تجاراتٌ خلف الكواليس

رائدات الأعمال السوريات

بعد أكثر من عقدٍ من الحرب والانهيار الاقتصادي تجد أعدادٌ غير مسبوقةٍ من النساء السوريات أنفسهن مضطراتٍ للانضمام إلى القوى العاملة، وهنّ لا يفعلن ذلك كعاملاتٍ وحسب، بل كصاحباتٍ ومديراتٍ لأعمالهن الخاصة بهنّ، كبيرها وصغيرها. وفيما تجد هؤلاء الرائداتُ سبلاً للتغلب على العقبات الكثيرة التي تعترض طريقهن، يتعين عليهن في الوقت نفسه التعاملُ مع الأعراف الاجتماعية المحافِظة وتأسيس شبكات تضامنٍ جديدةٍ، غير أنها عمليةٌ لا تكاد تُرى رغم تأثيرها الكبير، إذ يتعين على النساء السوريات توخي الحيطة والحذر إن أردن تحقيق مبتغاهن ومواجهة التحديات الكثيرة التي يفرضها مجتمعهن. 

لطالما هيمن الرجال على القوى العاملة مدفوعة الأجر في سوريا، فمنذ زمنٍ ظلت مِهن النساء ممن يعملن خارج المنزل مقتصرةً على أدوارٍ محددةٍ في القطاع العام، كالتدريس مثلاً، لكن منذ عام 2011 أجبر الموت والاختفاء القسري والنزوح والانهيار الاقتصادي الناجم عن الصراع السوري كثيراً من النساء على التحول من إدارة الموارد المنزلية إلى توليدها. وصفت إحدى هذه النساء كيف دفعها النزوح بسبب القتال إلى بدء مشروعٍ تجاريٍّ في الحرف اليدوية:

أصيب زوجي ولم يعد قادراً على العمل. لقد خسرنا كل شيءٍ بعد مغادرتنا الرقة وتدهور وضعنا المالي، وأصبح لزاماً عليّ إعالة أسرتي، فشجعني ذلك على إطلاق مشروعي بنفسي.

يمكن سماع قصصٍ مشابهةٍ لدى نساءٍ كثيراتٍ في جميع أنحاء البلاد، ممن استجبن لظروفهن من خلال إطلاق مجموعةٍ كبيرةٍ ومتنوعةٍ من الأعمال والتجارات، فبعضهن يبعن الأطعمة المحضرة في المنزل، أو ينسقن شبكاتٍ من عاملاتٍ في النسيج فينتجن السجاد التقليدي، وبعضهن الآخر يُدرن صيدلياتٍ أو مراكزَ رياضيةً أو روضاتِ أطفالٍ أو صالوناتِ تجميلٍ، وأخرياتٌ أنشأن مدارسَ للغة الإنكليزية على الإنترنت، ومقاهيَ ومدارسَ لتعليم قيادة السيارات، والمزارع ومصانع الألبان.

تنحدر هذه النسوة من خلفياتٍ متنوعةٍ، ولا يزال بعضهن طالباتٍ، والبعض الآخر جاوزن الستين. وفيهن العازبات والمتزوجات والأمهات والأرامل والمطلقات، وقد يحملن عدة درجاتٍ علميةٍ أو يبقين أمياتٍ، ويعشن في دمشق أو بلدة الطبقة، أو نزحن من ريف الرقة أو دير الزور، أو انتقلن من القرى الساحلية إلى مدينة طرطوس الساحلية، بيد أن هذا التنوع يخفي سماتٍ مشتركةً مثيرةً للاهتمام بين رائدات الأعمال السوريات الكثيرات.

