>لبنان 2.0.2.2

>المستقبل الذي نترقّبه

سينابس 

على مدى العامين الماضيين تنقّلَ لبنانُ من نكسة إلى أخرى؛ فقد بَرَدَ فيه الحماس الثوري بفعل انسداد الأفق السياسي والتدمير المالي الذاتي، وأعقبَ ذلك أزمةٌ في قطاع الصحة العامة، وانفجارٌ كارثيٌّ في ​​ميناء بيروت، لتترك هذه السلسلةُ من الكوارث المجتمعَ اللبناني محطّماً يترقّبُ المأساةَ القادمة بقلق.

غير أن وتيرة الأحداث راحت تتباطأ منذ ذلك الحين، إذ يبدو لبنان الآن عالقاً في انحدارٍ بطيءٍ أقرب إلى الاضمحلال منه إلى الانفجار، في عمليةٌ تنطوي على مخاطر جمّة يصعبُ التكهن بها: ما الذي سيحدث إن تفاقمت الخسائرُ المؤلمة التي يتكبّدها لبنان، بينما تخفّ وطأتها بفضل استراتيجيات التكيّف التي يلجأ الناس إليها، وتستغلها الأحزاب السياسية، ويتجاهلها جزئياً بقية العالم؟ ما مقدار المساعدة الخارجية التي يمكن توقعها، وهل ستنفعُ أكثر مما تضر؟

يستحيلُ التنبؤ بدقةٍ بالكيفية التي سيتكشّف فيها هذا المسار، غير أن الديناميات الحالية تحملُ إشاراتٍ عن الوجهة التي قد تُقبل عليها البلاد. قد يؤدي التنبؤ بالمستقبل، وإن اقتصر على الأشهر الست القادمة، إلى رسمِ صورةٍ أوضحَ لطبيعةِ الأخطارِ التي تلوحُ في الأفق. قد لا يتحقّقُ بعضُ هذه التوقعات، وقد يتّخذُ بعضُها الآخر أشكالاً لم تكن أبداً في الحسبان؛ غير أن الاستعداد لهذه الاحتمالاتِ اليوم، سيحسّنُ من قدرتنا على إدارة ما يخبّئهُ الغدُ لنا وللمجتمع ككل.

ومن أجل توقّعِ ما سيحدث، دعونا نتخيّل أننا في شهر كانون الثاني / يناير 2022.


سلسة إمدادات مقطوعة<

بعد أن استنزفا احتياطات الدولار لتمويل اقتصادٍ متعطشٍ للاستيراد، راح القطاع الحكومي والمالي في لبنان الآن يكبحان جماح إنفاقهما. البلادُ لا تزال بحاجةٍ ماسةٍ للبضائع الأجنبية، غير أن المصارف لم تعد تقدمُّ تسهيلاتٍ ائتمانيةٍ للمستوردين، إنما تقدّم استثناءاتٍ للعملاء الذين تعرفهم شخصياً، لكنها لا تُقرض إلا مبالغ صغيرة، وتطالبُ بسدادها بالكامل في غضون شهر، كما أنها تفرضُ رسوماً مرتفعةً للتعويض عن حقيقة أنها لم تعد تقدّم قروضاً مربحة. 

في غضون ذلك، يشكو المستوردون من تحفّظ المورّدين الأجانب حيال السوق اللبنانية التي يرون فيها سوقاً صغيرةً جداً ومحفوفة بالمخاطر ومربكةً بحيث لا تستحقُّ عناءَ الاستثمار فيها، وأما المورّدون الذي يَقبلون التعامل مع هذه السوق فيصرّون على تحصيل المدفوعات مقدماً من خلال مصارفٍ دوليةٍ ذات سمعةٍ مرموقةٍ، والتي بدورها أيضاً تفرضُ رسوماً باهظةً بحجّة ارتفاع تكاليف الامتثال للقوانينِ والنظمِ المتعلقةِ بالفسادِ وغسيلِ الأموال. يحاولُ المستوردون الحصول على خصمٍ من خلال الدفع المسبق للموردين، لكنهم في الواقع مُلزمون بشراء كمياتٍ أصغرَ بأسعارَ أعلى، ما يعكسُ الانكماشَ الذي يضربُ السوق اللبنانية وصعوبةَ تأمين العملةِ الصعبة. 

