مصر وسلة خبزها الخاوية
بقلم ليز موفيس وندى عرفات وأليكس سايمون
في مصر لا شيء يضاهي دلتا النيل في أهميتها، ذلك المثلث الخصب الذي يمتد مسافة 250 كيلومتراً من القاهرة شمالاً إلى ساحل البحر المتوسط، ويسكنه أكثر من 40 مليون نسمة، ما يعادل نحو أربعةٍ من كل عشرة مصريين، أو عُشر سكان العالم العربي. على مرّ التاريخ كان لهذا الثقل الديموغرافي أهميةٌ اقتصاديةٌ كبيرة وذلك أن الأرض الخصبة جعلت من مصر قوةً زراعيةً، ومهْد إحدى أقدم الحضارات الكبرى التي عرفتها البشرية. إن مصر القديمة التي تبهرنا أهراماتها ومقابرها حتى يومنا هذا لم تقم على كواهل العبيد والرمال، بل قامت، قبل كل شيءٍ، على التربة وكدح الفلاحين في أعظم دلتا في العالم.
غير أن دلتا النيل تحتل اليوم مكانةً ثانويةً في الهوية الوطنية لمصر، هويةٍ تركّز على أشكالٍ أخرى من القوة والعظمة: جيشٌ عرمرمٌ، وعاصمةٌ ضخمةٌ كأن لا حدود لها، وقناة السويس التي تربط بعض القارات ببعض، بل إن دلتا النيل غائبةٌ حتى عن السياسات الزراعية في مصر. وبدلاً من ذلك يعمل قادة البلاد على تشجيع إنشاء المزارع الكبيرة في الأراضي الصحراوية القاحلة، حيث تزرع الشركات الزراعية المحاصيل المروية لتصديرها إلى أوروبا ودول الخليج، ومن هذه المشاريع ما يُسمى بالدلتا الجديدة التي تقع غرب الدلتا القديمة مباشرةً. وفيما تنال الدلتا الجديدة قدراً كبيراً من الاستثمار والاهتمام الإعلامي، تفتقر الدلتا الحقيقية إلى البنية التحتية والخدمات الأساسية بالرغم من إنتاجها جلّ الغذاء في مصر.
اليوم دلتا النيل غائبةٌ حتى عن السياسات الزراعية في مصر
ثمة مناقشاتٌ دوليةٌ حول المأزق الذي تعيشه دلتا النيل، غير أنها تركز في معظمها على المستقبل: ما الذي سيحدث للسكان الذين يزداد عددهم بسرعةٍ في تلك المنطقة عندما يبتلع البحر المتوسط، الذي يرتفع منسوبه أكثر فأكثر، مزيداً من تلك الأراضي المنخفضة ويزيدها ملوحةً؟ وهذا سؤالٌ وجوديٌّ، لكنه لا يهمّ كثيراً منْ يقاتلون في سبيل لقمة العيش في الوقت الحاضر، فلهؤلاء همومٌ أكبر، مثل كيفية إيجاد سبلٍ للنجاة دون مياهٍ صالحةٍ للشرب والري.
إن للوضع المؤلم في دلتا النيل آثاراً بالغة الأهمية على البلاد برمتها، ففيما يروّج قادة مصر للصادرات الزراعية عالية التقنية، تواجه البلاد مصاعب متزايدة في كفاية ذاتها من الغذاء، وإن اعتمادها على السلع الأساسية المستوردة – ولا سيما القمح الذي تُعد مصر أكبر مستوردٍ له في العالم - يعرّضها لصدماتٍ شتّى مثل الغزو الروسي لأوكرانيا، أو الانخفاض المستمر لقيمة العملة المصرية. وفي الوقت نفسه يكافح عامة المصريين لتوفير قوت يومهم، وتضطر أعدادٌ متزايدةٌ منهم إلى التنازل عن كمالياتٍ لا تشمل اللحوم وحسب، بل والفواكه والخضروات الطازجة أيضاً، وقد دخلت هذه الأزمة مرحلةً جديدةً في أيار / مايو 2024، عندما أعلنت الحكومة المصرية أن أسعار الخبز ستتضاعف أربعة أمثالٍ، منتهكةً بذلك محرماتٍ استمرت عقوداً من الزمن بشأن زيادة أسعار تلك السلعة الأساسية الرمزية في مصر. يمكن للمجتمعات الزراعية في الدلتا أن تكون جزءاً من الحل لهذه الأزمة، لكن يجب أولاً أن يُنظر إليها بصفتها مورداً يجب الاستثمار فيه، لا عبئاً ينبغي تجاهله.