سد الفجوات

كقاعدةٍ عامةٍ، دخلت النساء السوريات مجال الأعمال بدافع الحاجة، وهي ظاهرةٌ ليست جديدةً في سوريا. قالت أرملةٌ ستينيةٌ من مدينة الطبقة الواقعة في شمال شرق البلاد إنها بدأت عملها في صناعة الألبان منذ عقودٍ بعد وفاة زوجها بنوبةٍ قلبيةٍ: "كان أطفالي الأربعة لا يزالون صغاراً، ولم يكن الراتب الذي كنا نتقاضاه بعد وفاة زوجي كافياً لإطعامنا جميعاً". قبل الحرب كانت بعض النساء من خلفياتٍ اقتصاديةٍ أيسر حالاً يطلقن مشاريعهن الخاصة بهن، لكن تلك النساء كن الاستثناء، وليس القاعدة، فقد ظلت سوريا مجتمعاً ذكورياً، حيث الرجال مسؤولون في نهاية المطاف عن إعالة الأسرة.

لقد أخلّ الصراع السوري بالأعراف المجتمعية التي كانت سائدةً، وما يزال يقوّض القوى العاملة الذكورية، إذ تقدّر الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن الرجال شكلوا 80 بالمئة من إجمالي الوفيات في سوريا في عام 2023، كما أُجبر المعيلون الذكور في السنوات الأخيرة على لزوم منازلهم لتجنب الخدمة العسكرية الإلزامية، أو فقدوا وظائفهم بسبب الركود الاقتصادي أو النزوح القسري. كما انخفضت الرواتب بسبب تدهور قيمة الليرة التي هوت من 50 ليرة مقابل الدولار الواحد قبل الحرب إلى أكثر من 12600 في كانون الأول / ديسمبر، وفقاً للأسعار الرسمية، الأمر الذي أثر في ميزانيات الأسر، ولذا أصبحت مصادر الدخل الجديدة لا غنىً عنها.

تواجه النساء قيوداً اجتماعيةً على انخراطهن في صفوف القوى العاملة المأجورة، ولذا أسسن تجاراتٍ مستقلةً بالاستفادة من مهاراتهن الحالية في أحيانٍ كثيرةٍ. ويمكن لبعضهن، حتى لمن كنّ من الطبقات العليا المتعلمة، الاستفادةُ من المهارات التقليدية مثل الحرف اليدوية أو الطبخ أو النسيج أو صناعة الصابون. وقد كن حديثاتِ العهد في مواجهة التحديات المصاحبة لإدارة الأعمال التجارية، لكنهن يعرفن كيفية تحضير المربى وطهي المعلبات وتحويل الحليب إلى جبنٍ وخياطة الملابس ونسج السجاد وتربية الدجاج وتزيين الكعك وما إلى ذلك، وهي مهاراتٌ أكثر قابليةً للتسويق من التعليم الرسمي، وفي ذلك قالت امرأةٌ نازحةٌ استقرت في مدينة اللاذقية الساحلية: "لدي شهادتان جامعيتان في علوم الكمبيوتر والترجمة، لكني وجدتُ صعوبةً في العثور على وظيفةٍ، فلجأتُ إلى صنع الصابون والزيوت العطرية."

تجمع النساء رأس المال من خلال ممارسة تُعرف بالجمعية

 وبالإضافة إلى تسخير المهارات الموجودة، لجأتْ كثيرٌ من النساء إلى الموارد المتاحة في بيئتهن المباشرة كوسيلةٍ للإنتاج أو لتأمين رأس المال الأولي، فمثلاً لجأت أرملةٌ في الطبقة إلى بيع بضاعةٍ من متجر زوجها الراحل لجمع المال كي تفتتح به مقهىً، كما باعت كثيرٌ من النساء حُليهن التي حصلن عليها كمهرٍ لنفس السبب، فيما استخدمت نساءٌ من خلفياتٍ أيسر حالاً ما ورثنه من أهلهن. وأما في المناطق الريفية، قد يكون اقتناء بقرةٍ نقطة البداية لصناعة الجبن كعملٍ تجاريٍّ.