كما أصبح الوقود الآن نادراً وباهظ التكلفة لغالبية السكان، إذ لا يقدّمُ المصرف المركزي سوى مبالغ صغيرةٍ من الدولارات لثلّة محتكرةٍ من المستوردين ممن يتولون تزويد محطات الوقود في البلاد؛ فخلال الحرب الأهلية طوّرت هذه الثلّةُ من الشركات العائلية موانئها الخاصة بها، وبنيتها التحتية للتخزين وأساطيلها من الصهاريج، كما أنها ترتبطُ ارتباطاً وثيقاً بالطبقة السياسية، وتبيع النفط بقيمة السوق العالمية لكلّ من لا يزال قادراً على الدفع على الفور، ونقداً، قبل التفريغ. وقد أُغلقتِ كثيرٌ من محطات الوقود، لا سيما في المناطق الفقيرة والنائية، لعجزها عن انتاج دخلٍ يكفي لسداد تلك المدفوعات، وأما المحطات التي لا تزال تعمل؛ فتدفع مبالغ إضافيةً لقاء شراء كميات أقل حجماً، فيصبح الوقود عندها أكثر تكلفة للجميع. وتؤدي الوتيرة غير المستقرة لقدوم الشحنات من الخارج إلى مزيد من الانقطاعات، بينما تمس الانقطاعات أحياناً الفئة الميسورة.

ويتسبّبُ نقصُ الوقود بضررٍ بالغٍ في قطاع الكهرباء المتهالك أصلاً في لبنان، فبالكاد تستطيع شركة كهرباء لبنان، أكبرُ منتجٍ للكهرباء في البلاد، توفيرَ متوسطٍ ​​يوميٍ يبلغ ست ساعات من الكهرباء على الشبكة العامة، بينما تعجز شركات المولدات الخاصة عن تعويض ذلك النقص، وقد توقف كثيرٌ منها عن العمل لأن عائداتها لا تغطي التكاليف المتعاظمة للمازوت والصيانة. ولا قِبَلَ للمشتركين بتحمل ارتفاع الأسعار الناجم عن ازدياد تكاليف الإنتاج، كما لا تستطيع غالبية الأسر تحمل تكلفة الاستثمار في بدائل كالمولدات الصغيرة أو الألواح الشمسية، وبالنتيجة أصبحتِ الكهرباء حسب الطلب حكراً على نخبةٍ من السكان تعيش في مجمّعاتٍ مكتفية ذاتياً، أما فيما يخص بقية المجتمع، فقد أصبحت شبكة الدولة مهمةً أكثر من أي وقتٍ مضى. غير أن التسارع لاستخدام الآلات وشحن البطاريات خلال الساعات القليلة المتاحة يؤدي إلى زيادة الضغط، مما يجعل حتى ذلك المتنفس غير موثوق؛ وكثيراً ما تتلفُ الأدوية والمواد الغذائية المخزنة بسبب قصور إمكانيات التخزين البارد. 

وبدون الطاقة، أصبح الإنترنت غير مستقر أكثر من أي وقت مضى، فتشغيل الهوائياتُ اللازمة لشبكة الهاتف المحمول يستلزم الكهرباءَ؛ وكلّما تضاءل التزويد الكهربائي، تتضاءل كذلك تغطية شبكة الجيل الثالث، ولا سيما في المناطق النائية من البلاد. في موازاة ذلك، تتدهور البنية التحتية بفعل مزيجٍ من ضعف الصيانة ونهب الناس الكابلات ليبيعوا النحاس الذي تحتويه؛ وقد أدّى هذا التفكيك إلى أول انقطاع حقيقي للإنترنت في لبنان. بعض هذه الانقطاعات محليٌ، بينما يحدث البعض الآخر على مستوى البلاد. ومثلها مثل الكهرباء، يحدث ضغط على شبكة الإنترنت كلما عادت الخدمة، إذ يتنافس الناس على ذات النطاق المتناقص. ويواجه الموظفون مصاعب في العمل عن بُعد، كما أن نقص الوقود يجعل تنقلهم صعباً. صحيحٌ أن الأسعار لم تتغير، غير أن الفئات الأكثر ضعفاً تتعرض لضغوطٍ متزايدةٍ للبقاء متصلةً بالإنترنت؛ حيث اضطر كثيرٌ منهم إما لبيع معدّاتهم أو أمسوا ببساطة غير قادرين على إصلاحها أو استبدالها.  

