلب اتخاذ إجراءاتٍ جريئةٍ وفوريةٍ. لا تكمن المشكلة في عجزنا عن معالجة الحجم الهائل للمعاناة والخلل الذي قد يتجاوز قدرة أي أحدٍ على تذليله، بل في مفارقةٍ غير مبررةٍ: صحيحٌ أن برامج المساعدات والتنمية باتت مدفوعةً أكثر فأكثر بالرغبة في إبقاء السوريين داخل سوريا أو فيما جاورها من بلدانٍ، غير أنها تميل أيضاً إلى إضعاف السوريين الراغبين في البقاء في بلدهم، أو مساعدة بعضهم البعض. ولطالما شابَ العجزُ والقصورُ العلاقةَ بين المانحين الدوليين والشركاء المحليين على الرغم من وجود سبلٍ واضحةٍ وممكنةٍ لتحسين هذه العلاقة.
وتكمن المفارقة الأخرى في أنّ الأزمة السورية يمكن وصفها بأنها أكثر الأزمات الموثقة على مرّ التاريخ، غير أن الاستجابة الإنسانية التي تُقدر بمليارات الدولارات ظلت بعيدةً عن الواقع والأولويات على الأرض. وعلى الرغم من التغطية الإعلامية المستمرة، ووفرة العمل الميداني من قبل السوريين، والجهود المتطورة من قبل مجتمع المساعدات والتنمية لتتبع الأحداث وتوليد البيانات، فقد فشلت جهود الإغاثة مراراً وتكراراً في مواكبة تصعيد الصراع وتطوره، وذلك أنَّ الأولوياتِ الدوليةَ متأخرةٌ شهوراً أو حتى سنواتٍ وراء التطورات في هذا المجال.
وفي صميم كلتا المفارقتين يكمن التحدي ذاته، ألا وهو ربط نظامٍ دوليٍ مثقل بالإداريين بالديناميات المعقدة والمتقلبة على مستوى القاعدة، وهو حيّزٌ يُظهر فيه السوريون مقدرةً يجب فهمها وتسخيرها إن أردنا لبرامج المساعدة والتنمية أن تكتسبَ أهميةً وتجذبَ اهتمامَ المعنيين.
الحق يُقال إن الصراع السوري يمثل بيئة عملٍ مرعبةً، فمستويات العنف مروعةٌ، والاحتياجاتُ هائلةٌ، كما أن الوصول المباشر بالكاد موجود، وفي أفضل الأحوال تُقدّم البلدان المجاورة أرضيةَ انطلاقٍ مربكة للقيام بالعمليات الإنسانية، كما تجد الجهاتُ المانحةُ والمنظماتُ غيرُ الحكومية الدوليةُ ووكالاتُ الأمم المتحدة نفسَها مجبرةً على التعامل مع بيئةٍ أمنيةٍ مربِكةٍ، وحواجزَ لغويةٍ كبيرةٍ وثغراتٍ في المعلومات، ومع مجتمعٍ مدنيٍ مزدهرٍ ولكنه مفتتٌ ويفتقر إلى المهنية والتماسك الداخلي وفهم المعايير الدولية؛ والنتيجة النهائية هي مشهدٌ مجزأٌ ومنغلقٌ وقاهرٌ عموماً؛ مشهدٌ أدى فيه التغيير السريع للاعبين الرئيسين في سوريا إلى عرقلة الجهود الرامية إلى تطوير علاقاتٍ مستقرةٍ. تضيف المخاوف الغربية بشأن من قد يكون أو لا يكون على علاقة مع الإسلاميين المدرَجين في القائمة السوداء طبقةً أخرى من الغموض.
آلية إيصال الأموال إلى مستحقيها تربك الجميع
وإنك لترى حتى أكبر الشركاء السوريين وأكثرهم نضجاً قد تعثّروا بمجموعةٍ من العقبات والديناميات المتغيرة على الأرض باستمرارٍ، وبقدرتهم المحدودة على وضع أجندةٍ للمساعدات والتنمية، والعوائق التي يضعونها بأنفسهم والمتعلقة بالقيادة الفردية، ما يعرقل عملية اتخاذ القرار الجماعي. في هذه الأثناء، على مستوى القاعدة الذي يعتمد عليه السوريون المعوزون أكثر من غيره؛ تركت كثرةُ المبادراتِ غيرِ الرسميةِ والعابرةِ الجميعَ تقريباً في حيرةٍ من أمرهم بشأن كيفية جعل الأموال تصل إلى مستحقيها.
