استنفاد الصحراء

المال والخرسانة والخضار في الأردن

أليكس سايمون

عندما تقود سيارتك في الأردن في فصل الربيع، قد يغيب عن ذهنك أنك في بلدٍ من بين أكثر بلدان العالم ندرةً بالمياه وأنه يستورد جلّ أغذيته الرئيسة، فبساتين التمر والبيوت البلاستيكية تملأ وادي الأردن، وفي المرتفعات تنمو حقول الحبوب في التربة الخصبة، فيما تملأ مياه الأمطار السدود في الأودية الصحراوية، كما يرعى الرعاة أغنامهم في أماكن غير متوقعةٍ، كالمساحات الخضراء المنتشرة بين الأبنية الممتدة حول العاصمة وكأنها أحجارٌ لها لونُ الزبدة.

غير أن المشاكل تتضح ما أن تسأل مَن حولك، إذ يعاني المزارعون في الوادي من ارتفاع ملوحة التربة وضآلة حصص مياه الري، ويخشى سكانُ المرتفعات التهام التوسع العمراني أخصب أراضي البلاد، فيما يشكو الرعاةُ أن مواشيهم لا تكاد تجد في المراعي ما تقتات عليه بسبب انخفاض معدل هطول الأمطار. يشعر سكان المناطق الريفية في الأردن، واحداً تلو الآخر، بأن الدولة قد تخلت عنهم رغم ما يبذلون من جهدٍ في زراعة المحاصيل وإنتاج اللحوم ومشتقات الألبان لإطعام العدد المتزايد من سكان بلدهم. وفيما يصارع هؤلاء من أجل البقاء، يستغل رجال الأعمال المقربون من الدولة التربةَ والمياه كيفما شاءوا، فيحولون ثروة الأردن الثمينة إلى سلعٍ غذائيةٍ مخصصةٍ للتصدير.

غالباً ما يُنظر إلى المأزق البيئي الذي يواجهه الأردن بأنه حالةٌ متطرفةٌ واستثنائيةٌ، وهذا صحيحٌ من نواحٍ عديدةٍ، فقد كانت الموارد المائية في المملكة شحيحةً حتى قبل أن تبدأ في النضوب، كما أن البلد محاطٌ بالحروب والصراعات طوال معظم عمره القصير، فاستوعب موجاتٍ من اللاجئين من فلسطين والعراق وسوريا. غير أن قصة الأردن هي قصتنا جميعاً: إنها قصة عالمٍ يرزح تحت وطأة تزايد سكانه؛ وتحتكر فيه الشركاتُ الكبرى المواردَ الطبيعيةَ، فيما يكافح من يُطعموننا من أجل البقاء، لكن تلك القصة، وإن بدت نذيرَ شؤمٍ، قد تمدنا بطوق النجاة أيضاً: فعلى الأردن، كغيره من الدول، أن يختار سبيلاً يدير من خلالها بيئته التي تزداد قسوةً يوماً بعد يومٍ، وإن كيفية تكيفه اليوم لهي درسٌ لنا جميعاً.

التوسع العمراني

بين بساتين الزيتون وحقول الشعير تقع مدينةُ إربد التي لا تكف عن قضم الأرض، فعلى مدى عقودٍ من الزمن التهمت مبانيها الخرسانيةُ المنخفضةُ التربةَ الحمراءَ التي جعلت، فيما مضى، من شمال الأردن وجنوب سوريا سلة غذاءٍ. "لقد كان سهل حوران يغذي الإمبراطورية الرومانية"، هذا ما قاله متأسفاً مستشارٌ في مجال الاستدامة من إربد. "واليوم يبني الناس المنازل الرخيصة، وينصبون اللوحات الإعلانية القبيحة، ويُلقون القمامة على الأرض."

ولا شك أن القصة أكبر من ذلك، فتحول الحقول الخصبة إلى غابةٍ خرسانيةٍ يعكس قصة تحضُّر البشر وتمدُّنهم، قصةً تتجاوز مدينة إربد بل والأردن. عندما نال هذا البلد استقلاله سنة 1946، كان عدد سكانه أقل من مليون نسمةٍ، أما اليوم فتقدر الدولةُ عددَ سكانها بأزيد من 11 مليون نسمةٍ، وقد تطورت عاصمته عمّان من قريةٍ مغبرةٍ إلى مدينةٍ مكتظةٍ تبلغ مساحتها ضعفَ مساحة برشلونة.

يخلق التوسع العمراني المحموم والعشوائي مشاكل لا حصر لها، من قبيل الازدحام المروري والتلوث وارتفاع تكاليف الإسكان، على سبيل المثال لا الحصر، غير أن المياه هي التهديد الوجودي الأكبر على الإطلاق، إذ تُضخ معظم المياه من طبقات المياه الجوفية البعيدة عن العاصمة على حساب المجتمعات والنظم البيئية المحيطة بها. والضحية الأبرز هي محمية الأزرق المائية في شمال شرق الأردن، واليوم يحمل اسم الأزرق ذاتُه مفارقةً قاسيةً، وذلك أنه جف بعد عقودٍ من نضح مياهه لتزويد المراكز الحضرية. وفي ذلك قالت مهندسةٌ زراعيةّ متخصصةٌ في صحة التربة بنبرةٍ تشي بالحسرة: "كان الأزرق فيما مضى مركزاً للتنوع البيولوجي، حتى أن الناس كانوا يربون الخيول هناك."