كما بات الحصول على المياه محنةً أخرى، وللأسباب ذاتها، إذ لا يزال هذا القطاع معتمداً اعتماداً كبيراً على أشكالٍ شتى من الضخ، بدءاً من الآبار فالأنابيب، فالصهاريج، ثم إلى الأسطح، وتعتمد كل هذه العمليات على الوقود، مما يجعلها باهظة التكلفة. كما تعمّقَ غيابُ المساواة: بين قرى المنبع وقرى المصب، وبين الأحياء التي تتمتع بخدمة مياه الصنبور الصالحة للشرب، أو بين المزارعين الذين يضطر الكثير منهم إلى التخلي عن مزارعهم. وقد تكيّف الناسُ مع الأمر عبر التحول إلى مصادر مياهٍ أقل نظافة، ويمكن رؤية عواقب ذلك على الصحة العامة، لا سيما الزيادات المقلقة في حالات التسمم الغذائي، والأمراض المرتبطة بالنظافة، والأمراض المنقولة بالمياه. 

ولزيادة الطين بلّة، تمتد الثغرات في سلسلة التوريد لتطال الأدوية، إذ تهيمن ثلّةٌ محتكرةٌ أخرى على واردات الأدوية، وقد دأبت هذه الثلة على إغراق السوق بأدوية العلامات التجاريةٍ باهظة الثمن والمدعومةٍ بشكلٍ كبيرٍ من قبل الحكومة، على حساب الصناعات المحلية التي يتطلب تأسيسها سنوات، ولن يكون ذلك إلا بإجراء إصلاحاتٍ تنظيميةٍ تستمر النخبة الحاكمة برفضها. لقد تكيّف السوق بطرقٍ مدمرةٍ، إذ تشتري الأحزاب السياسيةُ الأدويةَ الأساسيةَ من خلال شبكاتها الخاصة، ولصالح قاعدتها الشعبية، وعلى نحوٍ متقطع فحسب؛ بينما يتجنب الناس استشارة الأطباء وارتياد المشافي، ويؤثِرون على ذلك توفيرَ أموالهم لعلاجاتٍ يصفونها لأنفسهم بأنفسهم؛ بينما تشقُّ الأدويةُ المقلّدةُ طريقها حتى إلى الصيدليات ذات السمعة الطيبة. أما المضادات الحيوية واسعة الطيف من الدرجة الأولى، والتي دأَبَ اللبنانيون على استخدمها بإفراطٍ، فقد أمست مجرد ذكرى، مما يجعل اللبنانيين معرضين للأمراض المعدية على نحوٍ متزايدٍ.


أزمةاللّاأزمة<

والمحزن في الأمر أن كلَّ ما سبق قد غدا الوضعَ الطبيعيَّ الجديدَ؛ لتبدو الحال؛ في معظم الأيام؛ كما لو أنّه لا شيء يحدث، فمنذ زمن طويل لم تعد الأخبار اليومية تحمل المفاجآت، ولا يوجد ما يستحق الكلام فيما عدا السياسيين الغارقين في لعبة مملّة من تبادل اللوم. لم يسفر التحقيق في انفجار الميناء عن أية نتائج، بلِ اكتفى بإعادة تأكيد الحقائق المعروفة، ولم يحدّد المسؤولين عن الكارثة. وبعد شهور من الأخذ والرد، شكّلت الأحزاب القديمةُ أخيراً حكومة غايتها ترسيخُ الوضع الراهن ليس إلا.