حين ننظر اليوم إلى دلتا النيل من الفضاء الخارجي تبدو كما كانت منذ آلاف السنين: إسفينٌ أخضر ناصعٌ دُق بين الصحراء الصفراء والبحر الأزرق، وفيها يُكمل أطول نهرٍ في العالم رحلته التي تبلغ نحو 6800 كيلومتر. ومنذ أن راح البشر يزرعون الدلتا لأول مرةٍ نحو سنة 5000 قبل الميلاد، كانوا ينعمون بالفيضانات الموسمية التي مدّت السهول بالطمي الغني بالمغذيات، فكانت تغسل الأرض وتنعشها قرناً تلو قرنٍ. وفي بلاد ما بين النهرين، سادت حضاراتٌ ثم بادت لأسبابٍ من بينها الأخطاء التي ارتكبتها الإنسان في إدارة المياه والغذاء، لكن مصر عاشت أكثر من كل تلك الحضارات، ويرجع جزءٌ كبيرٌ من الفضل في ذلك إلى دورة الإنعاش تلك.
غير أننا حين ننظر إلى دلتا النيل عن كثبٍ، نرى التغيير المذهل الذي طرأ على تضاريسها على مدى ما يقرب من نصف قرنٍ، فقد غدا لونها الأخضر ملطخاً ببقعٍ رماديةٍ تُمثل لونَ المدن والبلدات والقرى والمنازل والطرق الإسفلتية التي تربط بعضها ببعض. منذ عام 1970 ارتفع عدد سكان مصر من 35 مليوناً إلى أكثر من 110 ملايين نسمةٍ، وكانت تلك الزيادة السكانية أسرع في الدلتا من غيرها. وفيما مضى كان النهر يتدفق بحريةٍ عبر الدلتا فيغمر الأرض على كلتي ضفتيه، لكنه غدا اليوم يجري مقيداً في فرعين ثابتين: رشيد في الغرب ودمياط في الشرق. يكمن السر في ترويض نهر النيل على بعد ألف كيلومترٍ تقريباً إلى الجنوب، حيث ينتصب خزانٌ ضخمٌ وسط الصحراء: بحيرة ناصر التي سميت على اسم الرئيس الشهير الذي افتتح السد العالي في أسوان عام 1971، ومنذئذٍ يحبس ذلك السد مياه الفيضانات التي كانت ذات يومٍ تغمر القرى وتغسل الأرض وتغذي التربة.
غير أن مياه النهر العذبة أمست اليوم للكثيرين في قلب الدلتا مجرد ذكرى من الماضي لا أكثر. "لم يعد ثمة ما يكفي من المياه"، قال متحسراً أستاذٌ شابٌّ في محافظة كفر الشيخ خلال جولةٍ على طول القنوات التي أسودّت مياهها وباتت تفوح منها روائح الصرف الصحي. وهذا الشعور بالندرة جديدٌ وصادمٌ، وذلك أن غزارة النهر ووفرة مياهه متجذرةٌ في الهوية المصرية، لدرجة أن البلاد كثيراً ما تُكنى بـ هبة النيل. كما أن تلك الندرة عصيةٌ على الفهم لدى معظم المصريين. وأردف الأستاذ قائلاً: "لا أدري ما السبب. ربما لأن جزءاً من النهر قد جرى تحويله في إثيوبيا والسودان."