اسم الأزرق نفسه  يحمل في طياته مفارقة مرّة

والأزرق هو أحد ضحايا أزمة المياه التي تضرب جميع أنحاء البلاد، ففي عام 2017 بلغ إجمالي الطلب على المياه في الأردن ضعف إمداده المستدام وفقاً للإحصاءات الرسمية، ولذا يواجه سكان العاصمة انقطاعاتٍ متكررةً رغم استجرار عمّان للمياه من جميع أنحاء البلاد. إن التقطّع في تدفق المياه يخلق تقلباتٍ حادةً في الضغط في الشبكة، ما قد يؤدي إلى تشقق الأنابيب، والنتيجة هي حلقةٌ مفرغةٌ تعمل فيها ندرة المياه على تغذية التسربات، ما يؤدي إلى تفاقم ندرة المياه.

كما أن للتوسع العمراني الجامح ضحيةً أخرى: وهي أكثر الأراضي الزراعية إنتاجيةً في الأردن، إذ أوضحت المهندسة الزراعية أن "البادية تشكل نحو 90 بالمئة من أراضي الأردن"، في إشارةٍ إلى المنطقة القاحلة وشبه القاحلة التي تمتد على مساحاتٍ شاسعةٍ من الأردن والدول المجاورة. وأردفت قائلةً: "تتلقى هذه المناطق أقل من 200 ملم من الأمطار سنوياً"، ما يحد مما يمكن زراعته بعلاً. وعلى النقيض من ذلك تحظى المرتفعات في غرب الأردن - والتي تشمل المدن الكبرى مثل عمان وإربد - بتربةٍ خصبةٍ وأمطارٍ أكثر. وأردفت المهندسة قائلةً:

تُعد المناطق المرتفعة مثل عجلون وإربد من أفضل أماكن الأردن للزراعة البعلية، إذ تحصل على قرابة 500 ملم من الأمطار سنوياً، وفي هذه المناطق كان أجدادنا يزرعون اللوز والتين والتمر، لكنها كذلك مناطقُ جذابةٌ جداً للتطوير العقاري، ولذا ثمة قدرٌ كبيرٌ من البناء على الأرض الخصبة.


والأسوأ من ذلك أن الزحف العمراني الأفقي النهم يحفّز الطلب على مواد البناء التي يؤدي استخراجها إلى تدمير النظم البيئية الرئيسة أيضاً. قال خبير الاستدامة: "في جميع أنحاء البلاد مقالعُ لاستخراج الإسمنت ومواد البناء الأخرى، ومعظمها غير قانونيٍّ، ويقال إن ثمة 45 مقلعاً في عجلون وحدها، خمسةٌ منها وحسبُ مرخصةٌ." من الصعب التحقق من هذه الأرقام، لكن تصديقها سهلٌ: فإلقاء نظرةٍ سريعةٍ على وسائل الإعلام الحكومية يؤكد انتشار المقالع غير القانونية في عجلون التي تشتهر بغاباتها الخضراء.

إن جذور هذا التحول المحلي جذورٌ عالميةٌ في الواقع، فابتداءً من عام 1950 تقريباً، عندما كان الأردن لا يزال بلداً فتياً، شرعتِ البشرية فيما يسمى أحياناً بالتسارع الكبير، فبفعل التكنولوجيا والديموغرافيا واقتصادات ما بعد الحرب، انطلقت وتيرة التنمية البشرية بسرعةٍ صاروخيةٍ، وتضخم عدد سكان العالم، وازداد التوسع العمراني واقتناء السيارات زيادةً كبيرةً، وكذلك استهلاك المياه والأسمدة والطاقة، الأمر الذي أدى بدوره إلى إطلاق الغازات الدفيئة وجميع أنواع التلوث. أدى توفر الخرسانة إلى انخفاض تكلفة البناء، وفي الولايات المتحدة أدى الازدهار الاقتصادي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى ظهور ثقافة الطرق السريعة، والسيارات الخاصة، ومراكز التسوق في الضواحي، والاستهلاك الترفيّ، وحين ننظر حولنا في الأردن، بل وفي جزءٍ كبيرٍ من منطقة الشرق الأوسط والعالم، نجد أن هذه السمات المميزة موجودةٌ بوضوحٍ أيضاً.

إن جغرافيا الأردن نفسَها هي نتاج ما شهده منتصف القرن العشرين من اضطراباتٍ، فقد عززت حدودُه التي فرضها الاستعمار الظروفَ الملائمةَ لتدفق أعدادٍ كبيرةٍ من اللاجئين وقليلٍ من المياه. ويقع أهم نهرين فيه، الأردن واليرموك، تحت رحمة جيرانٍ أقوياءَ وشرسين، وهما إسرائيل وبدرجةٍ أقل سوريا. يمتد حوض الديسي الجوفي بالغُ الأهمية، والذي يزود عمان بمياه الشرب، على الحدود مع المملكة العربية السعودية، وهي بلدٌ شاسعٌ يبلغ عدد سكانه ثلاثة أضعاف سكان الأردن، ويبلغ نصيب الفرد فيه من الناتج المحلي الإجمالي ثمانية أضعاف مثيله في الأردن. ألحقت الحدود الضرر بالقبائل الرعوية التي كانت، على مدى قرونٍ، تنتقل بتعاقب فصول السنة عبر مراعي البادية، لكنها أصبحت محاصرةً بحدودٍ اخترقت تلك السهوب على حين غرةٍ. وللتعويض عن هذه الخسارة راحت الدولة تمنح الوظائف وتحسن الخدمات، ما أدى إلى زيادة الاستهلاك أكثر فأكثر فيما كانت المياه تنضب والتربة الخصبة تتضاءل، وعدد السكان يزداد بسرعةٍ.