كما تلجأ رائدات الأعمال إلى الشبكات الاجتماعية والعائلية لتحقيق أهدافٍ مختلفةٍ: فقد يبحثن عن تبرعاتٍ على شكل لوازم ومعداتٍ، أو قد يبعن مقدماً لأصدقائهن لشراء المواد الخام، أو يطلبن المنح والقروض من أزواجهن وأقاربهن. وثمة طريقةٌ أخرى لجمع رأس المال المبدئي وهي ممارسةٌ تعرف باسم الجمعية، حيث تتفق مجموعةٌ من النساء على جمع المال من خلال المساهمة بمبلغٍ شهريٍّ محددٍ في صندوقٍ مشتركٍ، ثم تحصل كل مساهمةٍ بدورها على الإجمالي الشهري بالتناوب، وقد تستخدمه للشروع بتجارةٍ، أو دفع تكاليف زواج ابنٍ، أو تغطية الفواتير الطبية.

ونظراً لشحّ الموارد المالية، تلجأ النساء إلى خلق اقتصاد دائري خاص بهن عن طريق الإبداع في إعادة استخدام وإصلاح وإعادة تدوير الموارد المتاحة في محيطهن المباشر، وهكذا راحت امرأةٌ من قرية في الريف الساحلي تنتج الخلّ بفضل التفاح الكثير الذي تحصل عليه من الأصدقاء والأقارب في قريتها، كما وفّرت صاحبة مقهىً في دمشق القديمة على نفسها تكلفة مصمم ديكور باستخدام لوازمَ أخذتها من منزل عائلتها، كما قررت امرأة أخرى تزيين مقهاها في دمشق القديمة باستخدام أشياء من منزل عائلتها بدلاً من الاستعانة بمصمم ديكور. وبسبب الضغوط المالية، راحت سيدة أعمال أخرى تبيع أشياءً صنعتها من الزجاج المهمل، فحولت "الأشياء عديمة الفائدة إلى شيء مفيد".

وقد أدت هذه الهمّة الكبيرة لدى النساء في تغيير العالم من حولهن إلى إطلاقهن مجموعةً مذهلةً من المبادرات المشابهة، وما يزيد إعجابَ المرء بهن هي التحديات الاجتماعية الهائلة التي تعترضهن في هذه العملية.

مواجهة العقبات المجتمعية

وبالإضافة إلى شق طريقهن في الاقتصاد المنهار، تعاني النساء السوريات سلسلةَ عقباتٍ خاصةٍ بهن، كالافتقار إلى التدريب الرسمي والوصول إلى رأس المال الخارجي، فضلاً عن بيئة أعمالٍ معاديةٍ تزداد صعوبةً لأنهن إناثٌ.

تفتقر كثيرٌ من سيدات الأعمال السوريات إلى المهارات في إدارة المشاريع والتمويل والتسويق بسبب تعليمهن والطريقة التي تربين عليها، وقد طورت كثيرٌ منهن مهاراتٍ في إدارة الميزانية في سياق الشؤون المالية للأسرة، لكن ذلك لا يُترجم تلقائياً إلى إطلاق تجاراتٍ مربحةٍ. ذكرت مديرة المقهى أنها في الأشهر الأولى لاقت صعوبةً في الفصل بين حساباتها الشخصية والتجارية. وبالمثل قالت صاحبة مشروع تقديم الطعام: "تمنيت لو تعلمتُ مهارات الحساب والجدوى الاقتصادية وحساب الأرباح، فقد أصبحتُ فجأةً بحاجةٍ إلى هذه المهارات، لكني لا أمتلكها."

ويصبح هذا النقص في المهارات أكثر حدةً في بيئة أعمالٍ تواجه أزماتٍ متعددةً، إذ أدتِ الحرب إلى عرقلة سلاسل التوريد وأضرت بالواردات، كما وانهارت البنية التحتية في سوريا، بما فيها وسائل النقل والكهرباء اللازمة لتسيير الأعمال والتجارات. تنخفض قيمة العملة على نحوٍ أسرع من قدرة الأسعار والأجور على مجاراة هذا الانخفاض، ولذا بالكاد يقوى الزبائن على دفع ثمن الحاجات الأساسية مثل المواد الغذائية الأساسية والوقود، وكذلك السلع غير الأساسية.

