مقامرة العقارات في لبنان


12 حزيران/ يونيو 2017


بدأت الأزمة المالية العالمية (2008) بأزمة الرهن العقاري الأمريكي في العام الذي سبقه، عندما أدى انهيار فقاعة الإسكان في عام 2007 إلى تخلف الأُسر الأمريكية المثقلة بالديون عن سداد ديونها على نطاق واسع؛ كما أدى هذا الانهيار إلى انخفاض حادّ في قيمة المنتجات المالية المتعلقة بالعقارات، مثل الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري؛ أي الاستثمارات في الفوائد المتوقعة الناتجة عن حزمة من الرهون العقارية. أتى هذا الانهيار نتيجةً لتضخم هائل للقروض المسمومة المقدمة لأسر لم يكن من المتوقع أن تتمكن من سدادها، غير أنها أسر كان بإمكانها جني الربح ببيع رهنها العقاري على شكل حُزم في المنتجات المالية. امتدت الأزمة إلى بقية الاقتصاد في نهاية المطاف حين تخلى المُلّاك عن منازلهم فتكبدت البنوك خسائر فادحة وتجمّد الإقراض، ما أدى بالتالي إلى الركود العالمي سنة 2008.

نجا لبنان من تلك الأزمة في الغالب لعدة أسباب أهمها عدم جنوح البنوك المحلية إلى جنون الأوراق المالية، بل إن القطاع المصرفي استفاد من أزمة العام 2008: زادت ودائع غير المُقيمين بنسبة 23٪ في ذلك العام عندما بدا أن البنوك المحلية أكثر موثوقية من العديد من البنوك الأجنبية؛ وبالتالي، ليس من المنطقي أن تراهن هذه البنوك على سوق قروض مسمومة محلية الصنع ذات عواقب وخيمة محتملة على قطاع العقارات المحلي والاقتصاد بشكل عام.

اقرأ اللافتات  

واجهات في لبنان تغطيها لافتة لم يرها أحد من قبل وقد كُتب عليها "للبيع أو للإيجار." في السابق كان الملّاك يرغبون بالبيع أو الإيجار؛ أما الآن، فتبدو الحاجة إلى السيولة ملحة للغاية بحيث لا يجد المُلاك من يشتري أو يستأجر.

.منذ عدة سنوات وسوق العقارات في لبنان يئن تحت الضغط، فقد انخفض الطلب بفعل ندرة العملاء الأثرياء، لا سيما المستثمرين الخليجيين واللبنانيين المغتربين الذين ضعُفت قوتهم الشرائية بسبب انخفاض أسعار النفط وتباطؤ الاقتصادات في جميع أنحاء العالم. في غضون ذلك، أصبح لبنان أقلّ جذباً للأجانب. يوضح مستثمر لبناني قفز بدوره إلى الصفقة: "لو كنتَ اليوم مواطناً خليجياً، لاستطعتَ شراء العقارات في مدينة ماربيا الإسبانية أو قبرص، والذهاب إلى هناك بدون تأشيرة والتقدم بطلب للحصول على إقامة أو حتى جواز سفر. يمكنك شراء شقة واحدة هنا بنفس السعر، شقة يكاد يكون من المستحيل تأجيرها، وهو ما لن يدرّ عليك أية فائدة إضافية." بيد أن الأسعار لا تزال مرتفعة لسبب غير مفهوم. يقول سمسار لبناني سرعان ما يبدي استياءه مما يراه ادعاءً فاضحاً: "عليك اليوم دفع 7000 دولار للمتر المربع في وسط مدينة بيروت الفاخرة، وهو نفس السعر في العواصم الأوروبية!"

كان يمكن لسوق العقارات في لبنان - ويجب أن يكون- قد عُدّل لتصحيح التباين بين العرض والطلب. بدلاً من ذلك، ركّز القطاع على إبقاء الأسعار مرتفعة. من بين أمور أخرى، زاد الطلب بشكل مصطنع من خلال الاستفادة من مجموعة من المشترين الذين لم يجرِ استغلالهم استغلالاً كاملاً، ألا وهم الأسر ذات الدخل المنخفض إن لم تكن المعسِرة. عادة لا تُعطى هذه الأسر قروضاً على الإطلاق نظراً لارتفاع مخاطر تخلفها عن السداد. والأسوأ من ذلك، تُعطى هذه الأسر "قروضاً مسمومة " بدون دفعة أولى بغية استبعاد المقترضين الذين ليس لديهم مدخرات؛ وهي تبِعة واضحة.

تتطلب النظم التي يتداولها البنك المركزي، أو ما يُعرف بمصرف لبنان، من البنوك التحقق من استلام دفعة أولى لا تقل عن 25٪ من إجمالي قيمة العقار. وهذا يضمن، من حيث المبدأ، أن المقترض في وضع اقتصادي جيد إلى حد معقول وأن له مصلحة راسخة كونه دفع من ماله الخاص لسداد القرض.