تسرب المياه

يرفض كثيرٌ من الأردنيين فكرة أن أزمتهم فُرضت من الخارج، أو إلقاء اللوم فيها على القدَر ببساطةٍ: "لا تكف الحكومة عن القول إن الأردن هو ثاني أفقر دولةٍ بالمياه في العالم، وهذا مسوغٌ لمدى سوء الحال، لكن المشكلة الحقيقية هي أننا لا نحْسن إدارة مياهنا"، قال ذلك بتذمرٍ مدرسٌ متقاعدٌ في مدرسةٍ حكوميةٍ يعتني اليوم بمزرعة فواكه في شمال الأردن الخصب.

وصحيحٌ أن سكان المملكة يواجهون محدودية المياه والأرض والثروة، لكن باستطاعة الأردن فعل الكثير بما يتوفر لديه، فنصف المياه التي تُضخ عبر الأنابيب تضيع إما نتيجةً للتسرب أو بسبب السرقة. يمكن إرجاع هذا الهدر، أو المياه غير المدرة للعائدات، جزئياً إلى البنية التحتية المتهالكة، والإمداد المتقطع، ونقص الموظفين، وفي ذلك قال طالب دكتوراه يدرس إدارة المياه: "لا تمتلك مرافق المياه الكبرى الموظفين اللازمين لاكتشاف التسربات على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع ببساطةٍ. إنهم لا يستطيعون اكتشاف المشاكل وحلها بالسرعة الكافية." ورغم إنفاق المانحين الدوليين مئات الملايين من الدولارات للحد من هدر المياه، لا يزال هذا الهدر كبيراً للغاية.

وفي الوقت نفسه يجد كثيرٌ من المزارعين والأُسر طُرقاً للالتفاف على الحدود المفروضة على استهلاك المياه، ودفع مبالغ أقل مقابل ما يستخدمونه، وهي ممارسةٌ منتشرةٌ ومعترفٌ بها على نطاقٍ واسعٍ حتى من قِبل أولئك الذين يقومون بالسرقة. قال مزارعٌ من الطبقة المتوسطة في وادي الأردن: "بالطبع نحن نسرق المياه، فإذا كانت كمية المياه المخصصة لي لا تكفي للحفاظ على حياة محاصيلي، فسوف أزيل العداد وآخذ المزيد، فالغرامات أقل تكلفةً من ترك محاصيلي تموت." ثم صمتَ للحظاتٍ للتأمل في الحكمة من وراء مناقشة هذا الأمر مع باحثٍ يحمل دفتر ملاحظاتٍ، ثم أردف: "لا تخبر الأمريكيين بذلك. لا بأس، يمكنك أن تخبر من شئت."

"الغرامات أقل تكلفةً من ترك محاصيلي تموت."

يتذمر المزارعون مثله من فكرة أنهم يتحملون المسؤولية عن أزمة المياه في المملكة، ففي نهاية المطاف هو ليس سوى فلاحٍ بسيطٍ يزرع القمح والفلفل الحلو الذي يطعم الأردنيين، ويصّر هو وآخرون على أن الجاني الحقيقي هو الشركات الاستثمارية الكبرى التي تستخدم كمياتٍ هائلةً من المياه المدعومة لريّ المحاصيل التجارية التي تُدر أرباحاً كبيرةً من خلال تصديرها. ويفعل البعض ذلك في المناطق الصحراوية ذات الأمطار الشحيحة على حساب طبقات المياه الجوفية المتضائلة مثل الديسي والمفرق. ويقال إن آخرين يدفعون الرشاوى لتقليل ما ينبغي عليهم دفعه، وبالتالي تحسين هوامش ربحهم. قال محاسبٌ مقربٌ من الحكومة: "أعرف رجلاً لديه مزرعة فواكه تبلغ أرباحها السنوية مليون دينارٍ أردنيٍّ [1,4 مليون دولارٍ أمريكيٍّ]، ويضخ نصف مليون مترٍ مكعبٍ من المياه الجوفية سنوياً، لكنه يرشو مسؤولاً حكومياً ليسجل أنه يضخ 50 ألفاً وحسب." هذه الاتهامات شائعةٌ بقدر ما يصعب توثيقها.

إن الاستفادة من مياه الأردن تعني تصديرها إلى الدول الأغنى على شكل منتجاتٍ، ففي عام 2021 كان الأردن سادس أكبر مصدّرٍ للخوخ والدراق الأملس في العالم، واحتل المرتبة الثالثة عشرة من بين أكبر مصدري الطماطم في العالم وفقاً لمرصد التعقيد الاقتصادي. كما أنه مصدرٌ رئيسٌ للماعز والأغنام: الماشية التي تشتهر بها البادية، لكن إنتاجها ينهك التربة في ظل غياب الدعم الحكومي لإدارة النظام البيئي. ومن المفارقات القاسية للعولمة أن كثيراً من الأردنيين باتوا عاجزين عن شراء اللحوم المحلية؛ ومن الأرخص لهم شراء الواردات التي تُنتَج بكمياتٍ ضخمةٍ، وتُشحن آلاف الكيلومترات من أستراليا ونيوزيلندا. والأدهى من ذلك كله هو أن المياه لا تُستخدم في الصادرات الغذائية وحسب، بل في الصناعات الثقيلة أيضاً: فالأردن مصدّرٌ رئيسٌ للفوسفات والبوتاس اللذين يُنتج بعضٌ منهما على الأقل بمياه الأمطار عالية الجودة.