وطوال عام 2021، كان كثيرٌ من اللبنانيين يخشون الانهيار الكلي، وإن كان من الصعب تحديد ما قد يترتّب على هذا الانهيار بالضبط. كما دأَبَ السياسيون على استحضار صور الفوضى، رغم أن الوضع لم يصل إلى تلك الذروة، وبدلاً من ذلك، بدأ تآكلٌ بطيءٌ ومستمرٌ، لكنّه يمكن النجاة منه في ذات الوقت، فبالرغم من استمرار فقدان الليرة اللبنانية لقيمتها وارتفاع الأسعار، فإن أعمال الشغب وحواجز الطرق نادرةٌ، إذ لا طاقة للناس الأشد فقراً بالاحتجاج، ومعظم النشطاء قد أعياهم التعب، وقد وجد كثيرٌ من السكان سبلاً للتكيف، كالتقنين، وتغيير أنماط حياتهم، والاستفادة من أية مساعدة إنسانية تُعرض عليهم، ومن الدولارات التي يرسلها الأقارب في المغترب. وأخيراً، لا يعاني الجميع بالقدر الذي توقعوه، ما يجعل الحاضر يبدو مقبولاً قياساً بما كان يؤرقُ كثيرينَ، بينما لا يزال الإيمان بقدرة الشعب اللبناني على التكيف راسخاً كما كان دائماً.

يرتبط هذا المسير البطيء ارتباطاً وثيقاً بكيفية تعامل الطبقة السياسية مع الأزمة، أي عن طريق إطالة مشاكل لبنان بدلاً من حلّ أي منها. اكتسب السياسيون بعض الوقت من خلال اللجوء إلى "حقوق السحب الخاصة" من صندوق النقد الدولي، فاستعادوا بعضاً من مساهمات الدولة في هذه المؤسسة المالية. كما أعاد البنك الدولي توجيه القروض المخصصة مسبقاً والتي لما تُسلّم بعد لتمويل حزم المساعدات الأساسية. والأهم من ذلك أن البنك المركزي لا يزال يغطي بعض السلع الأساسية، من خلال استنزاف احتياطاته الإجبارية، فقد رَفَعَ الدعمَ بشكل تدريجي فحسب، ويستمر في تمويل ربع واردات الوقود، وقلّة من الأدوية، وما تبقى مما تنتجه شركة كهرباء لبنان.

أما الأحزاب السياسية فتقدم حلولاً متقطعة كلما أمست الاحتياجات ملحة، لا سيما من خلال اعتصار موارد الدولة التي تستخدمها الأحزاب من خلال آليات الشراء الخاصة بها. يؤدي هذا النمط إلى دورة غير منتظمة من النقص والإمداد، والتي تُبقي أتباع هذه الأحزاب معتمدين عليها، وإن أجبرتهم على تطوير استراتيجيات بقاء بأنفسهم. 

كما تعني الوتيرة الحالية للأزمة في لبنان أن الاستجابة الإنسانية الكاملة لمّا تتحقق بعد على الرغم من تفاقم الفقر وانتشاره، فهِمّةُ المانحين آخذةٌ في الفتور بعد أن ترسّخت سُمعة لبنان كبلدٍ متعثّرٍ جَلَبَ البؤس لنفسه؛ بلدٍ يستولي فيه السياسيون على الموارد، بينما لا يقدمون لشعبهم سوى القليل. أما من يأملون في حملةٍ إنسانيةٍ أكثر طموحاً؛ فيعلّقون آمالهم على مسحٍ شاملٍ وعدت به الأمم المتحدة بغرض إنتاج بياناتٍ فعلية عن سكان البلاد الذين يزدادون ضعفاً يوماً بعد يوم، بيد أن التقرير خرج بنتائج لم تأت بالتأثير المطلوب. 

تبدو أرقام التقرير قاتمةٌ، ولكنها غير ملحوظة إلى حد ما، خاصة عند مقارنتها بمناطق الكوارث حول العالم. يؤثر سوء التغذية على ثلث السكان البالغين، لكنّه يمكن للبلد تلافي المجاعةَ. تَرَكَ طفلٌ واحدٌ من بين كل ثلاثة أطفالٍ المدرسةَ، ويعملُ واحدٌ من كل عشرين طفلاً "فقط". إن الوصول إلى المياه والرعاية الصحية متوفرٌ، وإن كانت الجودة آخذةً في الانخفاض، لكنه يستهلك نصفَ دخل الأسرة وسطياً. أما معدلات البطالة فتحوم حول 40٪، ويعيش 70٪ من اللبنانيين تحت خط الفقر، لكن المانحين يرون أن هذه الأرقام تعكس ببساطة أزمةً اقتصاديةً قرر لبنان عدم حلها؛ أزمةً لا تُقارن بآثار كارثةٍ طبيعيةٍ أو أضرارٍ جانبيةٍ لحربٍ ما.