أصبحت مياه النيل العذبة في كفر الشيخ ذكرى من الماضي
كما أن القيادة المصرية تفضل إلقاء اللائمة على السدود التي شُيدت قرب منبع النهر، فيوجهون أصابع الاتهام إلى قوىً خارج نطاق سيطرتهم. ويعزو كثيرون السبب الثاني إلى النمو السكاني الجامح، حيث ينمو عدد سكان مصر بنحو مليوني نسمةٍ سنوياً، ويعتمد كل مواطنٍ جديدٍ على نهر النيل في شربه وغسيله وطهيه وبقائه على قيد الحياة. والسبب الثالث هو الطقس الأشد حرارةً وجفافاً، ما يزيد من الطلب على المياه الآخذة بالنضوب. وتشكل هذه الأسباب الثلاثة مجتمعةً جزءاً من الصورة وحسب، لكنها تحجب أيضاً دور الدولة المصرية في إهدار أثمن ما لديها من موارد.
والواقع أن الحكومة، حتى حين تدق ناقوس الخطر بشأن الندرة، فإنها تحوّل كمياتٍ لا حصر لها من المياه إلى مشاريعَ مشكوكٍ في فائدتها للمجتمع. ومن أمثلة ذلك العاصمةُ الإداريةُ الجديدةُ التي تُبنى في الصحراء شرق القاهرة. والسبب الثاني هو حماس الدولة لإطلاق مشاريع "استصلاح" الصحراء، وضخّ المياه على الزراعة المكثفة التي لا تساهم في إطعام المصريين أنفسهم. فما عليك إلا أن تنظر إلى مسافة مائة كيلومتر غرب بحيرة ناصر، وستصل إلى بحيرات توشكا، وهي مجموعة من الخزانات الاصطناعية حيث تستخدم مجموعةٌ من الشركات المصرية والإماراتية والسعودية مياهَ النيل لزراعة المحاصيل المخصصة للتصدير.
بيْد أن المشكلة الأكبر تكمن في نوعية المياه التي تشق طريقها إلى الدلتا، والتي تحوّل موقعها عند المصب من نعمةٍ إلى نقمة، فالمجتمعات التي كانت فيما مضى تتلقى مياهاً وفيرةً ومستدامةً لا تجد الآن سوى البقايا بعد أن راحت المجتمعات الواقعة عند المنبع تستنزف مياه النهر وترمي فيه الفضلات التي تزداد سميةً وتحملُ معها المياهَ العادمة من المدن الواقعة عند المنبع ومن المصانع والمستشفيات والمزارع التي تفرط في استخدام الأسمدة الكيماوية والمبيدات الحشرية، وفي ذلك قال مسنٌّ وأبٌ لثمانية أبناءٍ في ريف كفر الشيخ: "في طفولتي كانت مياه الري جيدةً، أما اليوم فلا يمكنك استخدامها حتى لغسل يديك، وفي إحدى القنوات القريبة منا تتجمع نفايات مَزارع الدواجن الصناعية، حتى أن الجواميس التي تشرب من القناة تمرض فتموت بفعل الديدان في بطنها."
ويُقال إن البشر أيضاً يصابون بالمرض. يقول ذلك المسن نفسه: "عانى والداي وأجدادي من أمراض الكبد بسبب المياه". وعزتْ امرأتان في المنطقة مشاكل الكلى التي تعانيان منها إلى نوعية المياه، واضطرت إحداهن إلى استئصال إحدى كليتيها. "هل تشمُّ رائحة الماء الذي يخرج من المضخة؟" سألتْ تلك المرأة قاصدةً الرائحة الكريهة التي لا مناص من شمها. "إن تلك المياه تحرمنا النوم، وحتى جاموسنا المسكين لا يطيق شربها." وفي أحواض تخزين مياه الري تطفو رغوةٌ صفراءُ سميكةٌ لها رائحةٌ تفوق رائحة الماء نفسه سوءاً.