علاوةً على ذلك، فإن بعض الحيل والحلول المتاحة للرجال، أثناء تعاملهم مع اقتصادٍ دمرته الحرب، تظل بعيدة المنال عن أغلب النساء. اشتكت صبيةٌ تملك صالون تجميلٍ في ريف دمشق من أن البلدية أغلقت مولّدها الكهربائي، لكنها غضت الطرف عن ثلاث مولّداتٍ أخرى تعمل على نحوٍ غير قانونيٍّ في المنطقة:

أظن أن جيراني لم يشتكوا من المولّدات الأخرى لأنهم لا يريدون مواجهة مشاكل مع أصحابها، وهم رجالٌ، ووجدوا أن استهدافي أسهل، حتى أن رئيس البلدية تفاجأ عندما تواصلتُ معه لحل المشكلة، وكان في حيرةٍ من أمره بشأن سبب شكوى الناس مني دون الآخرين.

كما تلاقي رائدات الأعمال مصاعبَ في الوصول إلى رأس المال الملموس بسبب الديناميات الخاصة بالنوع الاجتماعي، فقوانين الميراث مقيِّدة وتحابي الرجال، ما يعني أن النساء نادراً ما يمتلكن عقارات، وبالتالي لا يمكنهن تقديم ضماناتٍ للحصول على القروض المصرفية. وأما القادرات منهن، من الناحية النظرية، على الحصول على القروض فغالباً ما يترددن في الاقتراض خشية الوقوع في الديون، ونظراً لما يقاسين من همومٍ، فإنهم ينظرن إلى الدَّين باعتباره عبئاً مالياً ومعنوياً أثقل من أن يضاف إلى همومهن القائمة. تذكر حرفيةٌ تعمل بقُصاصات القماش أن المال الذي اقترضته كان يطاردها يومياً رغم أنها لم تحصل عليه من مصرفٍ، بل من مؤسسةٍ حسنة النية، ولذا يَمنع هذا الضغط النفسي كثيراً من النساء من الإقدام على تلك القفزة.

الدَين حملٌ يزيد الهموم التي تقاسيها النساء

إن بدائل البنوك، كالجمعيات الخيرية أو المبادرات الفردية في الشتات، لها عيوبها الخاصة بها، إذ قد يصعب العثور على معلوماتٍ عنها، وأولوياتها تتغير، كما أن القيود الاجتماعية تمنع النساء من استكشاف الفرص سواءً على وسائل التواصل الاجتماعي أو شخصياً. قالت صاحبة مشروع خياطةٍ في حمص: "سمعتُ أن ثمة جمعياتٍ تدعم المشاريع الصغيرة المملوكة للنساء، لكني لم أتمكن من الوصول إلى أيٍّ منها لأني لا أستطيع السفر إلى العاصمة لمعرفة المزيد عن الأمر."

إن لضعف الوصول إلى رأس المال عواقبُ جمةٌ على كثيرٍ من التجارات، فهو يمنع تطورها، ويؤخر الاستثمارات، ويزيد التكاليف، ويمنعُ أصحاب الشركاتِ من ملء مخزوناتهم بالبضائع أو شراء العقارات، ما يجعلهم عرضةً للتقلبات في أسعار المواد الخام وارتفاع الإيجارات. اشتكت صاحبة مدجنةٍ في ريف الرقة من عدم قدرتها على استبدال مولد الديزل الذي يحرق كثيراً من إيراداتها، بنظامٍ يعمل بالطاقة الشمسية، بسبب افتقارها المال، كما قالت سيدة أعمالٍ أخرى إنها أغلقت صالون التجميل الخاص بها بعد أقل من عامٍ بسبب عجزها عن شراء اللوازم والتجهيزات الإضافية:

بفعل انخفاض قيمة الليرة لم أتمكن من الإنفاق على منزلي وأطفالي والحفاظ على صالوني في آنٍ معاً، وخشيتُ شراء بضاعةٍ قد لا تُدرُّ عليّ المال أبداً. كان لدي بعض مستحضرات التجميل، ولذا قررتُ التركيز عليها فقط وبيعها كلها قبل انتهاء صلاحيتها.