ليست المملكة وحدها مَن تبيع ثرواتها الطبيعية

وليست المملكة وحدها مَن تبيع ثرواتها الطبيعية للدول الأغنى، فعلى الطرف الآخر من البحر المتوسط يضخ المغرب الذي يعاني الجفاف الماءَ إلى ثمار الأفوكادو العطشى التي تُستهلك في نهاية المطاف في أوروبا. وعلى نحوٍ مماثلٍ تُحرق العصاباتُ في المكسيك الغاباتِ لزراعة الأفوكادو الذي يُصدّر إلى الولايات المتحدة. إن هذه التجارة مربحةٌ لكبار المصدّرين في نصف الكرة الجنوبي، وجيدةٌ للمستهلكين في البلدان الغنية، لكنها تؤثر سلباً على النظم البيئية التي تكافح الآن لإطعام شعوبها.

إنّ فشل الأردن في الاستفادة بصورةٍ أفضل من الموارد الشحيحة يعكس أزمةً أوسع نطاقاً، أزمةً تنتشر في جميع أنحاء العالم العربي، فقد بنت المملكة، مثل معظم دول المنطقة، اقتصادها بعد الاستقلال على الريع: دولارات النفط من دول الخليج حديثة الغنى، وسخاء الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة، والمساعدات مقابل قتال الجهاديين واحتواء اللاجئين. وقد انتقلت هذه الثروة إلى المجتمع في شكل وظائفَ حكوميةٍ وإعاناتٍ سخيةٍ بالمواد الأساسية مثل المياه والطاقة، كما أنها حجبتِ الفساد داخل الاقتصادات حيث أنفقت الدول ببذخٍ، لكنها لم تُنتج سوى القليل من حيث القيمة الاقتصادية أو الإيرادات الضريبية.

وفي الأردن، كما هو الحال في الدول العربية الأخرى، راح هذا النموذج يتداعى مع مطلع القرن العشرين، ففي مواجهة ارتفاع الديون والضغوط من الممولين الغربيين لخفض الإنفاق الحكومي، تحول الأردن نحو الخصخصة. والقصة التي تلت ذلك أصبحت مألوفةً: ازدهرت رأسمالية المحسوبية، وتآكلت الخدمات العامة، واتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، كما راحت الشركات الصغيرة والمتوسطة تكافح لتجاوز الكم الهائل من الروتين الحكومي وعدم الكفاءة المستشري. ورغم تضخم عدد الموظفين وأعباء الديون الثقيلة، لا يزال الإنفاق الحكومي مرتفعاً، فيما هوتِ الحماية الاجتماعية لأكثر الفئات ضعفاً إلى مستوياتٍ متدنيةٍ جديدةٍ.

ويتجلى هذا الأمر أكثر ما يتجلى في المناطق الريفية النائية، حيث يعاني المزارعون تضاؤلَ الدعم الحكومي، وشحّ الأمطار، وطوفانٍ من الواردات الرخيصة. وفي التلال خارج إربد، روى أبٌ لثلاثة أطفالٍ كيف أنه فشل في محاولة كسب لقمة عيشه من خلال تربية الأغنام: "أتمنى تحويل ذلك إلى مشروعٍ تجاريٍّ حقيقيٍّ، لكن الأمر صعب دون رأس مالٍ كافٍ." وهو الآن يقضي على مضضٍ ثلاثةً من كل أربعة أشهرٍ في العمل في المملكة العربية السعودية لسداد القروض التي حصل عليها للتغلب على المواسم السيئة. يفر بعض المنتجين المثقلين بالديون من البلاد كلياً، وهو إجراءٌ متطرفٌ يعكس حقيقة أن التأخر عن سداد الديون في الأردن يودي بك إلى السجن.

التأخر عن سداد الديون في الأردن يودي بك إلى السجن

وفي محافظة الطفيلة الفقيرة في الجنوب، ينتظر راعي أغنامٍ في السابعة عشر من عمره حلاً أقرب إلى منزله، فهو يرعى الماشية منذ أن كان في الثالثة عشر، لكنه سيترك عمله بمجرد قبوله في الجيش الأردني، وقال: "ما من مستقبلٍ في الثروة الحيوانية، فالأمطار تشح عاماً بعد عامٍ، ولذا قلّ العشب وعلينا شراء المزيد من الأعلاف التجارية." إن البقاء على قيد الحياة يعني حساب السعرات الحرارية: "لدينا دائماً خمسة كلابٍ أو ستةٌ، لا أكثر ولا أقل، فإذا ما أنجبتْ جراءً لا نفع منها أطلقنا عليها النار أو سممناها، وذلك أنْ لا طاقة لنا بإطعامها، ولذا فهي تهاجم الأغنام حين يفتك بها الجوع." ولا غرابة أن يفضل هذا الراعي وكثيرون غيره، بما في ذلك إخوته الثلاثة، الوظائفَ الحكومية، وهذا يعني مزيداً ممن يتقاضون رواتبهم من الدولة، وعددٍ أقل لإطعام المجتمع.