إعلان على فيسبوك مموّل يتيح الوصول إلى العقار بدون دفعة أولى - 20/5/2017
للالتفاف على هذه النُظم، يُمنح المقترضون بشكل متزايد إمكانية الحصول على قروض مسمومة "تحت الطاولة". يصف وسيط عقاري بنبرة تشي بسأمه من الأمر: "يريد شخص ما شراء شقة ثمنها 75000 دولار. لقد أعجبته الشقة لكنه لا يملك مالاً ليدفع دفعة أولى، غير أنه يستطيع إجراء ترتيبات مع البائع للحصول على ورقة تثبت أنه دفع 25000 دولار كدفعة أولى لشراء شقة ثمنها 100000 دولار، وحينئذٍ يمكن للبنك أن يقرضه 75000 دولار بشكل قانوني، وهو كامل المبلغ في الواقع." إن المصرفيين على دراية تامة بالأسعار المتداولة في السوق، وبالتالي يمكنهم بسهولة اكتشاف السلع المبالغ في قيمتها، وعادة ما يغضون الطرف عن هذه الممارسات.

القروض المسمومة ليست شيئاً جديداً في لبنان، ولكن ما يدعو للقلق هو نمو صفقات كهذه وأنها غدت أمراً طبيعياً. يقدم أصحاب المصلحة أدلة سردية على هذ النمو، لكن الأهم من هذه الأدلة هو أن المطورين العقاريين يصدحون الآن بمثل هذه الممارسات على الملأ، كما هو الحال في هذا الإعلان على فيسبوك.

كما أن القروض المسمومة محفوفة بمخاطر جمّة، مخاطرَ لا يمكن للموظفين الماليين والعقاريين - وكذلك من يسنّون النظم في مصرف لبنان - تجاهلها منذ حدوث الانهيار العالمي سنة 2007. لبنان عرضة لتبعتين أكثر وضوحاً هما: التقييم المفرط للحوافظ المصرفية، والطبيعة المُعدية لتخلف الأسر عن سداد القروض العقارية.

من ناحية، تعني فقاعة الإسكان أن قيمة الأصول المصرفية ذاتها قد تكون مبالغاً فيها مبالغة كبيرة. وفقاً لصندوق النقد الدولي، 90٪ من جميع القروض التي يقدمها القطاع المالي في لبنان مرتبطة بالعقارات بشكل مباشر أو غير مباشر؛ وذلك من خلال الرهون العقارية أو القروض المقدمة للمطورين أو من خلال الاستخدام المعتاد للعقار كضمان. من الناحية العددية، تحوي ميزانيات البنوك ما يقرب من 50 مليار دولار من الأصول، والتي قد تكون قيمتها الحقيقية 35 مليار دولار لو كانت أسعار السوق، كما يقترح بعض الفاعلين، أكثر واقعية، أي أقلّ بنسبة 30٪ من التقييم الحالي. في هذا السياق، للقروض المسمومة تأثير شنيع وسلبي، ففي حال أقرض بنك ما 75000 دولار لشراء شقة سعرها الرسمي 100000 دولار وقيمتها غير الرسمية 60000 دولار، فإن أصوله في ميزانيته العمومية تنخفض بنسبة 66٪ فوق قيمتها الحقيقية.

تُظهر صفحة عقارات في لبنان على فيسبوك انخفاضاً قدره 500 ألف دولار في سعر العقار - 25/5/2017 (جُعل المصدر مجهولاً بواسطة دائرة العقارات في لبنان)

إن اعترفت البنوك بواقع تراجع السوق، فستضطر إلى إعادة الرسملة واحترام النظم الدولية بشأن النسبة بين رأس المال والتبعات، وهو ما يفسر سبب حرص اللاعبين الماليين على رفع الأسعار بأي ثمن من خلال إجراءات معظمها مصطنع. يسمح التعميم 135 الذي أصدره مصرف لبنان في عام 2015 للبنوك بوضع يدها على العقارات التي حصلت عليها كضمان لمدة تصل إلى 20 عاماً، لكنها سابقاً كانت مجبرةً على إعادة طرح هذه العقارات في السوق في غضون 24 شهراً. في البيئة الراكدة اليوم، يساعد هذا النهج في تقليص العرض في حين تكافح البنوك والمطورون لتنشيط الطلب. على وجه الخصوص، تعمل القروض المسمومة على توسيع القاعدة الطبيعية للمشترين في السوق لتشمل أناساً لا ينبغي لهم أن يستثمروا في المقام الأول، في حين أنها لا تفعل شيئاً لتحسين وضعهم الاقتصادي الفعلي: لم يصبح السكن أقل كلفة، بل أصبحت الأسر المتعثرة أكثر مديونية.