وبالإضافة للمال، يتعين على رائدات الأعمال بناءُ علاقات عملٍ متينة، لكن الأعراف الاجتماعية تحدّ من الخيارات المتاحة للنساء، فيما يجد الرجال سهولةً أكبر في تطوير علاقاتٍ شخصيةٍ مع العملاء والموردين وموظفي الخدمة المدنية، وبالتالي شراء قطع الغيار وتسليم البضائع وتهريب المعدات وتجاوز العوائق الإدارية. تلاقي كثيرٌ من النساء مصاعب وقيوداً في التفاعل مع الغرباء وتنمية هذه العلاقات بأنفسهن، وبالتالي يجب عليهن الاعتماد على آبائهن أو أزواجهن أو إخوتهن أو حتى أبنائهن، كوسطاء. أسست سيدة أعمالٍ في منتصف العمر من الزبداني، البلدة الواقعة بالقرب من الحدود السورية اللبنانية، ورشةَ تصنيع أغذيةٍ خاصةٍ بها منذ عامين، ويعمل زوجها بمثابة واجهةٍ لها:

 يجمع زوجي الحليب مرتين في اليوم ويذهب به إلى دمشق. من الصعب جداً على المرأة أن تذهب إلى السوق وتتعامل مع التجار، ولذا يتولى زوجي فعل ذلك. أولاً، كان من الصعب إقناع النساء الأخريات بأن بإمكان المرأة إدارة مشروعٍ تجاريٍّ بدعمٍ كاملٍ من زوجها وأبنائها، لكن فريقنا النسائي بأكمله يعمل في الداخل، ولذا لا يواجهن أية مشاكلَ اجتماعيةٍ، وحتى أن إمام المسجد أشاد بعملنا، وحثّ الرجال الآخرين على دعم مبادرتنا.

وحتى عندما يجدن حلولاً كهذه، تُواجه رائدات الأعمال تهديداتٍ منها أن امرأة تُعدّ المواد التعليمية عبر الإنترنت، وتعيش في مدينة درعا جنوب البلاد، تواجه بانتظامٍ مضايقاتٍ من عملاءَ ذكورٍ يتظاهرون بأنهم طلابٌ لكنهم في الواقع يريدون إغواءها. كما أن الاقتصاد السوري يعاني من الفساد الشديد، وتهيمن عليه الفصائل المسلحة وأجهزة الدولة المتسلطة والجشعة، ما يشكل مخاطرَ واضحةً. فمثلاً تتوقع زوجات المسؤولين تجميل أظافرهن مجاناً من قبل أخصائيات التجميل الخاص بهن، فيطلبن من أزواجهن إرسال مفتشين لتغريم تلك الأخصائيات بسبب مخالفاتٍ قانونيةٍ بسيطةٍ في حال عدم امتثالهن.

أحد الحلول هو التواري عن الأنظار

وبالرغم من المساوئ الواضحة، أحد الحلول هو الحد من التعرض، وفي ذلك وصفت صاحبة ورشةٍ نسائيةٍ جهودها لمنع السيدة الأولى من سلبها ورشتها مثلما تفعل مع المبادرات التي تطلقها غيرها من النساء: "إننا نظل متوارياتٍ طوال الوقت تقريباً، فلم ننشر أي شيءٍ على صفحتنا على الفيسبوك منذ عامين لكي نوحي بأننا لسنا موجوداتٍ بعد اليوم."

وبالتالي تلجأ كثيرٌ من النساء إلى طرقٍ سريةٍ مماثلةٍ لمزاولة الأعمال التجارية، بدافع الضرورة الاجتماعية أحيانا. يُتوقع من سيدات الأعمال تقديم الرعاية للأسرة في المقام الأول، وتولي رعاية الأطفال وكبار السن والمعاقين. قالت تاجرة ملابسَ مستعملةٍ إنها تعمل من المنزل لا من محلٍّ تجاريٍّ، لأن عليها الاعتناء بزوجها المصاب بالسرطان.

