الطريق الرقميّ إلى المواطنة الحقيقية في لبنان

17 حزيران/يونيو 2016

يسعى اللبنانيون من رواد الأعمال الرقمية إلى إيجاد نموذج يدرّ عليهم الربح، ويقومون بالكثير مما لا ندركه، فحرصهم على العيش وفقاً لقواعدهم الخاصة يدفعهم لتحدي نظام المحسوبية السائد والقائم على الطائفية المتجذرة والمحاباة والفساد. إنّ روح العمل القائمة على الجدارة والمساواة والعلمانية والاكتفاء الذاتي والتي تتجلى في مساعي هؤلاء الرواد تصنع فضاءً مختلفاً عن اقتصاد البلاد المتداعي. إنّ تمكين الشركات الناشئة الطهاةَ من مشاركة وصفاتهم عبر الإنترنت، والبنوك من إدارة بياناتها، والجمهور العربيّ من الوصول إلى مواد الفيديو، لن يحلّ مشكلة البطالة المتفشية ولن يُحدث ثورة في النظام السياسيّ اللبنانيّ المختلّ، غير أن "البيئة الرقمية" تفعل ما هو أكبر من ذلك كلّه، وإن كان على نطاق ضيق، ألا وهو السماح للمحترفين من الشباب بالتعبير عن شعور ملهِم بالمواطنة من خلال ما يقومون به من عمل.

يُعتبر لبنان مكاناً غريباً لتأسيس تجارة رقمية، فعلى عكس البيئات الرقمية الناجحة في وادي السيليكون وإسرائيل، يفتقر لبنان إلى التركيبة المثمرة من التعليم العالي الموجه نحو الابتكار، والرأسمالية المغامِرة ومصالح الأمن القومي القوية، كما أنّ البنية التحتية الخاصة بالاتصالات، بما فيها الوصول إلى الإنترنت، لا يمكن الوثوق بها ومكلفة على حد سواء، وأما المكالمات الجماعية التي لا يمكن لغالبية الشركات الناشئة في العالم الاستغناء عنها، فيجب ترتيبها بعناية وفقاً لجودة الاتصال بالإنترنت المتاح في لبنان.

يكمن جمال هذا القطاع في أن اللبنانيين الموهوبين ممن لا يحملون أية مسؤوليات يؤسسون تجاراتهم، رغم كل الصعاب، في مكان يسمونه وطنهم، وبينما يغذي الآخرون هجرة العقول، يصرّ هؤلاء الموهوبون على استخدام مهارات مطلوبة بشدة في أماكن أخرى غير لبنان، حيث تشجعهم الأعراف الاجتماعية على الاختيار بين الأمان الذي توفره الوظائف التقليدية المأجورة، أو البحث عن الثروة في المهجر. لا يطمح هؤلاء لإنشاء شركات لكسب المال فحسب، بل وللاستثمار في بلد يريدون أن يؤمنوا به ويساعدوا في رسم ملامحه، حتى لو توجب عليهم بناء تلك الرؤية من الصفر تقريباً.

في الواقع، غالباً ما تتطلب الفرص الاقتصادية أن يستسلم المرء للولاءات الطائفية والعلاقات الأبوية وما يترتب على ذلك من أخلاقيات عدم الفعالية والتبعية والخداع. تقدم الشركات التي يرتكز عملها بشكل أساسي على الانترنت نقطة التقاء، فهي توظف فِرقاً صغيرة للاستفادة من ذكائها التقني ومن تركيزها على المنتجات الافتراضية التي يمكن أن تتوسع في الخارج، في حين أنها تفلتُ من البيروقراطية في الوطن. في هذه الشركات، لا أحد مجبر على توفير الحماية لأحد، أو السعي للحصول على معروف من أحد، أو توظيف ابن عم أحدهم. كما أنه ليس من الضروري، كما يشير العديد من الموظفِين، معرفة أي شيء عن الخلفية المجتمعية للمرشح قبل اتخاذ القرار بتوظيفه.

يتمتع القطاع الرقمي بمساحة واسعة من  الترويج بالرغم من صغر حجمه، حيث تستفيد النُخب التقليدية من هالة الإبداع والديناميكية والنمو المرتبطة بالشركات الناشئة في جميع أنحاء العالم. تُعقد ندوات متميزة للاحتفاء بريادة الأعمال القائمة على التكنولوجيا، كما بُنيت مرافق جديدة لاستضافة الشركات الناشئة وهياكل الدعم الخاصة بها، مع توظيف مصطلحات برّاقة من قبيل "الابتكار" و "التمكين" و "تغيير العالم". تتضاعف صناديق الاستثمار منذ أن قام البنك المركزي بتخصيص 400 مليون دولار في عام 2013 لتغطية 75% من خسائرها، فأزال فعلياً المخاطر الكامنة في "الرأسمالية المغامرة". في بلد مشلول بسبب التنافس على صغائر الأمور ويفتقر لأي نموذج اقتصادي واضح ومستدام، فإن  الطبقة الحاكمة غير القادرة على الابتكار البنّاء يسرُّها رؤية مستقبل رقمي يوفر الوظائف والتمكين للشباب.