وسط كل هذا التعقيد، لم يجد اللاعبون الدوليون بعدُ نموذجاً فعالاً للتعامل مع الجهات الفاعلة المحلية التي تعرف واقعَ الحال حقَّ المعرفة وصاحب المصلحة الأكبر. تدرك الجهات الغربية أن المكون المحلي القوي شرطٌ لأعمال الإغاثة الفعالة، غير أن التوجه السائد اليوم هو قيام المنظمات غير الحكومية الدولية ووكالات الأمم المتحدة بتوجيه جلّ الأموال المتاحة للتعاقد مع منظماتٍ سوريةٍ غير حكوميةٍ تتقاضى رواتب هزيلةً نسبياً، وغالباً ما تُترك لتتدبر التكاليف العامة بنفسها. يدفع هذا أفضل الموظفين في تلك المنظمات إلى الانتقال للعمل مع منظمات دولية أكبر حجماً، ممن تدفع رواتب أكبر، وعلى هذا النحو تُنفَق مواردُ هائلةٌ على الوسطاء، ما يخلق استياءً كبيراً بين السوريين.
وبينما تتعثّر مفاوضاتُ السلامِ المزعومة ويطول أمد الحرب في سوريا، تصبح الحاجة إلى شراكاتٍ أكثر فاعليةً ومساواةً بين المنظمات الغربية ونظيراتها السورية أكثرَ إلحاحاً من أي وقتٍ مضى
بيد أن الأمور في الوقت الحالي تسير في الاتجاه المعاكس، إذ يبدو أن الأموال المتاحة باتت تتركّزُ أكثر فأكثر داخل المنظمات المثقلة بالإداريين، بدلاً من أن تذهب إلى مستحقيها، وذلك لعدة أسباب: فمع ازدياد حجم المساعدات، تبدو المنحُ الأكبرُ حجماً والأطول أمداً الطريقةَ الوحيدةَ للتوزيع ضمن الإطار الزمني المخصص لها؛ ونظراً لأن المانحين يفرضون إجراءاتهم البيروقراطية الخاصة بهم على الشركاء والمقاولين، فإن المَبالغَ الأكبرَ تفرض تعقيداً أكبر من جانب المتلقين؛ كما تزيد المشاريع الكبيرة من الحاجة إلى الخدمات الثانوية مثل المراقبة والتقييم، ما يعزز تجارةً موازيةً تستهلك كثيراً من الموارد؛ وغالباً ما تحرص الدولة المانحة على استثمار الأموال التي تمنحها داخل منظماتها الدولية الوطنية. تكمن المفارقة في أن السعي المشروع لتحقيق قدرٍ أكبرَ من الشفافية والحوكمة الرشيدة يخلق نظاماً تُحشر فيه المزيد من الطبقات بين المانحين والسوريين، ما يعمّق غياب الشفافية وعدم الكفاءة والإحباطات التي طال أمدها.
تتركز الأموال أكثر فأكثر داخل المنظمات المثقلة بالإداريي
ويُضاف إلى ذلك مشكلة غيابُ الثقة المتبادلُ بين المجتمع الدولي - الذي يرى فيه كثيرٌ من السوريين مجتمعاً عديم الجدوى وكل همّه التربّح - والمنظمات غير الحكومية السورية التي يشكّك اللاعبون الغربيون في مستوى مهنتيها وموثوقيتها. ينتج عن عدم اليقين هذا دورةٌ تَفرض فيها المنظماتُ الدوليةُ متطلباتٍ جسيمةً قد تقيد المنظماتِ الأصغرَ حجماً، لا سيما تلك التي تفتقر إلى مهارات اللغة الإنجليزية والفهم الأساسي لنظام المساعدات. في أحسن الأحوال، تؤدي هذه المتطلباتُ إلى إحباطاتٍ جديدةٍ وتفاقم القصور أكثر فأكثر.