 وأخيراً تحدُّ القيودُ الاجتماعيةُ من المجالاتِ التي تستطيع فيها المرأة إدارة تجارةٍ ما، وغالباً ما تكون هذه المجالات هي تلك المرتبطة تقليدياً بالنساء، كأعمال الرعاية والتجميل وتصنيع الأغذية والديكور المنزلي. أوضحت صاحبة صيدليةٍ في ريف دمشق أنها اختارت هذا التخصص بدلاً من الطب لكي تحدّ من تعاملها مع الرجال. وحتى عندما تكون سيدات الأعمال ظاهراتٍ، فإنهن يضطلعن بأدوارٍ تؤدي في نهاية المطاف إلى تعزيز الأعراف والقوالب النمطية المتعلقة بالنوع الاجتماعي.

بناء المجتمعات

وفي مواجهة هذه العقبات، غالباً ما تلجأ سيدات الأعمال السوريات إلى أشكال التضامن المُنجية، فعندما يفتقرن إلى مهاراتٍ معينةٍ، تسعى كثيراتٌ للحصول عليها من الأخرين من حولهن: أسلافهن أو أقاربهن من ذوي الخبرة، أو حتى من البرامج التعليمية على الإنترنت. ولذا فإن للتعلم المستمر والمشاركة دورٌ كبيرٌ في مساعيهن المهنية. قالت سيدةٌ افتتحت محلاً لبيع منظفاتٍ تصنعها في منزلها:

قضيتُ وقتاً طويلاً أتعلم من خلال موقع يوتيوب، وأنتجتُ عيناتٍ صغيرةٍ في المنزل، وتلقيتُ تدريباً من شخصٍ لديه مختبرٌ لمنتجات التنظيف، وعلمني شخصٌ آخر لديه متجرٌ بعضَ الجوانب الأساسية لنجاح المشروع.

وهكذا تشدد كثيرٌ من النساء على التآزر الموجود في مجتمعهن حين يقصدن المساعدة من عائلاتهن وأصدقائهن ومعارفهن الأبعد، فيتلقين إرشاداتٍ في التسويق الرقمي من أختٍ أصغر، أو ابن عمٍّ استقر في الخارج، فيما يروّج الزوج أو الشقيق لمشروعهن بين أقاربهم، ويصبح الأصدقاء أولَ عملائهن، ويوافق المؤجر على تأجيل دفعات الإيجار إلى ما بعد أول بيعٍ، وأما الجيران فيعتنون بأطفالهن بعد المدرسة، ويرسل السوريون في الشتات المنتشر في الأمريكيتين أو أوروبا المعداتِ التي يحتجنها. الأمور ليست ورديةً دائماً، لكن ريادة الأعمال النسائية تزدهر في نهاية المطاف من خلال التعاون.

وهذا التآزر لا غنى عنه لأسبابٍ كثيرةٍ، أبرزها أن النساء عادةً لا يستطعن تكريس أنفسهن بالكامل لمشاريعهن، ويجب عليهن تلبية التوقعات التقليدية في كثيرٍ من الأحيان، ولذا يحاولن تأدية الأعمال المنزلية الكثيرة وغير مدفوعة الأجر إلى جانب التزاماتهن بتجارتهن. أوضحت الصيدلانية من ريف دمشق كيف يمكن الجمع بين الأمرين: "كنت أعد وجبات الطعام في الصيدلية وأعلّم أطفالي خلال ساعات العمل لكي أحقق توازناً بين عملي ومسؤولياتي العائلية."

بالكاد تغير المبادرات الصغيرة الأعراف الجنسانية السائدة

ثمة استثناءاتٌ بطبيعة الحال لتلك القاعدة، فبعض النساء يعملن ساعاتٍ طويلةً في تجاراتهن دون أي شيءٍ آخر، وفي ذلك تقول امرأةٌ ستينيةٌ تسكن في ريف دمشق واستثمرت مالاً في الطاقة الشمسية والمولدات لتقديم الخدمة لعملائها على مدار الساعة: "تستحوذ إدارة الصالة الرياضية التي أسستُها على يومي بأكمله، من الساعة 8 صباحاً حتى الساعة 10 مساءً، لكنني سعيدةٌ لأنني أستطيع تقديم خدمةٍ جيدةٍ لعملائي". وفي حالاتٍ نادرةٍ يتولى الأزواج والرجال الآخرون مسؤولياتٍ درجتِ العادة على أن تتولاها النساء، مثل إطعام الأطفال أو توفير الرعاية العاطفية.

