كيف تقوم بـ:
تعد إدارتنا لوقتنا على النحو الأمثل تحدياً يومياً يتطلب وعياً وانضباطاً ذاتيين. ولا يبدو أن عبء العمل لدينا يوزّع نفسه بالتساوي، أو بشكل منطقي. بل يميل إيقاعنا إلى التأرجح بين لحظات من الضغط الشديد، حين تكون مواكبة المهام والطلبات العاجلة أمراً مروّعاً في حد ذاته، وبين فترات من الهدوء النسبي، حيث قد يتركنا غياب الحالات الطارئة والقيود العاجلة في حيرة بشأن أفضل طريقة لتنظيم وقتنا المتاح باتساع.
وبينما نحرز تقدماً في وظائفنا المهنية، تكون الفترات الزمنية المتاحة أقل عدداً وأكثر تباعداً، في حين تصبح حالة الضغط هي القاعدة. ونشهد أيضاً اتجاهاً نحو الفصل بين الاثنين، إذ يبدو أن الموظفين في حالة اندفاع دائم، وفي تناقض صارخ مع العاطلين عن العمل. وقد أصبح إظهار الانشغال الشديد علامة على المركز الاجتماعي المرموق. فالجميع تقريباً، بغض النظر عن مهنتهم، يشرعون في التحدث حول مدى نشاطهم الحالي أو السابق، وغالباً ما يلمّحون إلى الرزوح تحت ضغط التعب والإرهاق والتوتر. في هذا السياق، يحمل الظهور بمظهر التوفّر والاسترخاء وصمة عار. ومع ذلك، لا يوجد سبب للاعتقاد بأن كل هذا الانشغال يترجَم إلى عمل أكثر وأفضل. والواقع أن العكس هو الصحيح، بالنظر إلى صعوبة دفع المشكلات قدماً أو حتى الحصول على إجابات على الطلبات الواضحة والمهمة.
خلاصة القول أن اختلال إدارة الوقت لدى الآخرين جديرة بتذكيرنا بشكل دائم بما يجب أن نفعله بشكل أفضل، وبضرورة مقاومة أي إغراء للانشغال بوصفه غاية في حد ذاتها
ملء الفراغ
تُعتبر المراحل الهادئة والخالية نسبياً المذكورة أعلاه ترفاً يجب تمييزه، والاعتزاز به، واستخدامه بشكل مفيد، والنضال من أجله. إذ أن تلك اللحظات هي التي تتيح لنا فرصة لإنجاز أفضل أعمالنا فيها. يشبه ذلك إنهاء جميع أنواع الأعمال المنزلية حتى نتمتع أخيراً بمساحة من الوقت وحرية الاختيار وصفاء الذهن لفعل ما دفعنا إلى هذه المهمة أو تلك في المقام الأول.
وأهم ما يجب تجنبه هو المماطلة. قد يكون قضاء ساعات طويلة على الإنترنت، على وجه الخصوص، أسوأ استخدام لمثل هذا الوقت الثمين. ويفضل إغلاق جهازك وقضاء إجازة عن التظاهر بالانشغال.
. ولكن مساحات الهدوء تلك هي في الغالب فرص فريدة لمزيد من التعمق. فإذا لاحظت تباطؤاً في عملك بسبب عقبات أو صعوبات، كانت تلك فرصتك لتزداد إبداعاً في كيفية حل المشكلة: فكر أكثر في طرق جديدة للتعامل مع الأشخاص أنفسهم؛ وانظر إلى الأمور من زاوية مختلفة تماماً. ابحث عن طرق تواصل اجتماعي معمق مع دائرتك المستهدفة، مع ترك عمليات البحث جانباً؛ وإعادة النظر في جميع السبل التي أغفلتها ولها أن تساعدك.
المراحل الهادئة والخالية ترف يجب تمييزه
وسيكون ذلك أيضاً الوقت المناسب للعثور على الإلهام في القراءات المتراكمة. ولكن يمكن للقراءة بدورها أن تتحول إلى حشو للوقت بمشاكلها الخاصة: صرف انتباهك عما يجب أن تنتجه بنفسك، وتوفير مواضيع اهتمام جديدة بلا حصر، وفي النهاية مضاعفة التشويش بدلاً من تحقيق الصفاء الذهني. لذلك يجب أن تكون القراءة منهجية، تستند إلى قائمة عناوين محددة بدقة. ويجب أن تستهلك، حتى في أضعف الأوقات، عدداً محدوداً من الساعات كل يوم، لتوفير مساحة لأنشطة أساسية أخرى (مقابلات، كتابة ملاحظات، تنظيم ذلك، إلخ) بشكل متوازن.
