أن تزرع وكأنه لا يوجد غد

تَعافي الزراعة في شمال شرق سوريا

عندما يتعلق الأمر بالإجهاد البيئي، قد يكون شمال شرق سوريا أوهن المناطق في البلاد، وأكثرها أهميةً في آن معاً، فهذه المنطقة ضروريةٌ للأمن الغذائي والمائي في سوريا، ويمكن القول إنها أيضاً المكان الذي يمكن القيام فيه بإنجازات في هذا المجال.

تحظى المناطق الواقعة شمال شرق الفرات بتدفقٍ مستمرٍ من المساعدات الأجنبية، كما أن الإدارة الذاتية أقل نهباً للمساعدات من النظام السوري. يخلق التمويل الغربي المستدام فرصةً لتجريب سبلٍ مبتكرةٍ تركز على المستقبل. وفي الواقع ما من سببٍ وجيهٍ يحول دون جعل شمال شرق سوريا حقلَ اختبارٍ للمنظمات الإغاثية التي تسعى إلى مساعدة المناطق ذات الحكم الضعيف في التكيف مع مناخٍ يزداد قسوةً يوماً بعد يومٍ. غير أن التقدم حتى اللحظة متوقفٌ على دعم نظامٍ غير مستدامٍ، نظامٍ سوف تُلحق آثاره الجانبية الضررَ بالمنطقة في قادم السنين.

ازدهارٌ وجفافٌ

منذ عام 2017 غذت المساعدات الغربية التعافي التدريجي في مناطق من شمال شرق سوريا التي كانت تسيطر عليها داعش فيما سبق. وقد تعرّض كثيرٌ منها لأضرارٍ جسيمةٍ بسبب حملات القصف التي قادتها الولايات المتحدة. وحرصاً منها على تحقيق الاستقرار في المنطقة والحيلولة دون عودة ظهور الجهاديين، ضخت واشنطن وحلفاؤها أموال المساعدات لإعادة بناء البنية التحتية، واستعادة الخدمات الأساسية، وإحياء القطاعات الرئيسة. ولم تكن المياه والزراعة استثناءً، فقد عمل المتعاقدون والمنظمات غير الحكومية الممولة من الغرب على إصلاح البنية التحتية اللازمة للري، فحفروا آباراً جديدةً، ومجهزةً في بعض الأحيان بألواحٍ شمسيةٍ وأنظمةٍ للري بالتنقيط، وساعدوا المزارعين في استئناف نشاطهم من خلال توفير المعدات الأساسية واللوازم الزراعية والأموال.

ولذا يشير السكان في بعض المناطق - ولا سيما في الريف المحيط بالرقة - إلى أن الزراعة لم تستقر فحسب، بل وازدهرت: "لقد أنقذت المنظمات غير الحكومية أراضينا ومواشينا"، هذا ما قاله مزارعٌ في قريته الواقعة خارج مدينة الطبقة، وأردف: "نحن قادرون على العيش والعمل وإطعام عائلاتنا بفضل المنظمات التي تدعمنا." وفي أماكن أخرى من محافظة الرقة، تحدث السكان بفخرٍ عن زيادة مجتمعاتهم لإنتاج المحاصيل، مثل البطاطس وزيت الزيتون، والتي لم يعهدوا زراعتها من قبل. وهذا لا يعكس وصول دولارات المساعدات بعد عام 2017 وحسب، بل وكذلك وصول المزارعين الذين فروا من خطوط القتال في إدلب وحلب وحماة، وجلبهم الكفاءة ورأس المال للمنطقة.

وفي حين تحظى بعض المناطق بانتعاش القطاع الزراعي، تكافح مناطق أخرى من أجل البقاء وسط الجفاف الشديد، ويتجلى هذا التناقض أكثر ما يتجلى في محافظة الحسكة، حيث تعاني المناطق الحضرية والريفية على حدٍّ سواء من انقطاع مياه الصنابير وجفاف الأرض، وفي ذلك قال مزارعٌ كرديٌّ مسنٌّ: "لم يهطل المطر منذ عامين". وقريته في محافظة الحسكة أفضل حالاً من قرىً كثيرةٍ، فهي مجهزةٌ بالجرارات التي لا تستطيع كثيرٌ من القرى والبلدات الأخرى شراءها. لكن تلك الجرارات لا تحمل كثيرَ عزاءٍ عندما لا يكون هناك ما يكفي من المياه لزراعة المحاصيل: "إن انحباس المطر يعني أنه لن يكون هناك حصادٌ، وأن مواشينا ستَنفق. من كان لديه 50 رأساً من الماشية أصبح لديه الآن 10 رؤوسٍ. وإذا بقي الوضع على حاله فسنضطر إلى التوقف عن العيش على ما تدره الأرض ونصبح عمالاً في المدينة".