كما تتعمّقُ مشاكل التواصل، لا سيما عندما يتعلق الأمر بمحاولة الجهات الفاعلة السورية التوفيقَ بين الأجندة الدولية والحقائق على الأرض. يتذمر كثيرٌ من السوريين (وكذلك عدد من اللاعبين الغربيين) من أن الأولوياتِ الدوليةَ تستغرق عاماً أو أكثر لمواكبة الأولويات المحلية: ففي عام 2013 راح السوريون ينادون بالانتقال من الإغاثة الطارئة إلى برامج "سبل العيش" التي تُوْلي تعزيزَ الاقتصادات المحلية أُولى أولوياتها، غير أن هذا الانتقالَ تأخر حتى عام 2016، وكان الواقع قد تغير جداً حينها. ومن الأمثلة التوضيحية لذلك هي الفجوة بين الغرب والسوريين من حيث الاهتمام بالتعليم الابتدائي داخل سوريا، فقد عانى هذا التعليمُ بعضَ الإهمال رغم أهميته الحيويةِ على المدى الطويل ووفرةِ الجهات الفاعلة السورية الحريصة على اتباع طرقٍ مبتكرةٍ وفعالةٍ من حيث التكلفة لإلحاق أطفالهم بالمدارس.
في صميم هذا الضعف دورةُ تمويلٍ متزمتةٌ نسبياً، إذ يتعين على ما أقلّه ثلاثُ طبقاتٍ متباينةٍ من الجهات الغربية والسورية أن تتحرك ضمن هذه الدائرة بشكلٍ متضافرٍ إذا ما أرادت إحداث أي تغيير. إذا ما شعر رئيسُ منظمةٍ غيرِ حكوميةٍ سوريةٍ أن هنالك حاجةً إلى إعادة ترتيب الأولويات، فعليه أولاً إقناعُ المنظمة غير الحكومية الدولية المتعاقدة معه، والتي يجب أن تقنع بدورها المانحَ (أو المانحين) الخاصَّ بها. في أحسن الأحوال، تستغرق هذه العملية شهوراً؛ وفي أسوئها، تموت هذه المبادرة في مهدها بسبب الخلافات بين الجهات الفاعلة، أو لأسبابٍ أبسط منها كتغيير ترتيب الأولويات الذي يتطلب كثيراً من الوقت والمال والإجراءات المكتبية.
وفي الوقت نفسه، لا يبدو أن علوَّ سقف المعايير المتعلقة بالشفافية والمساءلة المفروضة على الشركاء المنفّذين الغربيين والسوريين ينطبق على المانحين أنفسهم، ما يؤدي إلى علاقةٍ هرميةٍ وغير متكافئةٍ تزيد من انعدام الثقة. في كثيرٍ من الأحيان أصبحت الحوكمة في الجزء العلوي من السلسلة بيروقراطيةً للغاية، ما يجعلها متصلبةً ومبهمةً أكثر من كونها شرعيةً وقابلةً للمساءلة. علاوةً على ذلك، يميل المانحون الذين يربكهم الروتين الإداري الخاص بهم إلى تمرير المِنح إلى المستفيدين الذين يستنفدون كثيراً من الطاقة والموارد في أمور التنسيق، تلبيةً للمتطلباتِ الإداريةَ التي يرون فيها عقبةً في سبيل العمل. كما أن جزءاً من سوء الفهم سياسيٌ للغاية، إذ لا يزال بعض المانحين متمسكين بمفاهيم عفى عليها الزمن بسبب الأحداث على الأرض، كتعزيز الديمقراطية أو إعادة الإعمار على أساسِ فرضيةِ انتقالٍ سياسيٍ حقيقيٍّ. والأسوأ من ذلك أن هؤلاء غالباً ما يتقافزون من عبارة جذابةٍ ومبهمةٍ في ذات الآن إلى أخرى، فكثيراً ما تراهم يرددون عباراتٍ من قبيل "تحقيق الاستقرار" و "مكافحة التطرف العنيف"، لكنهم في تطبيقها مترددون. إن الإصرار على "الحياد" - الذي يشير ضمناً إلى ميلٍ غير إسلاموي واستعدادٍ لفصل العمل الإنساني عن العقلية المناهضة للحكومة في الثورة السورية - يمكن أن يقوض قدرةَ السوريين على التعبير عن آرائهمُ المتحيّزة التي يجب سماعها بدلاً من قمعها إن نحن أردنا رؤيةَ أيّ تقدمٍ نحو حلٍ للصراع. لقد قيّد المتلقون السوريون أنفسَهم عموماً بالبرامج التي يُمليها عليهمُ المانحون ويستاؤون منها في آنٍ معاً، وذلك لعجزهم عن تحديد أولوياتِهمُ الخاصةِ والدفاعِ عنها دفاعاً استراتيجياً.