والمياه والتربة ملوثتان إلى حدٍ جعَلَ بعض السكان المحليين يتجنبون تناول محاصيلهم، وفي ذلك قال الأستاذ الشاب: "يفضل الناس هنا عدم تناول محاصيلهم لأنهم يعرفون أيَّ ماءٍ يرويها، ومن يملك المال يشتري المحاصيل من بلدةٍ تبعد 27 كيلومتراً." في أفضل الأحوال تتضمن الرحلة مسيراً طويلاً بالسيارة على طرقٍ وعرةٍ في أغلبها؛ وفي أسوأ الأحوال، تعني رحلةً شاقةً بحافلةٍ صغيرةٍ، وغالباً ما يتعين عليك الانتقال من حافلةٍ إلى أخرى حتى تصل إلى وجهتك. في هذه المنطقة الفقيرة يأكل أسوأ الناس حالاً طعاماً يعرفون أنه يسمّمهم بقدر ما يبقيهم على قيد الحياة. قال الرجل المسنّ في كفر الشيخ متأملاً التطور الكئيب الذي حدث خلال حياته:
أبيع محاصيلي لكسب المال وشراء طعامي من محافظاتٍ أخرى، ويؤسفني أني مضطرٌ لفعل ذلك، ويحزنني أن الآخرين سيتضررون من تناول محاصيلي. كما أشعر بالذنب عندما أرى أحفادي يأكلون المعكرونة المدعومة رغم امتلاكي أرضاً يمكنهم تناول الأرز منها، لكن ما باليد حيلة، فكيف لي أن أعيش إذا ما عزفتُ عن الزراعة؟
إن التلوث المتفشي يفاقم مشكلةً أخرى: وهي تملح التربة، ففيما تلوّث الموادُ الكيميائيةُ مياه الدلتا عند المنبع، تتسلّل المياه المالحة من البحر المتوسط، وحتى أن الملح يأتي من الأسفل بفعل تسرب مياه البحار الآخذة بالارتفاع إلى المياه الجوفية الساحلية في الدلتا، وهذا يحدث، على سبيل المثال، في محافظة البحيرة في غرب الدلتا، تلك المحافظة التي لا تزال تُعرف بأنها أوفر مناطق مصر الزراعية إنتاجاً. قرب بستانٍ من أشجار الجوافة يملكه مزارعٌ طاعنٌ في السن، أصبحت المياه الجوفية شديدة الملوحة، وقريبةً جداً من السطح، حتى أن الجيران يحفرون الأرض لاستخراج ملح الطعام منها.
وما يزيد الطين بلةً افتقار كثيرٍ من الأراضي الزراعية في الدلتا للبنية الأساسية المناسبة لتصريف المياه، الأمر الذي جعَلَ الحقولَ تغرق في مياهٍ عادمةٍ شديدة الملوحة. والمفهوم التقني للملوحة يشمل كل أنواع المعادن التي تختلط بالمياه: فكلما زادت كمية "المواد الصلبة الذائبة" في المياه، زادت ملوحتها، وأصبحت أقل ملاءمةً للزراعة وغيرها من الاستخدامات. كما يفاقم التبخرُ الملوحةَ بزيادته تركيزَ الأملاح فيما تبقى من المياه. والواقع أن الملح غدا يكسو كثيراً من أراضي الدلتا: في القشرة التي تكسو التربة، وفي المحاصيل الذابلة التي تنبت فيها. وفي مناخ مصر الحار، تتطلب الحقول المروية تصريفاً دقيقاً تُزال به الأملاحُ التي ستتراكم في التربة إذا ما تُركت دونما إزالةٍ. وقد لخصّ ذلك المزارع المسن الأمر بقوله: "كل مشاكلنا تأتي من سوء تصريف المياه."
إن أكثر ما يصدم النفس من تدهور الدلتا هو أنها تظل في أعيننا مكاناً للوفرة النسبية، فالخُضرة الطاغية سرعان ما تسترُ القمامةَ المتناثرة بينها. يزرع المزارعون المتمرسون مجموعةً متنوعةً من المحاصيل التي تشكل غذاءً أساسياً لسكان الدلتا، كالأرز والقمح والفول والخضروات الموسمية والفواكه. إن هذه الزراعة المحلية المتنوعة هي ما يفكر فيه كثيرون منا عندما نناقش أنظمة الغذاء المستدامة، على النقيض التام من الزراعات أحادية المحصول الموجهة للتصدير، والتي يُروَّج لها في أماكن أخرى من مصر والعالم، غير أن هذه الصورة الأخاذة عن الخصوبة تتحول رويداً رويداً إلى مجرد سرابٍ. وللاستمرار في الزراعة في تربةٍ تزداد تدهوراً وتملحاً، لا يملك المزارعون خياراً سوى تكديس المزيد والمزيد من المواد الكيميائية، وهو ما يؤدي بدوره إلى زيادة ملوحة التربة، وفي ذلك قال مزارعٌ في كفر الشيخ ممتعضاً: "علينا استخدام كثيرٍ من الأسمدة، وإلا انخفض المحصول."