تعكس مشاكل الحسكة مجموعةً من العوامل، بعضها من صنع الإنسان؛ إذ استخدمت تركيا ووكلاؤها السوريون سيطرتهم على محطة علوك لقَطع إمدادات المياه عما يقرب من مليون إنسانٍ وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة؛ لكن للمناخ والجغرافيا دوراً أيضاً: فعلى عكس الرقة ودير الزور، تقع حقول الحسكة بعيداً عن نهر الفرات، فيلجأ الناس للزراعة المروية. أما نهر الخابور الذي كان ذات يوم مورداً رئيساً لمزارعي الحسكة، فقد نضب بفعل عقودٍ من استغلالٍ مفرطٍ تفاقم بسبب ارتفاع حرارة الطقس واشتداد الجفاف. واليوم يعتمد نحو 85 بالمئة من الزراعة في المحافظة على مياه الأمطار وحسب، وفقاً لمسؤولٍ في الاتحاد العام للفلاحين.

إن استجداء المطر هو رهانٌ يزداد خطورةً لأن تغير المناخ يصعّب من التنبؤ بالطقس أكثر فأكثر؛ وفي ذلك قال مزارعٌ من قريةٍ في الحسكة تقع بمحاذاة الحدود التركية: "الزراعة البعلية أشبه بلعبة البوكر، ففي كل عامٍ تراهن بكل ما لديك، وتَغرق في الديون لتستمر في اللعب على أمل أن يكون العام المقبل أفضل". والأهم من ذلك أن مزارعي الحسكة كانوا يعانون من سلسلةٍ من الخسائر حتى قبل عام 2011: فبين عامي 2006 و2010، أحدث الجفاف ضرراً كبيراً بالزراعة في المحافظة، ما أدى إلى إثارة موجاتٍ من الهجرة إلى مناطقَ بعيدةٍ في الجنوب مثل درعا ودمشق.

وإذا كان المزارعون ممن يعتمدون على مياه الأمطار من بين أكثر الفئات ضعفاً في المنطقة، فإنهم كذلك لا يحصلون على مساعداتٍ كافيةٍ من المنظمات الإنسانية. فقد استهدفت هذه الأخيرةُ الزراعةَ المرويةَ في المقام الأول لأن نتائجها الملموسة أكبر من غيرها. قال مدير إحدى المنظمات الإغاثة الغربية الكبيرة: "إن المستفيدين المفضلين لدينا هم المزارعون الذي يروون أرضهم، بينما من هم أمسُّ حاجةً إلينا من أولئك هم المزارعون الذين لا يروون أرضهم." ويمكن قول الشيء نفسه عن الرعاة في شمال شرق سوريا، إذ يضطر هؤلاء إلى رعي قطعانهم في المراعي الجافة والمتدهورة، ولم يتلقوا سوى القليل من المساعدة. قال عامل إغاثةٍ آخر ببساطةٍ: "نحن لسنا مجهزين بما يكفي لدعم الناس الرُّحّل".

ضخ ما تبقى من الماء

كما يطرح هذا التركيز على الري مشكلةً أخرى قد تكون أكثر خطورةً: فمن خلال مساعدة المزارعين في العودة إلى ممارساتٍ تُفرط في استخدام المياه، يخاطر قطاع المساعدات بترسيخ نموذجٍ لم يعد النظام البيئي المحلي قادراً على تحمله. وفي حين أن الطقس الأشد حرارةً وجفافاً يُشعر به في المناطق البعيدة عن الأنهار أكثر من غيرها، إلا أنه يؤثر أيضاً على نهر الفرات المهم للغاية. وبفعل الجفاف، والإفراط في الاستجرار، وبناء السدود في أعلى النهر في تركيا، تنخفض مياه النهر اليوم إلى مستوياتٍ خطيرةٍ. أعرب موظفٌ في إحدى المنظمات المانحة الغربية عن قلقه حيال تأثير ذلك على استدامة الاستجابة الإنسانية: "لقد تدخلت منظمات الإغاثة لإعادة تأهيل شبكات الري التي دمرتها الحرب، لكن ذلك لن يجدي نفعاً على المدى الطويل لأن منسوب نهر الفرات آخذٌ في الانخفاض".