غير أن هذه البوادر البسيطة بالكاد تغير الأدوار التي يُتوقع من النساء توليها. أعربت صاحبة صالون تجميلٍ عن امتنانها لأن زوجها يعد الطعام لأطفالهما عندما تعمل لوقتٍ متأخرٍ، ما يعكس حقيقة أن هذه المهمة ستظل مصاحبةً للأم ضمنياً. 

لا يشتكي زوجي حتى عندما أتأخر في العودة إلى المنزل أو في أداء الأعمال المنزلية، وفي بعض الأحيان أعود من العمل وأجد أنه أعد طعاماً خفيفاً ليأكل مع الأطفال، وأول ما يقوله عندما أعود هو: "آه، لقد عدتِ! أهلاً بك، وبارك الله فيك."

أحد الجوانب الأقل وضوحاً لروح التآزر التي نراها في ريادة الأعمال النسائية هو اهتمامهن بالمنافع الجماعية، والذي كثيراً ما يظهر في الروايات التي ترويها هؤلاء النساء. "نحن نؤمن بجمع الموارد لكي نستثمر بكمياتٍ أكبر من المواد الخام، ونوفر أكثر، وننتج منتجاتٍ ذات جودةٍ أعلى، إذ يمكن لهذا النهج التعاوني أن يعود بالنفع علينا جميعاً"، قالت امرأة من عائلةٍ ساحليةٍ متواضعةٍ تدير مشروعاً صغيراً للديكور.

تُصور نساءٌ كثيراتٌ نجاحهن على أنه رحلةٌ جماعيةٌ لا فرديةٌ، مستمداتٍ الرضا من بناء مجتمعٍ متآزرٍ، وأنهن يتركن تأثيراً إيجابياً يتجاوز احتياجاتهن العائلية، وقد يستدعي ذلك الاعتناء بنساءٍ أخرياتٍ، وتأمين فرص عملٍ لهن، أو مساعدة عاملاتهن، على سبيل المثال من خلال دفع فواتير مولدات الكهرباء. كما يتكيفن مع احتياجات عملائهن. قالت صاحبة محلٍّ لبيع المعلبات المنزلية في بلدة الطبقة إنها تسمح للزبائن الذين تعرفهم بالدفع بالتقسيط: أنا نفسي كنت موظفةً، وأعلم أن الراتب لا يكفي لشراء 2 كيلو جبنٍ، وكيلو مكدوسٍ، دفعةً واحدةً."

كما يتجلى هذا التآزر في الأفكار التجارية التي تأتي بها رائدات الأعمال، أفكارٍ عادةً ما تنبع من الفهم المباشر لاحتياجات مجتمعهن، فمثلاً بدأتِ امرأةٌ مصابةٌ بالسكري في أواخر العشرينات من عمرها في إنتاج الحلويات لتلبية احتياجات كثيرٍ من العملاء المرضى مثلها، وبذا تسد فجوةً واضحةً وغالباً ما يجري تجاهلها في السوق. وبالمثل يمكن أن تتحول أشكال الحرمان والقيود المرتبطة بالنوع الاجتماعي إلى خلق فرصٍ تكون المرأة في أفضل وضعٍ لاغتنامها. قالت صاحبة مقهىً للنساء فقط في الرقة: "كنا بحاجةٍ إلى مساحةٍ خاصةٍ بنا للاستمتاع بصحبتنا والاعتناء بأنفسنا. لا ينبغي أن تكون هذه الأماكن حكراً على الرجال وحسب."