إن هذه الحلقة المفرغة تتفاقم أكثر فأكثر، لا في مصر وحسب، بل في جميع أنحاء العالم، غير أن المزارعين في الدلتا يفوقون في معاناتهم معظمَ المزارعين الآخرين، فهم لا يواجهون المصاعب بسبب التربة والمياه المسمومة وحسب، بل يعانون كذلك الفقرَ المدقع، وصغرَ قطع الأراضي، وعجز معظمهم عن تحمل تكاليف ترك الحقول بوراً كي تستريح التربة، أو الاستثمار في البنية الأساسية كالصرف تحت السطحي، وكلا الأمرين من شأنه أن يحافظ على تربتهم، بل تراهم بدلاً من ذلك يواصلون العمل بممارساتٍ يعرفون أنها ستضرهم في الأمد البعيد، في ظل قلة أو انعدام الدعم اللازم لتغيير المسار.
"لا أحد يبالي بنا"، هذا ما قاله المزارع في كفر الشيخ وهو يقف بجوار ترعةٍ سدتها نبتة الياقوتية، وهي جنسٌ دخيلٌ ومنتشر بكثرة حدّ أن بعض السكان المحليين يسمونه "سرطان الماء". "يأتينا الساسة بالوعود ثم يغادرون، وما من منظماتٍ غير حكوميةٍ، ولا جمعياتٍ خيريةٍ، ولا معين لنا سوى الله". يتردد صدى هذا الشعور بالخذلان في مزارع الدلتا: "لا نرى من الحكومة أي شيءٍ"، قال مزارعٌ في منتصف العمر في البحيرة. "يجلسون في مكاتبهم من العاشرة صباحاً حتى الواحدة ظهراً، وهذا كل شيء."
يرى بعض المزارعين أن الدولة أسوأ من أن تكون مجرد غائبةٍ، وذلك أنها تزيد من شظف العيش بفرضها الرسومَ على المزارعين رغم تقصيرها في توفير الخدمات الأساسية. وفي كفر الشيخ قالت المرأة التي تلاقي صعوبةً في النوم بسبب رائحة المياه الكريهة إن الحكومة تغرّم أسرتها لإلقائها مياهَ الصرف الصحي في القناة القريبة، وهي غراماتٌ باهظةٌ ولا يمكن تجنبها نظراً لرفض الدولة ربط منزلها غير المرخص بشبكة الصرف الصحي. وبالمثل لا تقدم التعاونيات المحلية والبنوك الزراعية التي تُعد فاسدةً بنظر الكثيرين سوى القليل من المساعدة، إذ اتهم أحد المزارعين رئيس تعاونيةٍ قريبةٍ ببيع الأسمدة المدعومة للمزارعين بسعرٍ باهظٍ، والاستئثار بفرق السعر لنفسه.
“لا أحد يبالي بنا، ولا معين لنا سوى الله.”
ويتضاعف ذلك الشعور بالإهمال حين نتذكر كيف أدت الدولة المصرية فيما مضى دوراً أعظم كثيراً في دعم المزارعين، ففي منتصف الستينات، وفي ذروة حملة بناء الدولة التي قادها جمال عبد الناصر، كانت الزراعة والري تمثل 23 بالمئة من الاستثمارات العامة. وفي مصر، كما هي الحال في الدول العربية الأخرى مثل سوريا والعراق، استثمرت الحكومة القومية بقوةٍ في دعم الفلاحين، من قبيل إعادة توزيع الأراضي، وتوسيع الري، ومنحهم المساعدات الفنية والمادية.