الحمأة

في عام 2021 واجه المزارعون في بلدة ذيبان أزمةً مفاجئةً وغامضةً حين تقلص خزان سد الوالة الذي يغذي مزارع البلدة ومصايد الأسماك، فغدا بركةً صغيرةً، وقد أعلن أحد المسؤولين أن تصميم السد سيئٌ، وتعيّن تفريغه كيلا ينهار. وافترض آخرون ممن لم تقنعهم تلك الرواية أن الخزان قد بلغ من التلوث ما جعل الدولة تفرغه لتجنب تسمم طبقة المياه الجوفية الواقعة أسفله. ولم تخفف حزمة التعويضات التي قدمتها الدولة من التداعيات الاقتصادية على سكان المنطقة إلا جزئياً، فيما ظل السبب الحقيقي لإفراغ السد غامضاً، وفي ذلك كتب الباحث دان ويلكوفسكي: "يبدو أن سكان ذيبان قد يئسوا من معرفة الحقيقة بعدما ألِفوا الإهمال والوعود الجوفاء."

إن الغموض وغياب الثقة شائعان للغاية في المناقشات المتعلقة بالأزمة البيئية في الأردن، فرغم أن المملكة تزخر بالدراسات والرؤى والخبرات الفنية والتمويل الأجنبي، تثير البيانات الرسمية الشكوك، وتظل القوانين والاستراتيجيات حبيسة الرفوف، وتتبخر جلّ المساعدات الخارجية إلى ضبابٍ من مشاريعَ قصيرةِ الأجل. وكل ذلك يطرح السؤال التالي: كيف لسدٍّ كبيرٍ في بلدٍ تنفد فيه المياه أن يُفرغ دون أن يعرف أحدٌ السبب أو على الأقل يعترف به؟

لا علاقة لهذا الغموض والضبابية بالعلم أو الإمكانيات التقنية

أولاً، الأردن ليس مكاناً تنتقل فيه المعلومات بحريةٍ. قال المحاسب الأردني بنبرةٍ فيها شيءٌ من الأسى: "لقد تعودتْ دائرة الإحصاءات العامة على اختلاق الأكاذيب." ورغم التمويل الغربي للحكم الرشيد وحقوق الإنسان ووسائل الإعلام المستقلة، ازداد الاستبداد وتقلص الحيز المدني. قالت ناشطةٌ أردنيةٌ شابةٌ إن وسائل الإعلام العربية نادراً ما تغطي الحوادث الأمنية المحلية. وبدلاً من ذلك، فإنها تعلم بتلك الحوادث من أصدقاء أمريكيين يتواصلون مع مصادر باللغة الإنكليزية.

يمتد هذا التعتيم إلى المجال البيئي، فالمياه مسألة أمنٍ قوميٍّ، وبالتالي تظل مشوبةً بالغموض، وما يقلق الخبراء هو عدم معرفة أي المزارع الكبيرة التي تسطو على طبقات المياه الجوفية الحيوية. كما يساور البعضَ قلقٌ من احتواء مياه الشرب في العاصمة على اليورانيوم أكثر مما تعترف به الدولة، ويشكك آخرون في البيانات الرسمية المتعلقة بجودة مياه الصرف المعالَجة، والتي تُستخدم في أشكالٍ معينةٍ من الزراعة. قال مزارعٌ في وادي الأردن متجهماً: "المياه التي نحصل عليها قذرةٌ، ويقولون إنها تصلح للزراعة، لكنها لا تصلح حتى للغسيل."

إن هذا الافتقار إلى الوضوح، وما يولده من إحباطٍ، منتشرٌ على نطاقٍ واسع. عبّر موظفٌ في أكبر محميةٍ طبيعيةٍ في الأردن عن مخاوفَ مستمرةٍ منذ فترةٍ طويلةٍ من أن يؤدي تعدين النحاس إلى تقويض جزءٍ كبيرٍ من التنوع البيولوجي في تلك المحمية: "بصراحةٍ، من المستحيل معرفة ذلك". ورغم سنواتٍ من الدراسة، لا يبدو أن أحداً متيقنٌ مما إذا كان في المنطقة ما يكفي من النحاس لتبرير استخراجه لأغراضٍ تجاريةٍ. ويتعلق جدلٌ آخر بمدى جدوى التسميد باستخدام الحمأة، وهي المخلفات الصلبة الناتجة عن معالجة مياه الصرف الصحي. ويصر البعض على أن الحمأة في الأردن تُعالج وفقاً لمعايير تضمن استخدامها بأمان لمحاصيلَ محددةٍ، وفي ذلك قال الخبير في مجال الاستدامة مبتسماً: "لدينا حمأةٌ ممتازةٌ!" غير أن البعض الآخر غير مقتنعٍ بذلك، ولذا تُخزَّن الحمأة أو تُرمى في حفرٍ في الأرض في الغالب؛ ويقال إن منها ما يُسرق ليُستخدم خفيةً.

لا علاقة لهذا الغموض والضبابية بالعلم، أو الإمكانيات التقنية، أو حتى بنقص التمويل، بل هو نابعٌ من هالة غموضٍ اختلقها الإنسان من معلوماتٍ مضللةٍ وانعدام ثقةٍ لا تجده مستشرياً في الأردن وحده، بل في الشرق الأوسط الأوسع وما سواه، إذ لا تتوانى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، واللتان تقدمان نفسيهما كقادةٍ في مجال الابتكار المناخي في المنطقة، عن قمع حتى الأشكال الأساسية من الانتقاد والاستقصاء، وأما في الدول الغربية، فللشركات والحكومات باعٌ طويلٌ في التعتيم بانتهاج مزيجٍ من الأكاذيب الفجة والتلاعب بمكرٍ، فسوق موازنة الكربون ليس سوى عملية احتيالٍ موصوفةٍ في أغلب الأحيان، والشيء ذاته ينطبق على المزاعم الغربية بدعم البلدان الفقيرة من خلال "التمويل المناخي"، والذي يُترجَم جلُّه حتى الآن إلى قروضٍ دوليةٍ جشعةٍ.