نظامٌ متجدّد<

على الرغم من تحفظ المانحين، تمثّلُ المساعداتُ اليوم ثالث أكبر مَصدرٍ للعملة الصعبة في لبنان بعد الصادرات والتحويلات المالية، وعلى الرغم من أنها ليستِ التجارةَ الأكبرَ، إلا أن المساعداتِ أصبحتِ أكثر الغايات جذباً للنخبة الجشعة التي تسعى إلى التهام ما تبقى من القَطع الأجنبي في البلاد. في الواقع، تُوجَّه عائداتُ الصادرات على الفور نحو تغطية تكاليف الاستيراد، وتلتفُ معظم التحويلات المالية على النظام المصرفي في لبنان، ولذا فإن الاستجابة الإنسانية هي الخيار الأفضل.

وقد راحت مختلف مكونات النظام اللبناني تهرول للاستفادة من هذا المورد الجديد، وفعلت ذلك، جزئياً، من خلال عدد من الإجراءات الرسمية المصمَّمة لتعزيز سيطرة هذه المكونات على القطاع؛ فاعتباراً من كانون الثاني / يناير 2022، يجب أن تكون جميع البرامج الإنسانية مسجلةً رسمياً ومعتمدةً من وزارة الخارجية، كما يَشترط تشريعٌ جديدٌ تحويلَ الأموال من خلال البنوك اللبنانية التي تفرض الآن رسوماً بنسبة 5٪ على أية معاملة بالعملة الأجنبية. وبموازاة ذلك، يجب تنفيذ جميع عمليات الصرف عبر منصة الصيرفة في البنك المركزي؛ وعلى الرغم من أن سعر هذه المنصة عادة ما يقل بمقدار 15 إلى 20٪ عن السعر في السوق السوداء، إلا أن مشغليها هم المخولون بإصدار فواتيرَ رسميةٍ لا غنى للوكالات الإنسانية عنها.

تخدمُ هذه المتطلبات التي تزداد تشدداً وظائفَ متعددةً للطبقة الحاكمة في لبنان. وبطبيعة الحال، وافقت الأحزاب على جمع وتبادل المعلومات التي تجمعها وزارة الخارجية فيما بينها؛ وهذا بدوره يسمح لها بمراقبة حركة الأموال، ومعرفة أيٍّ من المنظمات غير الحكومية المحلية تُتداول هذه الأموال. وفي الوقت نفسه، فإن اشتراط توجيه جميع الأموال من خلال المؤسسات المالية اللبنانية يوفرُّ شريانَ حياةٍ للمصارف التي هي في أمسّ الحاجة إلى السيولة، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالنخبة السياسية. أخيراً، استَبعدت الأحزاب من الصيرفة كلَّ مكتب صرافةٍ لا يطلعها على نشاطه مباشرة، وبالتالي دعمت وصولها إلى العملة الصعبة، كما أنها تستخدم ما تجنيه من خلال هذه المنصة في تمويل مشترياتها الخاصة، وتوزيع الوقود والأدوية الأساسية وسلال الطعام ومياه الشرب، غير أن هذا ليس سوى جزءٍ من الصورة.

وتتسللُ الأحزابُ علانيةً إلى كافة طبقات سلسلة الإمدادات اللوجستية الإنسانية تقريباً، إذ يرتبط كبار مستوردي الوقود أو المستحضرات الصيدلانية ارتباطاً وثيقاً بالسياسيين الذين يقتسمون السوق فيما بينهم، ويقمعون المنافسة النزيهة، ويرفعون الأسعار متى شاؤوا. يحكم منطقُ الثلة المحتكرة نفسُه اللوجستياتِ والبناءَ، مما يمنحُ حفنةً من المقاولين تأثيراً كبيراً على أنشطةٍ كنقلُ الأغذية وإعادةُ تأهيل البنية التحتية. وبالمثل، فإن الشركاتِ الأمنيةَ، التي أصبحت لا غنى عنها بفعل تعطيل الجريمة للعمليات، تعود جميعها إلى الرعاة السياسيين أنفسهم. وقد لاحظتِ المنظماتُ الإنسانيةُ أن الحوادثَ تتناقص بمجرد توقيعها العقودَ مع الأشخاص المناسبين الذين يوفرون الحماية في أية منطقةٍ من المناطق، ويُترجَم رفضُ التعامل مع هذه الشبكات إلى ارتفاعٍ مقلقٍ في حوادث السرقة والترهيب.