غير أن نظام الدعم السخي هذا لم يدم طويلاً، فمن أواخر الستينات وحتى مطلع السبعينات، تباطأ النمو الاقتصادي في مصر، وتضخم الدين العام، ويرجع ذلك في جزءٍ منه إلى الحرب العربية-الإسرائيلية الكارثية عام 1967 وإغلاق قناة السويس فيما بعد. سعت مصر للحصول على مساعداتٍ من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين ضغطا في المقابل على القاهرة لخفض الدعم المقدم للفلاحين. وقد اندلعت أعمال شغبٍ داميةٌ عندما أعلن الرئيس أنور السادات في عام 1977 عن تخفيضاتٍ جائرةٍ على الدعم الحكومي للدقيق وزيت الطهي وغير ذلك من المواد الغذائية الأساسية.
دفعت أعمالُ الشغب تلك القاهرةَ إلى التراجع عن أشد التخفيضات قسوةً، غير أن التوجه العام نحو تحرير الاقتصاد الذي فرضه صندوق النقد الدولي استمر، فتراجعَ الاستثمار الحكومي في الزراعة من أعلى مستوياته عند 23 بالمئة في منتصف الستينات إلى 8 بالمئة في منتصف السبعينات و4 بالمئة اليوم. كما أدى تحرير الاقتصاد، إلى جانب زيادات الضرائب والانخفاض المستمر في قيمة الجنيه المصري، إلى ارتفاعٍ صاروخيٍّ في تكاليف المبيدات الحشرية والأسمدة.
إن انهيار ميزانيات الدولة لا يؤثر في المزارعين وحسب، بل وأيضاً في المسؤولين المحليين المكلفين بدعمهم، إذ قال مهندسٌ في السابعة والثلاثين من العمر، وهو يجلس خلف مكتبه الخاوي بمركزٍ للبحوث الزراعية الواقع خارج الإسكندرية، أكبرِ مدن دلتا النيل: "آخر مرةٍ حصلتُ فيها على منحةٍ بحثيةٍ من الحكومة كانت في التسعينات". في تلك المنشأة ترى جدراناً يتقشر طلاؤها، وأسلاكاً عاريةً تبرز من مقابسها، وكتباً قديمةً يكتنفها الغبارُ، ومكاتب لا حواسيب فيها. وحاله حال معظم زملائه، كان ذلك الرجل هزيل القوام، أشيب الشعر، منحني الكتفين، وقد تقاعد منذ سنواتٍ، ولم يحل محله أحدٌ قط، ولا يزال يقصد المنشأة لإجراء البحوث على نفقته الخاصة. "نعتمد اليوم على مصادر خاصةً للتمويل، أما فيما يخص المشاريع التي أهتم بها شخصياً، فأتحمل تكاليفها بنفسي."
"آخر مرةٍ حصلتُ فيها على منحةٍ بحثيةٍ من الحكومة كانت في التسعينات"
إن تلك المبادراتِ الفرديةَ جديرةٌ بالإعجاب بقدر ما هي عاجزةٌ عن ملء الفراغ الذي خلّفه تراجع الدعم الحكومي، كما أن المزارعين يُظهرون قدراً كبيراً من العزيمة والتضامن، غير أن ذلك هو كل ما يمكنهم فعله. وأحد الأمثلة المؤلمة على ذلك حين جمَعَ سكان كفر الشيخ المالَ لشراء قطعة أرضٍ يمكن للدولة أن تبني عليها محطةً لمعالجة مياهٍ هم في أمسِّ الحاجة إليها، وفي ذلك قال الأستاذ الشاب: "الأرض جاهزةٌ منذ أكثر من سبع سنوات، لكن الحكومة لم تتابع الأمر قط، ولا توجد موارد ماليةٌ أخرى لبنائها". وفيما تضغط المجتمعات الفقيرة على الدولة من أجل حقها في الحصول على المياه النظيفة، راح القائمون على ما يسمى بمشروع الدلتا الجديدة يتباهَون في عام 2023 ببناء أكبر محطةٍ لمعالجة المياه في العالم.