ولتحفيز وتنظيم هذا الروتين، من الضروري التفكير في الأهداف العامة التي تسعى لتحقيقها –تقرير منشور، على سبيل المثال، كجزء من مسعى أوسع لإظهار التأثير على مسألة معينة– وتقسيمها إلى مكونات ملموسة قابلة للتحقيق، ومراجعة هذه المكونات في إطار زمني بمواعيد نهائية. سيساعدك ذلك على تحديد ما يلزم للمضي قدماً في يوم معين.
وفي موازاة ذلك، من الأهمية بمكان الاستفادة من «العمل ببطء» لتوسيع أفقك بينما تكون منتجاً. وحين يزول الضغط، ليس لديك عذر لعدم توسيع نطاق معرفتك العامة. إذ إن التثقف مشروع هائل، لن يتحقق إلا في الأوقات المتاحة التي تمكنك من قراءة كتاب أو اثنين أسبوعياً، وزيارة معرض، أو تكريس نفسك لاكتشاف جزء غامض من مجتمعك. على المدى الطويل، قد يكون هذا هو الاستثمار «الأكثر إنتاجية» في وقتك.
خلق المساحة
تتمثل الصعوبة عند العمل تحت وطأة الضغط في «خلق المساحة» وليس مجرد «تنظيف سطح المكتب». أولاً، يجب أن نوفر مساحة للعمل الأصيل، الذي يستلزم دوماً ساعات عديدة من التركيز دون انقطاع. إذ ما من أمر مهم ينجز في ربع ساعة أو نصف ساعة. قد تتطلب الكثير من الأنشطة التي ننغمس فيها القليل من الوقت، وقد لا تحتاج إلى الكثير من التركيز، ولكنها لا ترقى أبداً إلى تكوين مشروع مكتمل. بل يعتمد التقدم والإنجاز دائماً على فترات طويلة من العمل المتسق الخالي من أي تشويش.
ولكن نادراً ما تتاح تلك اللحظات من تلقاء نفسها، خاصة في ظل تزايد المسؤوليات. بل يجب تحديد تلك اللحظات، أو سرقتها حتى. ويتوجب إرجاء كل الأعمال والالتزامات الملحّة الأخرى جانباً لإفساح المجال. ويتمثل أحد الخيارات في العمل بشكل متواصل ومكثف، وفي التفاني الكامل لإنجاز مهمة صعبة على مدى أيام عدة متتالية. ومن الخيارات أيضاً حماية الروتين اليومي، وذلك بعزل ساعات الصباح مثلاً، من أي انقطاع. يمكن لهذا أن ينجح، ولكن بشرط عدم التهاون أبداً فيما يتعلق برفض الاجتماعات والمكالمات وإغراء الرسائل وغيرها من طلبات التواصل الاجتماعي على مدار فترة العزلة. ولكن بالطبع، ثمة فترات لا تحتمل ذلك، وهناك أيضاً لحظات نبحث فيها عن أعذار للهرب من الاستقرار.
تتمثل الصعوبة في «خلق المساحة» وليس مجرد «تنظيف سطح المكتب»
ثانياً، يجب أن نوفر مساحة لأنفسنا. إذ لا يمكن استمرار العمل بفعالية تحت الضغط لفترة طويلة. إنتاجيتنا، التي قد تكون مرتفعة بشكل غير عادي في المراحل المبكرة، ستتراجع بشدة، وبسرعة كبيرة، إذا لم نحقق توازناً بين العمل والاستراحات.
الأشخاص المفرطو الانشغال يميلون إما إلى العمل بكثافة مبالغ فيها، أو إلى التوقف عن العمل لفترات طويلة؛ وبذلك يجنحون إلى إنهاء العمل على السطح مع التضحية بنواحي القيمة والعمق والإبداع. وهكذا، يلبث العمل الإبداعي في حالة انتظار. يمكن لومضات إبداعية أن تشق طريقها إلينا في أي مكان عدا المكتب، فقد تحدث إبان اجتماع مع الزملاء، أو عند قراءة كتاب، أو أثناء الاستحمام، أو ممارسة الرياضة، أو الاستماع إلى شخص ما، أو مناقشة مسائل غير مرتبطة.
أخيراً، علينا إتاحة مساحة للتواصل مع الآخرين. فغالباً ما يتجاوز انشغالنا كونه مجرد موقف نرجسي، إلى شكل من أشكال التقوقع الذاتي. نحن ننشغل لنشعر بأهميتنا، ولنبرر استبعادنا أو تجاهلنا للآخرين –الذين نفترض أنهم أقل أهمية، ويكون وقتهم بالنتيجة أقل قيمة– ولكي نتخلص من الإحساس بالتقصير لدى النظر في أوجه القصور التي نعانيها في مواجهة العالم. وبذلك يكون الانشغال القوقعة التي تحمينا وتميّزنا عن محيطنا. ذلك بالضبط ما يُفقر عملنا، الذي يثرى من التفاعل مع أولئك الذين لا نشترك معهم في أمور كثيرة، والذين نسعى إلى الابتعاد عنهم عبر انشغالنا.
تشرين الأول/ أكتوبر 2016