وما إن تتحدث إلى رواد الأعمال هؤلاء حتى تجد أن جلّ هذا البريق لا يعدو كونه وهماً، ففي واقع الأمر يرى كثيرون أن هذه البيئة غير متوازنة وثقيلة للغاية، فبالرغم من توفر رأس المال الوفير، قلّة هي المشاريع التي يمكن تمويلها، كما أن هناك ثروة هائلة بانتظار شركات ناضجة معظمها في حاجة ماسة للتمويل التأسيسي، كما يحجب الهوس بـ "بدائل الفيسبوك" و "المخارج" الضخمة الشرطَ الأساسي للاستثمارات المكثفة في رأس المال البشري. لقد أنتج هذا القطاع بالفعل مؤسسات بحثية ومنشورات متخصصة، في حين كان تعليم كلٍ من القوى العاملة والجمهور متخلفاً للغاية، أما الجامعات، التي تعتبر المكان المناسب للبدء، فلم تتصل بعد بعالم الشركات.

يسنّ رواد الأعمال قواعدهم الخاصة من الأسفل إلى الأعلى، فبدلاً من التذمر من السياق الموجود، يبحث هؤلاء عن حلول بأنفسهم، من إيجاد مساحات عمل مشتركة، مروراً بجمع تكلفة مولد الكهرباء الخاص بهم إلى برامج تدريب مخصصة للتعويض عن قطاع تعليم غير ملائم. لكي تحقق هذه البيئة آمال أصحاب المصلحة من المؤسسيين والممولين ولتحويل لبنان إلى مركز ابتكار مثالي، سيحتاج الأمر أكثر من مجرد مساحات مفتوحة فاخرة وشاشات بلازما وكراسي اسفنجية يقدمها البنك المركزي. يخاطر هذا النهج من أعلى إلى أسفل باستنساخ نظام المحسوبية القديم إن بقيت النخب التقليدية، التي هي جزء لا يتجزأ من القطاع المصرفي، صانعة القرار الرئيسة، فالحصول على المعدات يتطلب تدخلاً سياسياً، كما أن الصلات الشخصية تؤثر على التمويل.

إن الدعم الحقيقي للشركات الناشئة يعيد وضع الدولة والطبقة الحاكمة أمام مسؤولياتهما الأساسية، ألا وهي التركيز على المستوى الشعبي من خلال تحسين جودة التعليم والبنية التحتية وتمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة. مما لا شك فيه أن النخب اللبنانية مجمّدة في نواح كثيرة، ولا يمكن توقع حدوث تغيير جذري، لكن النقطة المهمة هي أن تجارب صغيرة ومهمة تُحدث شيئاً ما في الفجوات التي تظهر مع توقف النظام الشامل وتآكله.

إن ثقافة الشركات الناشئة التي تسمح للناس بكسر القالب، وعيش حياتهم خارج القواعد التقليدية للّعبة هي أيضاً نموذج مصغّر لديناميات أوسع يمكن رؤيتها في نمط من المبادرات المدنية التي تسعى بالمثل، ولو على مضض، إلى تقديم البدائل. تتراوح الأمثلة من مبادرة مشتركة تجمع نشطاء المجتمع المدني ومشغلي القطاع الخاص لجمع النفايات القابلة لإعادة التدوير استجابةً لأزمة النفايات التي نتجت عن الفساد السياسي، إلى قائمة "بيروت مدينتي" المستقلة التي ترشحت لانتخابات البلدية لعام 2016. لدى هؤلاء جميعاً رغبة مشتركة في تحديد أسلوب حياة فعّال ويحترم نفسه؛ وبهذا المعنى، فإن التمكين الرقمي ليس أكثر من منعطف اقتصادي يقود إلى تحوّل داخل المجتمع ككل، وبالتالي فإن هذه البيئة الرقمية تحتضن ما هو أكثر من الشركات الناشئة، وما يرى النور اليوم هو "لبنان المتخيَل" الذي تزداد الحاجة إليه بشدة. 

روزالي بيتر  و  بيتر هارلينغ

قام بالترجمة للعربية حسان حساني

تم استخدام الصور بموجب رخصة المشاع الابداعي من:
Daft Punk Never Ever Land by Wikipedia
 

 نشرت في الأصل في The Daily Star في 17 حزيران/يونيو 2016

الطبقة الوسطى المرنة


كيف يقوّض الاقتصاد اللبناني نفسه


Grand Theft Lebanon