لا تنطبق معايير الشفافية والمساءلة العالية على الجهات المانحة
إن بقاء هذا الوضع على ما هو عليه بعد زهاء ست سنواتٍ من الصراع لهُو علامةً واضحةٌ على الحاجة الملحّة إلى التطور؛ وإنّ من أساسيات هذا التطور فهمَ الديناميات المعقدة والمتقلبة التي ترسم ملامح السياق السوري فهماً أفضل، الأمر الذي يتطلب بحثاً وتحليلاً مستداماً ومنهجياً، ومتجذراً في معرفة ومشاركة السوريين في سوريا، كما يتطلب نهجاً أكثر حساسية وتكيفاً ومدفوعاً محلياً لتحديد الأولوياتِ الإنسانيةَ والتنمويةَ.
إن الصراع السوري زاخرٌ بالمفارقات المأساوية، اثنتان منها تتعلقان بشكل مباشر بجهود الإغاثة. أولاً، يعيق النظامُ الذي ينوء بالإداريين اليوم إطلاقَ المبادرات الصغيرة محدودة النطاق، مبادراتٌ راحت تنتشر في جميع أنحاء سوريا، وستكون ضروريةً لجعل حياة السوريين تُطاق فيما سيبقى، على المدى المتوسط، دولةً فاشلة. من غير الملائم أن يستثمر المانحون إلى ما لا نهايةٍ في "بناء القدرات" الذي يُتوقع أن يكتسب السوريون من خلاله المهاراتِ والنضجَ والرؤيةَ، والكفاءةَ باختصار، دون إجراء إصلاحاتٍ هيكليةٍ لتمكين هؤلاء السوريين بواسطة موارد مادية واستقلالية حقيقية.
لقد تجاوز المانحون القدرات السورية الموجودة في الأصل
ثانياً، لقد تجاوز هؤلاء المانحون إلى حدٍ كبيرٍ ما لا تحتاجه القدرات السورية من بناءٍ، لأن هذه القدرات موجودةٌ أصلاً. في الواقع، يمتلك المجتمع السوري ثروةً من الموارد غير المستغَلة والمهمة في النزاع: روحٌ رياديةٌ، وأشكالُ تضامنٍ مذهلةٌ داخل حدود الشبكات الاجتماعية، وهويةٌ مرنةٌ ومتعددة الأوجه يمكن أن تساعد في التغلب على الانقسامات الظاهرة، واعتزاز بالاستقلال، وثقافاتٌ شعبيةٌ أصيلةٌ ومرنة، ورغبةٌ بالتعلم، وضروبٌ براغماتيةٌ للغاية في الالتزام الديني، وهلم جراً.
وكما وضّحنا في مكانٍ آخر (انظر مقالَ "الفاجعةُ السوريةُ")، كان السوريون عموماً عمليين ومبدعين بشكلٍ مذهلٍ في كل جانب من جوانب هذا الصراع. وعلى المستوى الشعبي، لا يزال المجتمع السوري فعالاً ونابضاً بالحياة، وقد تمخضتْ طبقتُه المتعلمةُ عن عددٍ من المنظمات غير الحكومية ومبادرات المجتمع المدني التي تتفاعل تفاعلاً بنّاءً مع الشبكات والمبادرات الميدانية؛ ما يشكل سابقةً نادرةً وفريدةً للتضامن والتآزر بين طبقات المجتمع، كما أنها تعمل كنقطة اتصالٍ لا غنى عنها مع العالم الخارجي. وقد اتبعتْ هذه الطبقةُ منحىً تعليمياً حاداً، فباتتِ اليومَ تتعامل مع الآليات المالية (المنح الفردية والتمويل الجماعي والإقراض الصغير بين السوريين)، وكذلك مع حاضنات المشاريع وأدوات المناصرة.