في هذه الأثناء، يبقي جميع البائعين الأسعار مرتفعة، في حين يتكيفون سراً مع الضغوط. يشير سمسار العقارات المشار إليه في الأعلى إلى أن معظم الملّاك على استعداد لتقديم خصومات كبيرة قبل أي تفاوض. في غياب جمعٍ منهجيّ للبيانات، ووفقاً للتقديرات والتخمينات الحالية، أسعار البيع الفعلية هي أقلّ بـ 20 إلى 30٪ من العروض العامة. يعرض موقع "عقارات في لبنان" بانتظام دليلاً على تخفيضات كبيرة تُقدم كصفقات استثنائية لا تؤثر على أسعار السوق الرسمية ككل.

اتبع الموضة 

يوفر موقع وصفحة الفيسبوك الخاصة بالعقارات في لبنان تحديثات منتظمة عن الأسعار، وهي مكان مناسب للحصول على إحساس واقعي بالسوق.

من ناحية أخرى، تسببُ القروض المسمومة تخلفات متعاظمة عن تسديد الرهن العقاري وانهيار لاحق في السوق، كما تسبب قلقاً للمشترين ذوي الدخل المنخفض المهددين بخطر التخلف عن السداد، ما يعني أن البنوك ستحصل على المزيد من الممتلكات كضمانات. بعد أن أقرضت البنوك مبالغ كبيرة من المال وعجز المقترضون عن السداد، فإنها ستبيع حتماً المزيد من الممتلكات لتعويض خسائرها؛ ومع زيادة العرض، ستنخفض الأسعار حتماً في لحظة ما، ما يؤدي إلى رد فعل متسلسل بين حاملي القروض المسمومة: من اقترضَ 75000 دولار بدون دفعة أولى لن يكون لديه أي حافز لسداد كامل المبلغ مع الفائدة إذا ما انخفضت قيمة الشقة الفعلية انخفاضاً حاداً، وخاصة إن كان هذا المقترض لا يزال في المراحل الأولى من الأقساط المتفق عليها؛ ومن الأفضل له / لها أن يتخلوا عن 5000 أو 10000 دولار دفعوها للبنك من أن ينتظروا سنوات للحصول على سلعة أصبحت فجأة باهظة الثمن وفقاً للأسعار الجديدة في السوق. كما يؤثر التباطؤ على المشترين المقتدرين وفقاً للعملية الحسابية ذاتها. اعتماداً على طول فترة السداد، قد يميل المشترون إلى التخلف عن سداد القرض والتخلي عن الممتلكات ذات الصلة في مقابل الحصول على صفقة أفضل في بيئة منكمشة.

إن المفارقة في القروض المسمومة هي أنها تجعل تعديلات السوق أكثر صعوبة إلى ما لا نهاية: عندما يصبح السكن أقلّ كلفة، ما يعكس الواقع الاقتصادي للطبقات الدنيا من المجتمع، فإن الزبائن المحتملين الذين يمكن أن يدخلوا السوق - فيزيدون الطلب ويثبتون الأسعار - يصادف أنهم أولئك الذين خُدعوا للشراء فوق إمكانياتهم، وتُركوا مفلسين ومصدومين. يسحب هذا القاع المجوف كامل السوق إلى الأسفل أكثر فأكثر، ما يزيد من احتمال حدوث انهيار في وقت كان كل ما يحتاجه السوق مجرد تصحيح.

كانت أزمة العقارات الوشيكة في لبنان واضحة للاعبين الأكثر تبصراً منذ ثلاث سنوات على الأقل؛ وهو إدراك أصبح واضحاً من خلال جهودهم المكثفة لترقيع الأمور بدلاً من معالجتها جذرياً، وهو توجه سيأتي بنتائج عكسية لا محالة. إن الأذكياء من المستثمرين اللبنانيين لا يخفون نواياهم المتمثلة في المراهنة ضد السوق من خلال الامتناع عن أية عمليات شراء إلى أن تنهار الأسعار. وبطبيعة الحال، سيكسب هؤلاء الكثير من جرّاء الانهيار لأنه سيتيح لهم فرصاً مربحة للشراء حتى على حساب إخفاقات البنوك وتباطؤ اقتصادي عام، وبطبيعة الحال على حساب عمليات حجز للرهن واسعة النطاق وذات ضرر دائم على أكثر اللبنانيين ضعفاً.

روزالي بيرتر

قام بالترجمة للعربية حسان حساني


تم استخدام الصور بموجب رخصة المشاع الابداعي من: Jack and the beanstalk by Aida McKenzie


الطبقة الوسطى المرنة


اقتصاد النفط اللبناني

كيف صنع النفط عصراً ذهبياً في السابق وشكّل أزمة اليوم