وما يزيد الطين بلةً أن كثيراً من المزارعين لا يتجرّعون مرارة الخذلان وحسب، بل يشعرون أيضاً ألا شأن لهم، إذ قال الرجل المسن في كفر الشيخ: "إن طلبنا المساعدة من الدولة، قالت لنا: ’هذه أرضكم وهذه حالها‘، وتعني بذلك أن علينا الكف عن الشكوى، فإذا ما لم تعجبنا حالنا، وجب علينا الرحيل". والواقع أن صغار المزارعين هؤلاء لا يجدون مكاناً لهم في الرؤية التي وضعتها الدولة للزراعة، فبعيداً عن المياه الملوثة المليئة بالكيماويات في كفر الشيخ، ينفق المسؤولون في القاهرة الأموال على محتوىً باللغة الإنكليزية يروّج لريادة مصر في "الزراعة الدقيقة" و"التجارة الإلكترونية" المتعلقة بالأغذية، ويلخصّ ما يلي حالة الزراعة المصرية أفضل تلخيصٍ: ما من نقصٍ في المياه ورأس المال للشركات الكبرى التي تسعى إلى زراعة المحاصيل التصديرية في الصحراء، لكن صغار المزارعين الذين يعتمد عليهم عامة المصريين أصبحوا مهمَلين ومنسيين، وساءت حظوظهم.
قد يُذهل الزائر من حجم مصر الهائل، فالصحاري الشاسعة والدلتا تضاهيها ضخامةً عاصمةٌ تلتهم مبانيها ولوحاتُها الإعلانيةُ وطرقُها الرئيسةُ الأرضَ المحيطةَ بها دونما هوادةٍ، والمأزق الاقتصادي الذي تعيشه البلاد هائلٌ بنفس القدر، فقد تضاعف دَينها الخارجي أربع مراتٍ بين عامَي 2015 و2023، ما يجعلها ثاني أكبر مقترضٍ من صندوق النقد الدولي، وإن هذا العبء الهائل من الديون يحدّ من قدرة مصر على استيراد الغذاء، مثل القمح الذي لا يمكن للمصريين العيش دونه. تضيف السلطات المصرية إلى ذلك الإحساسِ بالذهول سلسلةً من المشاريع المدفوعة برغبةٍ عجيبةٍ بالتفوق: أعلى برجٍ في أفريقيا، وأطول نهرٍ اصطناعيٍّ في العالم، وهلم جراً.
ورغم كل هذه الضخامة، فإن قصة أزمة الأمن الغذائي في مصر قصةٌ شخصيةٌ صرفةٌ، فمن يطعمون البلاد منذ زمنٍ بالكاد قادرون على إطعام أنفسهم اليوم، وقد باتت بقية البلاد تعتمد أكثر فأكثر على الواردات التي لا تستطيع تحمل تكاليفها، والتي أصبح توفرها عرضةً لجميع ضروب الصدمات، كالحروب والأوبئة وانهيار العملة وما إلى ذلك. وإذا كان كل هذا يبدو مألوفاً، فذلك لأن نفس المشاكل البنيوية منتشرةٌ بكثرةٍ في مختلف أنحاء المنطقة، بل والعالم كله، إذ تواجه عدة بلدانٍ مثل لبنان والأردن والعراق وسوريا نفس المأزق. لدى الدول الصناعية الغنية مواردُ أكثرُ تحت تصرفها، لكنها تخلت أيضاً عن طبقاتها العاملة الزراعية لصالح أنظمةٍ اقتصاديةٍ قائمةٍ على الخصخصة والعولمة المتطرفة.
رغم كل هذه الضخامة، قصة أزمة الأمن الغذائي في مصر هي قصةٌ شخصيةٌ صرفةٌ
إن هذه التوجهات الدولية لا تعكس أزمة مصر فحسب، بل ساعدت في خلقها، فتراجُع الدعم الحكومي لصغار المزارعين ينبع في جزءٍ منه من حماسة المانحين الغربيين للخصخصة. إن صعود المحاصيل النقدية الموجهة للتصدير، على حساب إمدادات الغذاء المحلية، يرجع إلى شهية المستهلكين الأثرياء في أوروبا والخليج، ولجهود حكوماتهم للاستفادة من أراضي مصر ومياهها من خلال صفقاتٍ تجاريةٍ غير متوازنةٍ والاستيلاء على أراضيها. والمفارقة أن لهذه الدول الغنية نفسها، والتي تقضُّ مسألةُ الهجرة مضجعَها، مصلحةٌ راسخةٌ في إبطاء اندفاع مصر نحو كارثةٍ اقتصاديةٍ وبيئيةٍ، والواقع أن حجم مصر الهائل يعني أن استقرارها سيكون ذا عواقب بعيدة المدى تتجاوز حدودها.