تمثّل هذه الطبقة المتعلمةُ شركاءَ يمكن للاعبين الأجانب فعل المزيد لدعمهم، لا مادياً وحسب، بل من خلال تذليل بعضٍ من البيروقراطية التي يفرضها المانحون، وذلك من خلال مساعدتهم في اكتساب مهاراتٍ محددةٍ للغاية (من خلال التدريبات، ربما، وكذا من خلال دعم الخبراء والموجهين)، ومن خلال تحمّل مخاطر دعم الأفكار الرائدة التي تعكس الأولوياتِ السوريةَ، لا التوجهاتِ العالميةَ السائدةَ. بمعنىً ما، ينطبق الحال هنا على نموذج المشروع الصغير أو المبتدئ، ولتوسيع هذا المشروع، تحتاج المشاريع السورية إلى ما هو أكثر من التمويل: فهي تتطلب بيئةً تُوفِّرُ التوجيه، وترافقها في كل خطوةٍ على الطريق، وبذا تغذي الروحَ الريادية دون تقييدها بالحكمة التقليدية والتعقيدات الروتينية.
المشاريع السورية بحاجة إلى ما هو أكثر من التمويل
وفيما يكافح السوريون في أشد أوقاتهم فاقةً، بات اتباع نهجٍ جديدٍ أمراً ملحّاً، ولا سيما أن فكرة "مساعدتهم" بحد ذاتها قد أصبحت سامةً، فجميع النوايا الحسنة المفترضة التي يُعبَّر عنها من خلال البيانات السياسية والتحركات الدبلوماسية والمساعدات الإنسانية المؤسساتيّة والدعم العسكري لهذا المعسكر أو ذاك موجودةٌ جنباً إلى جنب مع أشكالٍ لا يمكن تصورها من العنف والمعاناة التي يقاسيها ملايينٌ من عامة السوريين. ولذا يجب أن ينحوَ جزء من اهتمام مجتمع المساعدات نحو البدء في رأب العلاقة المقطوعة بين السوريين والعالم الخارجي، وهو أمرٌ قد لا يقل أهميةً عن إصلاح العلاقة المقطوعة بين السوريين أنفسهم.
وغنيٌ عن القول أن المنظمات غير الحكومية الدولية ووكالات الأمم المتحدة تنفّذ برامج بملايين الدولارات، وأنها الوحيدة القادرة على تنفيذها في مختلف الأحوال والظروف؛ ويعي كثيرٌ من الفاعلين في جهود الإغاثة أوجهَ القصور المذكورةَ أعلاه، وهذه العيوب طبيعيةٌ إلى حدٍّ ما، إذ لم يكن أحد مستعداً لمواجهة تحدٍّ بهذا الكم من التعقيد والحجم في سوريا. علاوة على ذلك، تجدر الإشارة إلى أن قليلاً (إن وُجد) من أوجه القصور هذه فريدةٌ من نوعها في السياق السوري: على العكس من ذلك، فإن التحديَ المتمثل في ترسيخ نظام دوليٍ مثقلٍ بالإداريين في دينامياتٍ محليةٍ معقدةٍ ومتقلبةٍ هو سمةٌ استمرت لعقود في النظام الذي وضعناه للعمل الإنساني والتنموي.
غير أن ما يميزُ سوريا هو نطاق الأزمة ومدتها، والفجوة الهائلة بين الموارد الضخمة التي تُحشد والتأثير الضئيل نسبياً على الأرض. واليوم وقد مرت خمس سنواتٍ، لا نجد لذلك الأعذارَ كالمعتاد: فالتشبث بخيط أملٍ في أن تغدو الأمور قريباً أفضل حالاً هو أقرب إلى الوهم والتنازل الأخلاقي؛ كما أن حشد المساعدات في أيدي قلةٍ من وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية يهدد بمزيدٍ من تقويضٍ للمقدرة السورية عندما تكون الحاجة لها في أمسّها. والأمر الأكثر إثارةً للقلق هو بوادر التطبيع الغربي المتسرع مع النظام السوري، والذي قد يخلق مجموعةً جديدةً من المشاكل قبل أن يولّد الحلول، ثم ليبدوَ في غاية السذاجة إذا ما اعتُبر بديلاً عن التعامل مع المجتمع السوري. إن سقوط حلب وقدوم إدارةٍ أمريكيةٍ عبّرت علناً عن نفورها من المعارضة السورية لن يؤدي إلا إلى تسريع هذا التوجه.