ولا تطوّقُ الأحزابُ الجهاتِ الفاعلةَ في المجال الإنساني فحسب؛ بل تجلس بين ظهرانيها أيضاً، إذ يمتلك الزعماء السياسيون مؤسساتهم ومنظماتهم غير الحكومية الخاصة بهم، وغالباً ما يتصرفون كحراسٍ في المناطق التي يسيطرون عليها (والتي تغطي معظم لبنان). وتسعى الجماعات المدعومة سياسياً إلى التنمّر على المنظمات المستقلة وإخراجها من السوق عن طريق وضع العراقيل الإدارية، أو مضايقةِ الموظفين، أو إجراءِ تحقيقاتٍ أمنيةٍ باطلةٍ في أنشطتها، كما تستخدم هذه الجماعاتُ تكتيكاتٍ بلطجيةً للضغط على المنافسين وإجبارهم على التعاون وفقاً لشروطها. تواجه كبرى المنظمات الدولية غير الحكومية ووكالاتُ الأمم المتحدة عوائقَ مماثلةً، فيتغلب كثيرٌ منها على هذه العوائق من خلال تعيين المزيد من الموظفين المرتبطين بالسياسيين؛ ثم لا تتوانى الأحزاب عن الاستفادة من هذا التوجه من خلال تزويد أنصارها بوظائفَ إنسانيةٍ مغريةٍ مدفوعةِ الأجر بالدولار.

كما يضغطُ السياسيون على وكالات الإغاثة لتوظيف أتباعهم، ويستخدمون نفوذهم أيضاً لتوجيه المساعدات نحو قواعدهم الشعبية؛ ليغدو موالوهم ممتنين لهم بمجرد حصولهم على هذه المعونات، ويقرّون باعتمادهم على هذه المحسوبية. وحين يغدو المستفيدون أكثر درايةً بالآليات الإنسانية، يبالغ بعضهم عمداً بما يطلبونه من احتياجات بغية الحصول على حصةٍ أكبر من الدعم. في الواقع؛ باتت بعض المجتمعات تنظر إلى المساعدات على أنها حقٌ غالباً ما تُحرم منه. تغذي هذه العقليةُ المنافسةَ المتصاعدةَ بين المستفيدين، لا سيما بين اللاجئين والمجتمعات المضيفة. وانطلاقاً من هذا المنظور غدا الساسةُ اللاعبين الوحيدين القادرين على انتزاع ما هو حقٌّ لبنانيٌّ من المانحين الأجانب.

بالنتيجة، أصبح لبنان أكثر اتكالاً على المساعدات الدولية؛ ومن أمثلة ذلك اعتراف كثيرٍ من المزارعين بتعويلهم على المنح الخارجية لبدء موسم الزراعة بدلاً من وضع خططهم بأنفسهم وخوض المجازفة. كما تبنت مؤسسات الدولة الرؤيةَ ذاتَها، فعلى سبيل المثال، لا تعمل مؤسسات المياه الآن إلا بقدر ما يدفع فيه المانحون الأجانب تكاليفَها التشغيليةَ، وهو يأتي على شكل تمويلُ طوارئٍ يعطى كل مرة على حدى.

وإلى حدٍ كبيرٍ، تكيّف النظام باتباع أنماطٍ تعود إلى حقبة الحرب الأهلية؛ غير أن هنالك تطوراً جديداً هامّاً يتعلق بتغير دور الجيش الذي أصبح معتمداً على المساعدات، وجزءاً لا يتجزأ منها في آنٍ معاً، فهو لا يتلقى التدريب والمعدات من الحكومات الأجنبية فحسب، بل تقوم هذه الأخيرة أيضاً بتمويل الصيانة والرواتب والغذاء وخدمات الرعاية الصحية، وقد تعاظم دورُ الجيش ليصبح في الوقت نفسه شريكاً تنفيذياً رئيساً لوكالات الإغاثة الكبرى التي تسخّر حياده المزعوم وقدراته اللوجستية للوصول إلى الفئات السكانية الضعيفة في المناطق النائية.