غير أن ما يميز الأردن هو مدى ضآلة قدرته على تحمل هذا التزوير، إذ يتفق الجميع على أن المملكة تستنزف مياهها، وأن تغير المناخ يزيد الأمور سوءاً. وعلى عكس ممالك الخليج الجافة المماثلة، يفتقر الأردن إلى الثروة اللازمة لإيجاد حلولٍ لأجلٍ غير مسمىً مثل تحلية مياه البحر. وثمة أزمةٌ كبرى تلوح في الأفق، لكن أحداً لا يعرف يقيناً ميعاد وصولها إلى ذروة قوتها، وقد لخصت قناة حبر الإعلامية المستقلة الرائدة هذا المزيجَ المقلقَ من الوضوح والغموض في عنوانٍ لافتٍ للانتباه لسلسلتها الاستقصائية: عطشٌ في الأفق.

التبذير

وبالنظر إلى المخاطر الكثيرة، يحز في النفس مدى انعدام الثقة في الحلول المقترحة، وكثيرٌ منها منطقيةٌ، فالأردن بحاجةٍ ماسةٍ إلى إصلاح بنيته التحتية المتداعية، وإصلاح المؤسسات المتصلبة المسؤولة عنها، ويتعين عليه كبح جماح الاستغلال المفرط للمياه، وخاصةً من جانب الشركات الكبرى التي لا تقدم الكثير للمجتمع في مقابل ذلك، إن قدمت شيئاً أصلاً، كما أن عليه إحياء الخدمات الزراعية الحكومية التي تُركت لتضمحل بعد عقودٍ من الخصخصة؛ وهذه الأفكار ليست جديدةً. قال مهندسٌ زراعيٌّ من إربد: "منذ ثلاثة عقودٍ ونحن ندرس مسارات الاستدامة في الأردن، ونعرف ما ينبغي فعله."

وبرغم ذلك كله لم يُحرَز أي تقدمٍ يذكر في أيٍّ من هذه المجالات رغم الاستثمارات السخية للمانحين الغربيين وبنوك التنمية. قال المهندس نفسه: "إننا لا نكف عن إعادة اختراع العجلة، فأحياناً أحضرُ حفل إطلاق مشروعٍ فأقول: "يبدو كمشروعٍ شاركتُ فيه منذ 15 عاماً!". هذا الشعور بالتكرار مستشرٍ في قطاع المساعدات في الأردن، فرغم عقودٍ من الدعم لمؤسسات الدولة والمنظمات غير الحكومية، يبدو أن أياً من أنواع التدريبات لم يتغير كثيراً. قالت مستشارة تنميةٍ سئمت هي الأخرى من محاولة إصلاح نظامٍ بدا لها معطلاً: "إننا نتندر على هذا القطاع، فإذا ما استوقفتَ أي أردنيٍّ في الشارع وسألتَه عن عمله، وجدتَ أنه إما مدربٌ أو متدربٌ في منظمةٍ غير حكوميةٍ."

إن هذا الشعور بالمراوحة في المكان يعكس حقيقة أن الدولة الأردنية المفتقرة للمال تظلّ في وضع الطوارئ رغم كل ما تتلقاه من مساعداتٍ، وهو ما أوضحه وزيرٌ سابقٌ بشيءٍ من المبالغة ربما:

لا تبالي الحكومة بالبيئة؛ فالبيئة مسألةٌ أبديةٌ، والحكومة لا تملك المقدرة المالية لإنجاز أفكارٍ ذات مدىً طويلٍ لأنها تستنزف كامل الميزانية على النفقات قصيرة المدى، أي الرواتب والمعاشات التقاعدية وسداد الديون. نحن مثالٌ للدولة النامية لأننا نبيع المستقبل بأبخس الأثمان لسداد ثمن الحاضر.

ويضاف إلى تلك القيود الاقتصادية الحساسياتُ السياسيةُ الشائكة في الأردن، إذ يقال إن السلطات الأردنية تتجنب تنفيذ الإصلاحات، من قبيل تقييد استخدام المياه الجوفية لزراعة الدراق في الصحراء، وذلك كيلا تثير سخط كبار رجال الأعمال الرئيسين أو العشائر الكبيرة. ويمتد هذا الخوف إلى المسؤولين الأفراد: ففي بلدٍ اشتهر بإقالة رئيس وزرائه كلما اندلعت فيه أزمةٌ سياسيةٌ، يفضّل كثيرون التزام الحذر بدلاً من الدفع نحو تغييرٍ قد لا يحظى بشعبيةٍ. وأردف الوزير السابق قائلاً: "لا أحد يكافئك على تحقيق نجاحٍ، لكنك ستعاقب إن ساءت صورتك أمام الملأ."