لقد خلق حجم المأساة السورية أساساً قوياً للشك، والاستسلام للقَدر؛ فبالنظر إلى تزايد عدد القتلى وفشل المفاوضات، يبدو أن العالم ينساقُ نحو الاستسلام بدلاً من الابتكار؛ غير أن الحرب السورية هي أكثر من مجرد فشلٍ منهجيٍ ومأساةٍ تفطر القلوب: إنها صراعٌ يحدد ملامح هذه الحقبة، ومسألةٌ مروعةٌ تُطرح علينا فلا نجد لها أكثر من إجابةٍ مجتزأةٍ. لا يسعنا أن نتحسر على الماضي، أو ننتظر يوماً ما نتعلم فيه الدروس بعد فوات الأوان، ولا سيما أن الصراع لمّا ينته بعدُ.
وعلى عكس العقيدة العسكرية التي تتطور بسرعةٍ لتعكس الحقائقَ سريعةَ التغير في ساحة المعركة، يبدو أن قطاع الإغاثة متأخرٌ للغاية، فبتركيزه على تنفيذ مناوراتٍ كبيرةٍ، فاته التحول الدراماتيكي نحو العنف الذي ثَبَتَ أنه مدمرٌ بقدر ما هو لامركزيٌّ. تشكِّلُ الدينامياتُ المختلفةُ احتياجاتٍ مختلفةً في فسيفساءِ المعاناة التي يكون المستوى الجزئي فيها أقدَرَ على إحداث فرقٍ منه على المستوى الكلي.
هذا هو الوقت المناسب لبدء تجربةِ نموذجٍ جديدٍ يتمثل في تطوير فهم ووصولٍ أعمقَ للمبادرات السورية العضوية الكثيرة، والانخراط في الشبكات غير الرسمية التي تعتبر ضروريةً لحل المشكلات، والاستفادة من الروح الريادية الفريدة في سوريا. بعبارةٍ أخرى، يجب أن يعيد نظامُ المساعدة السوريينَ إلى قلب أية عمليةِ تعافٍ.
وقد بدأت بالفعل بعضُ الجهات المانحة المتطلعة للأمام والمنظمات غير الحكومية الدولية في القيام بذلك. وسيستلزم إحداث تحولات مؤثرة في هذا الاتجاه إصلاحاتٍ تجعل جهودَ الإغاثة أكثرَ مرونةً واستجابةً للسوريين، الذين يعرفون الاحتياجات حقَّ المعرفة ويقومون بالعمل. ما من شكٍ أنّ على الشركاء المنفذين أن يحسّنوا أداءهم، لكنهم سيفعلون ذلك على نحوٍ أسرع بكثيرٍ إذا ما كانوا في علاقةٍ صحيةٍ أكثر مع رعاتهم. وتقع مسؤولية التغيير أولاً على عاتق الطرف المهيمن في هذه الدينامية، ألا وهم المانحون الذين يتمتعون نسبياً بالخبرة والثقة بالنفس، والذين لا يقاسون الصدماتِ اليوميةَ لهذا الصراع.
قريباً سيكتشف المانحون الذين يتأقلمون مع علاقةٍ قائمةٍ على شراكاتٍ حقيقيةٍ ألا نقصَ في المواهب المحلية. وليظل نظام المساعدات مفيداً، فإنه يحتاج إلى المساعدة، وستأتي تلك المساعدة من السوريين.
2 كانون الثاني / يناير 2017
بيتر هارلينغ هو مؤسس ومدير سينابس. أليكس سايمون هو مؤسس مشارك ومدير فريق سوريا، وروزالي بيرتييه مؤسسة مشاركة ومديرة إدارية.
تم استخدام الصور من: Pyramid of Khufu by Digr / Public domain.