وتكمن المفارقة هنا في أن هذه المؤسسة لم تقف في الحقيقة بمعزلٍ عن النظام السياسي في البلاد، بل ظلت تحتفظ بعلاقة تكافلية مع النخبة الطائفية الحاكمة. وبالنظر إلى تفاقم الشحّ وتوسع دور الجيش، برزت كل الأسباب الدافعة لتوقع أن الأحزاب ستسعى إلى تعزيز نفوذها في القوات المسلحة. وبعبارة أخرى، من خلال الاعتماد على الجيش كبديل عن الأحزاب السياسية، يدفع المانحون الأجانب هذين المكونين من النظام اللبناني إلى التقارب أكثر من أي وقت مضى.

<* * *>

إن أكثرَ ما يُقلق في هذه النظرة المفترضة هو أنها تبدو معقولةً للغاية؛ فقد تترسخ الأزمة التي لا يبدو أنها ستنتهي قريباً، وقد تتكيّف معها جميع الأطراف، إذ يتعلّم عامةُ الناس التعايش مع الشحّ الآخذ بالتفاقم، ويتلاعب السياسيون بمعاناتهم، وأما الفاعلون الدوليون فيقدمون من الدعم ما يكفي لإبقاء النظام قائماً.

وفي مواجهة هذا المسار القاتم، لا يسعنا سوى أن نحبسَ أنفاسنا وننتظرَ حدثاً ما قد يغير قواعد اللعبة، سواء كان ذلك كارثةً جديدةً من شأنها زعزعة الأمور، أو معجزةً تحلّ الأمور بطريقةٍ ما. غير أن التمسك بحلّ كهذا لن يؤدي سوى إلى زيادة فرص بقاء لبنان في دوامة الانحدار الحالية.

قد يقاسي المجتمع اللبناني الأمرّين لعمل ما هو أكثر بكثيرٍ من تلبية احتياجاته اليومية، والتي ستصبح للكثيرين أكثر استنزافاً بمرور الوقت، غير أن الجهاتِ الخارجيةَ في وضعٍ مختلفٍ تماماً، وليس لديها أيّ عذرٍ للتسليم للقَدَر، أو ما يسوّغ لها مسايرةَ النظام؛ فالمانحون ومنظمات الإعانة يتمتعون في واقع الحال برفاهية التطلع إلى المستقبل والتخطيط له، ويجب أن يقوموا بذلك بأشكالٍ عدةٍ.

أولاً، يعني ذلك الشروعَ في خطةِ طوارئ صارمةٍ لتجنب الاصطدام بتطوراتٍ كان من الممكن توقع حدوثها، كانقطاع الإنترنت، أو القوانين المصرفية الجديدة الجائرة، أو تجاوزات الأحزاب. ثانياً، يستلزمُ ذلك دعمَ الشركاء اللبنانيين للقيام باستعداداتٍ مماثلةٍ، وخاصةً من خلال تقديمِ المساعدة التقنية والمالية للتخطيط للسيناريوهات المحتملة، أو تعزيزِ المرونة في آليات التمويل. ثالثاً، يجب على المانحين أن يضعوا معاً خطوطاً حمراءَ واضحةً وثابتةً فيما يتعلق بالتنازلات التي يرفضون تقديمها للنظام اللبناني.

وبغضّ النظر عن مدى رغبتنا في صياغة المساعدة الأجنبية بلغة الحياد الإنساني، فإن واقع لبنان يجعل هذا القطاع مسيّساً للغاية، وقد يؤدي رفضُ هذه الحقيقة إلى تحويل قطاع المساعدات إلى أفضل وسيلةٍ يحافظ بها النظام على الوضع الراهن.

21 حزيران/ يونيو 2021

قام بالترجمة للعربية حسان حساني 

الشكر والتقدير: يستند هذا المقال إلى تمرينِ لعب أدوار بتكليفٍ من منظمة كير (CARE) الدولية في لبنان كجزءٍ من التخطيط للطوارئ. بالإضافة إلى البحث المكثف الذي أجرته سينابس حول الديناميات الاجتماعية والاقتصادية في لبنان، تَدين المقالة بالكثير للخبرة العملية المميزة لموظفي منظمة "كير" وشركائها الذين يعملون في ظروفٍ مرهقةٍ وصعبةٍ في شتّى أنحاء البلاد.


محتوى ذو صلة