نحن مثالٌ للدولة النامية لأننا نبيع المستقبل بأبخس الأثمان لسداد ثمن الحاضر

إن هذا المزيج من التقاعس، والعزوف عن المخاطرة، والميزانيات المحدودة يفاقم مشكلةً أخرى: الاعتماد على المساعدات، إذ تعتمد دولٌ كثيرةٌ في الشرق الأوسط على المساعدات الخارجية، غير أن بضع دولٍ تعتمد عليها اعتماداً كبيراً منذ نشأتها. وفي كثيرٍ من الأحيان تعتمد قدرة الوكالات الحكومية على تنفيذ مشاريعها على مهارتها في التضرع للمانحين. أصدر مدير هيئةٍ إداريةٍ محليةٍ تقدم الدعم الفني للمزارعين كتيباً باللغة الإنكليزية يحوي قائمةً بالمشاريع التي ترغب بتنفيذها، وكانت موجهةً مباشرةً إلى الداعمين الأجانب، لكن معظم الأرض المحيطة بمكتبه، والمخصصة لاختبار الأساليب الجديدة، أرضٌ بوارٌ بسبب نقص المال والمياه، فيما احتلت أشجار المسكيت، أو السلّم، وهي من الأنواع الدخيلة، قطعة الأرض المهجورة بمعظمها.

يطرح الاعتماد على المانحين عدة مشاكل. وفي الأردن، كما هي الحال في أي مكانٍ آخر، برامج المساعدات مشتتةٌ، إذ يَضخ عددٌ لا يحصى من السفارات وبنوك التنمية الأموالَ من خلال وزاراتٍ متعددةٍ، وشركاتٍ استشاريةٍ ربحيةٍ، ومنظماتٍ غير حكوميةٍ، والنتيجة خليطٌ من المشاريع والمختصرات اللغوية والمقاييس. "إن عدد المانحين جزءٌ من المشكلة،" قال مستشار التنمية بتململٍ، ثم أردف: "قد تتعامل وزارةٌ ما مع 15 جهةً مانحةً مختلفةً في الوقت ذاته." أضف إلى ذلك تشرذم المؤسسات الأردنية نفسها، ما يصعّب من معالجة المشاكل البنيوية المعقدة مثل الأمن المائي والغذائي، والتي تتطلب جميعها سياسةً حكوميةً منسقةً."

وبدلاً من ذلك يتدفق قدرٌ كبيرٌ من الأموال لأجل حلولٍ عصريةٍ صغيرةٍ، والتي غالباً ما لا تكون حلولاً على الإطلاق، إذ يساعد كثيرٌ من المانحين أقلَّ المحتاجين لتلك المساعدة، فقد هبّ المانحون مثلاً لدعم زراعة أشجار التمر المجدول التي تناسب تربة الأردن الآخذة بالتملح، لكن زراعتها مكلفةٌ أيضاً، وتستغرق سنواتٍ لتدر الربح، وبالتالي لا تلائم عامة المزارعين، ومعظم ثمارها النضرة تذهب للتصدير، ولا تفيد أحداً سوى المزارعين. والشيء نفسه ينطبق على تمويل الجهات المانحة للزراعة المائية: وهي طريقةٌ عالية التقنية، وتعتمد على رأس المال المكثف، وتناسب في الغالب مجموعةً محدودةً من المحاصيل، وخاصة الخس والطماطم. "الزراعة المائية جيدةٌ إذا ما كنتَ سلحفاةً"، هذا ما قالته بفتور أكاديميةٌ أوروبيةٌ تكتب أطروحةً في الزراعة. "لكنها لا تسهم كثيراً في تحقيق الأمن الغذائي."

وعند مناقشة الحلول الشاملة، فإن كثيراً منها يُختزل في مشاريعَ عملاقةٍ مشكوكٍ في أمرها. اقترح أحد تلك الحلول، والذي هُلل له كثيراً كجزءٍ من "الصفقة الخضراء الزرقاء"، مبادلةَ الطاقة المتجددة الأردنية بمياه البحر المحلاة من إسرائيل، وقد استندت هذه الرؤية إلى فرضيةٍ غريبةٍ منذ البداية بالنظر إلى سجل إسرائيل الطويل في تحويل المياه أو حجبها عن جيرانها العرب، كما أن الحرب على غزة اليوم جعلت هذا الطرح المستبعد أصلاً ضرباً من الخيال. ولا يزال مشروع الناقل الوطني مطروحاً على الطاولة، وهي خطةٌ طال انتظارها لإنفاق مليارات الدولارات على خط أنابيب لضخ المياه المحلاة من البحر الأحمر إلى عمّان التي تبعد مسافة 450 كيلومتراً صعوداً. ولا يبدو أن أحداً، ولا حتى المسؤولون والمقاولون المعنيون، متيقنٌ من إتمام هذا المشروع، وحتى لو حدث ذلك، فإنه لن يسد سوى جزءٍ من العجز المائي في الأردن.

* * *

يستحضر هذا المشروع الأشبه بأضغاث الأحلام مقولةً عن الجنوب الغربي الأمريكي: يتدفق الماء صعوداً إلى حيث يوجد المال. في الواقع، هنالك أكثر من مجرد تشابهٍ عابرٍ بين الأزمات البيئية التي تضرب الشرق الأوسط والولايات الصحراوية في الولايات المتحدة الأمريكية، فهذه المناطق العطشى تزداد عطشاً بسبب النمو الجامح وتغير المناخ. وفي كلتا الحالتين، راح تقنين المياه يضرب الأُسر، فيما تشرب الشركاتُ القويةُ من الماء حدَّ الإتراع.