وثمة طريقةٌ أخرى تساهم بها رائدات الأعمال في خدمة المجتمع، ألا وهي مشاركة المعرفة، وفي هذا السياق يؤدي انتقال المهارات عبر الأسرة دوراً مهماً، فالنساء يتعلمن من أمهاتهن أو أخواتهن الأكبر سناً أو عماتهن أو بنات عمومتهن البعيدات، وتحرص كثيراتٌ منهن على نقل مهاراتهن وخبراتهن إلى الجيل القادم. يمكن أن يحدث ذلك ضمن المجتمعات المغلقة: على سبيل المثال لا تقبل صاحبة ورشة خياطةٍ في العاصمة إلا المتدربات اللواتي ينتمين إلى "عائلاتٍ دمشقيةٍ صالحةٍ ومعروفةٍ ومحافظةٍ ومتدينةٍ". وأما النساء الأخريات فيعلمن حِرفهن خارج دوائرهن الخاصة بهدف نشر المعرفة كوسيلةٍ لدعم الآخرين. وصفت رائدة أعمالٍ تعمل في مجال إعادة التدوير جهودَها قائلةً: "بدأتُ بتعليم مجموعةٍ من المراهقات كيفية إعادة تدوير الأشياء الموجودة لديهن في المنزل، كما أعملُ على تطوير منهجٍ دراسيٍّ لإرشادهن."

* * *

لن يكون للتجارات التي تقودها النساء في سوريا أي تأثيرٍ على المقاييس الاقتصادية التقليدية، إذ من غير المرجح أن تدعم هذه التجارات والأعمال الناتجَ المحلي الإجمالي المتدهور في سوريا أو أن تزيد صادراتها، غير أن بإمكانها إحداثَ تحولٍ على المستوى الشعبي، فهي تخفف من الصعوبات الاقتصادية، وتعيد ببطءٍ بناء المجتمعات التي دمرتها الحرب الدائرة منذ أكثر من عقدٍ من الزمن. وفي الحقيقة تنحدر كثيرٌ من رائدات الأعمال من أكثر الأسر تضرراً من الحرب بسبب الظروف الصعبة التي يجدن أنفسهن فيها، ما يجعل إنجازاتِهن أكثر إثارةً للإعجاب في مجتمعاتٍ في أمسّ الحاجة إلى شكلٍ من أشكال التعافي والانتعاش.

غير أن قيوداً كثيرةً ستستمر في الحد من صعود سيدات الأعمال، فقلةٌ منهن يأملن التراجع أو التخلي عن أدوارهن التقليدية، هذا على افتراض أنهم يطمحن ذلك، إذ تشارك نحو 17% وحسبُ من النساء في الاقتصاد الرسمي في سنة 2022 وفقاً لمنظمة العمل الدولية، وهذا مؤشر على مدى تجذر هذه المعايير الجنسانية في المجتمع. وفي الوقت الحالي من المستبعد أن يغيّر المجتمع توقعاته، وإن عوامل مثل ضغط الأقران، والمضايقة من الذكور، وغير ذلك من أشكال الإكراه ستظل موجودةً، ما سيضع سقفاً للفرص المتاحة أمام رائدات الأعمال السوريات.

غير أن هذا الأمر ليس حكراً على سوريا وحدها، فسواءً كان المجتمع محافظاً أو ليبرالياً، أو يضغط على النساء للزوم المنزل وتربية الأطفال أو التنافس مع الرجال المهيمنين في مكان العمل، فإن لكل مجتمعٍ طرقه الخاصة للحد من تطلعات النساء، وبالتالي لم تعد رائداتُ الأعمال السورياتُ وحدهن في مواجهة هذه القيود، وإن إنجازاتهن اليومية تشكل جزءاً من نضالٍ أكبر بكثير.

29 كانون الثاني 2024

كُتبت هذه المقالة بالتعاون بين فريق منظمة سينابس

ممتنون لاستخدام الرسوم: © يافا شانيك، بنات العم، ألمانيا، 2018.


صُممت الرسوم كجزءٍ من مشروعٍ بحثيٍ. هذا البحث جزء من مشروع مستمر تموله الأكاديمية البريطانية (SDP2n100227): "تغيير العلاقات وإعادة تعريف التقاليد: اللاجئات السوريات والعراقيات في الأردن"




محتوى ذو صلة