ومثلما ساعدت دلتا النيل البشرية منذ زٍمن في تعلم الزراعة، فإنها تنذر اليوم بتعليمنا درساً مهماً آخر عن عواقب إهمال التربة الخصبة ومزارعيها. ماذا سيحدث عندما يُعامَل عشرات الملايين من الناس وكأنهم من سقط المتاع رغم أن المجتمع سيظل معتمداً عليهم؟ كيف سيتدبر المصريون جميعاً قوت يومهم؟ وأين سيذهب الجياع؟
29 يوليو / تموز 2024
ليز موفيز هي صحفية بيئية. ندى عرفات صحفية في مدى مصر. أليكس سايمون هو المؤسس المشارك لـسينابس ومدير برنامج البيئة.
المنهجية والمصادر
يعتمد هذا المقال على عملٍ ميدانيٍ أجراه المؤلفون في كفر الشيخ والبحيرة والقاهرة في ربيع عام 2024، وهو جزء من تعاون بين منظمة سينابس وموقع مدى مصر الذي سينشر قريباً قصته بناءً على العمل الميداني نفسه.
كما يعتمد المقال على بحثٍ متعمقٍ نُشر في مواضع أخرى، ولا سيما من قبل موقع مدى مصر نفسه. وفيما يلي قائمةٌ ببعض المصادر التي أثرت كل قسم من المقال، والتي توفر ثروةً من التفاصيل الإضافية.
المقدمة
ندى عرفات، "كيف اختفى طبق السلطة من موائد المصريين؟" مدى مصر، 13 آذار / مارس 2024.
صقر النور، "السياسات الزراعية والغذائية في مصر بين عامي 2014 و2021"، مبادرة الإصلاح العربي، 5 كانون الثاني / يناير 2023.
المياه: شريان الحياة المسموم
ندى عرفات وصقر النور، "كيف تحقق مياه مصر أمن دول الخليج الغذائي؟"، مدى مصر، 15 أيار / مايو 2019.
جيسيكا بارنز، الزراعة في النيل: السياسة اليومية لاستخدام المياه في مصر، جامعة ديوك، 2014.
ديفيد سيمز، "أحلام مصر في استصلاح الصحراء: تنمية أم كارثة؟" الجامعة الأمريكية بالقاهرة، 2015.
هنك زينغسترا، "بحيرة البرلس: الأمن الغذائي المحلي والتنوع البيولوجي تحت الضغط" (PDF)، مركز التنمية والابتكار، كانون الثاني / ديسمبر 2013.
الناس: مجتمعاتٌ مخذولةٌ
وزارة التعاون الدولي المصرية، "استفادة التحول الزراعي المستدام في مصر من التكنولوجيا المتطورة"، بلومبرغ (محتوى مموّل).
أحمد المنياوي وأحمد غويلى، "السياسات الغذائية والزراعية في مصر" (PDF)، المركز الدولي للدراسات الزراعية المتقدمة لمنطقة البحر المتوسط، 1994.
مؤسسة فريدريش إيبرت، "مصر وصندوق النقد الدولي وثلاثة مقاربات للدعم" (PDF)، 2023.
الخاتمة
باتريك وير، "مصر في مواجهة أزمة ديون خارجية بعد اقتراض مبالغ ضخمة"، رويترز، 6 حزيران / يونيو 2023.
مصادر الرسوم التوضيحية: الفن المصري القديم بواسطة متحف المتروبوليتان للفنون، الصور بعدسة ليز موفيز في كفر الشيخ. صورة الأقمار الصناعية من غوغل إيرث.