وبدلاً من إيقاف أسوأ ضروب الهدر، يلجأ كلا البلدين إلى أشباه الحلول التي غالباً ما تكون أكثر إهداراً، فعلى بُعد نحو 12 ألف كيلومترٍ من عمّان، يدرس المسؤولون في ولاية أريزونا صورةً طبق الأصل للناقل الوطني الأردني: وهو مشروعٌ ضخمٌ بكلفة خمسة مليارات دولارٍ لضخ مياه البحر المحلاة لمئات الكيلومترات، صعوداً أيضاً، من المكسيك إلى ولاية فينيكس، وما يزيد من غرابة ذلك التشابه هو أن الشركة التي تروج لهذا المشروع هي إسرائيليةٌ أيضاً.

كما أن كلا المنطقتين من أشد المناطق تأثراً بأزمةٍ عالميةٍ ستتفاقم قبل أن تبدأ بالتحسن، وإن أخطاءهما تحكي قصة فشلنا جميعاً، لغاية اللحظة، في الارتقاء إلى مستوى التحدي: من خلال السعي إلى تحقيق النمو بأي ثمنٍ، وترك أكثر الفئات ضعفاً لتتدبر أمرها بنفسها، وإعطاء الأولوية للأوهام التكنولوجية على حساب التغييرات العملية في أساليب حياتنا. غير أن ثمة دروساً أكثر تفاؤلاً، وعلى نفس القدر من الأهمية في هذه القصص التحذيرية، ففي كاليفورنيا تُحقق حركةٌ بيئيةٌ عمرُها عقودٌ من الزمن تقدماً بطيئاً، لكنه مهمٌّ، نحو رؤيةٍ أكثر شمولاً، وأقلَّ نخبويةً للمستقبل. أما في الأردن، فيجرب خبراء فنيون متمرسون طرائقَ تقليديةً ومبتكرةً على حدٍّ سواء للحفاظ على المياه وتحسين صحة التربة، وثمة كثيرٌ من القواسم المشتركة بين هذين المجتمعين، وإن ما يمكن أن يتعلمه بعضنا من بعضٍ قد يفوق ما ندركه.

17 تموز / يوليو 2024

أليكس سايمون هو المؤسس المشارك لسينابس ومدير برامج البيئة.

المنهجية والمصادر

يعتمد هذا المقال على خمس رحلاتٍ بحثيةٍ أجراها المؤلف إلى الأردن بين تشرين الثاني / نوفمبر 2022 وحزيران / يونيو 2024، بما تضمنته من عمل ميداني في إربد والطفيلة والكرك ووادي الأردن وعمان. وقدم أحمد حوراني، وهو مستشار لدى سينابس، دعماً لا يقدر بثمنٍ في إجراء العمل الميداني المشترك.

كما يعتمد المقال على ثروة من المعرفة مما أنتجه الآخرون، وفيما يلي قائمة مختصرة بالمصادر التي اعتمد عليها كل قسمٍ من المقال.

التوسع العمراني

ميريام عبابسة (محرر)، أطلس الأردن: التاريخ والأرض والمجتمع، IFPO، 2013.

مريم عبابسة وأحمد أبو حسين، حاضرة عمان: خطط مناخية شاملة (pdf)، البنك الدولي، 2020.

دانا جبريل، حوض الديسي: استنفاد المياه الثمينة، حبر، 7 تموز / يوليو 2021.

وزارة البيئة الأردنية، "قطاع المياه: خطة العمل الوطنية للنمو الأخضر 2021-2025،" 2020.

ميليسا باوسون: "كيف أدى فقدان أهوار الأردن إلى تفتيت المجتمعات المحلية"، مجلة لاكونا، 31 تموز / يوليو 2023.

زوي روبينز وسامر طلوزي، "تقاسم المياه: الحاجة إلى إعادة صياغة مفهوم نهر الأردن"، معهد نيو لاينز، 16 آب / أغسطس 2023.

ويل ستيفن وآخرون، "مسار الأنثروبوسين: التسارع الكبير" (pdf)، مراجعة الأنثروبوسين، 2015.

تسرب المياه

أورسولا ليندسي، "المياه المهدورة"، مجلة الأماكن، آب / أغسطس 2023.

شروق عمر ومعاذ الزريق، "المصانع تُروى والمزارع عطشى"، أريج، 1 كانون الأول / ديسمبر 2023.

الحمأة

شاكر جرار، "عطش في الأفق: أزمة المياه في الأردن"، حبر، 7 تموز / يوليو 2021.

دان ويلكوفسكي، "هندسة الجفاف في الأردن"، مجلة نيو لاينز، 29 يونيو / حزيران 2022.

التبذير

سلام فريحات وممدوح الحناحنة، "قد يكون الأخضر في بعض الأحيان ضاراً وقاتلاً: شجرة المسكيت"، إعلاميون عرب من أجل صحافة استقصائية، 2 نيسان / أبريل 2023.

ليفيا بيروسينو، "الزراعة في الأردن في زمن تغير المناخ"، أبحاث نوريا، 2 كانون الثاني / يناير 2024.

مصدر الصور: صور التقطها المؤلف لخزان صحراوي؛ أفق مدينة عمّان؛ القمح خارج إربد؛ أغنام تعبر الطريق؛ مزرعة أغنام متعثرة؛ محطة كهرباء مسيّجة خارج الطفيلة؛ لبن طازج في إربد؛ لافتة غير مفيدة عند سد التنور؛ مشتل بالقرب من حدود الأردن مع إسرائيل.


محتوى ذو صلة