وإلى جانب استجرار المياه من نهر الفرات الآخذ في النضوب، فإن الاستجابة التي تركز على الضخ تهدد المياه الجوفية في المنطقة، وهي مياهٌ كانت تنضب بسرعةٍ قبل عام 2011 بوقتٍ طويلٍ، حيث أدى ضعف التوريد الحكومي وضعف الرقابة إلى حدوث طفرةٍ في عمليات حفر الآبار غير المرخصة. وبطبيعة الحال استمر هذا الأمر بعد عام 2011 بفعل استمرار الجفاف والصراع. يؤدي تدخل المنظمات الإنسانية إلى مفاقمة هذه المشكلة، فبسعيها لإيصال المياه إلى المجتمعات الضعيفة، لجأت بعض المنظمات إلى حفر آبارٍ جديدةٍ خاصةٍ بها. ولا تمثل هذه الآبار سوى جزءٍ صغيرٍ من آلاف الآبار المنتشرة في المنطقة، لكنها أعمق بكثيرٍ من الآبار التي يحفرها عامة المزارعين، فتنضح المياه من الخزانات الجوفية التي لن يعاد ملؤها في أي وقتٍ قريبٍ.

والأسوأ من ذلك كله هو أن غالبية المنظمات الإغاثية والسلطات المحلية تفتقر إلى البيانات المتعلقة بمنسوب المياه الجوفية التي يحفرون الآبار للوصول إليها. ما من تقييمٍ شاملٍ لمنسوب لمياه الجوفية في المنطقة منذ ما قبل اندلاع الحرب، والإدارة الذاتية تفتقر للمعدات اللازمة لإجراء هذا التقييم. بإمكان المنظمات الإغاثية أن تساعد في سد الفجوة من خلال مراقبة الظروف المحيطة بالآبار التي تحفرها، لكنها تفتقر في الغالب إلى الحوافز والميزانية المخصصة للقيام بذلك. أوضحت إحدى الموظفات الغربيات في منظمة غير حكومية دولية تخوفها قائلةً: "لا تُجري معظم المنظمات دراساتٍ عن الجدوى، فهذه الدراسات قد تستغرق وقتاً، وهو ما لا يمكن تغطية تكاليفه بسهولةٍ في دورات التمويل. إنهم ببساطةٍ يحفرون كالعميان".

ترتبط الطفرة في حفر الآبار بمنحىً آخر في الاستجابة الإنسانية في الشمال الشرقي: استخدام الطاقة الشمسية؛ فمن خلال تجهيز الآبار بألواح الطاقة الشمسية، تساعد التدخلات الإنسانية المزارعين في ري أراضيهم دون تحمل تكاليف تشغيل المضخات التي تعمل بالديزل ودون إحداث تلوثٍ، لكنها تفرض تكاليف أخرى، لخّصها أحد خبراء الأمن الغذائي في الحسكة بقوله: "الطاقة الشمسية مجانيةٌ بمجرد إنفاق رأس المال الأولي، وذلك يعني أن بإمكان المزارعين ضخ ما شاءوا من المياه. كما أن انتشار الطاقة الشمسية لا يزيد من خطر الإفراط في الضخ وحسب، بل يهدد أيضاً بإحداث أزمة نفاياتٍ سامةٍ في منطقةٍ تفتقر إلى البنية التحتية اللازمة للتخلص من الألواح البالية، وتعاني أصلاً من التلوث الشديد.

كثير من الطهاة

تطرح هذه المشاكل التي تلوح في الأفق السؤال التالي: إذا كانت منظمات الإغاثة مدركةً لأخطار هذا المنحى، فما الذي يمنع قطاع المساعدات من تصحيح المسار؟ تتعلق إحدى الإجابات بالتفكك، إذ تحوي المنطقة الواقعة شرق الفرات مجموعةً مفككةً من المؤسسات، بما في ذلك المنظمات غير الحكومية الدولية، والمقاولين الغربيين الربحيين، ووكالات الأمم المتحدة، والإدارة الذاتية نفسها.

ولذا لا تعرف منظمةٌ تعمل في مجال المياه أو الزراعة ما تفعله المنظمات الرئيسة الأخرى، ولا تملك الوصول إلى أية معلوماتٍ ربما تجمعها. قال مدير منظمةٍ إغاثيةٍ: "البيانات الوحيدة المتوفرة لدينا تتعلق بمشاريعنا الخاصة. لا يتحدث الناس فيما بينهم، وحتى لو كان ثمة آلياتُ تنسيقٍ رسميةٌ، فغالباً ما تقيد الجهات المانحة نوع المعلومات التي يمكن لشركائها تبادلها مع الآخرين. وهذا الانفصال مثيرٌ للقلق لا سيما في منطقةٍ تندر فيها البيانات.

في السيناريو المثالي ستساعد الحكومة المركزية في التغلب على مشاكل التنسيق هذه، والقيام بالوظائف الأساسية مثل تنظيم استخدام المياه ومراقبة جودة الأسمدة والمبيدات الحشرية. غير أن الإدارة الذاتية لا تملك في الوقت الحالي سوى قدرةٍ ضئيلةٍ أو معدومةٍ على معالجة أيٍّ من هذه المشاكل. قال إداريٌّ مسؤولٌ عن الزراعة: "من الناحية النظرية نطلب من المزارعين الحدَّ من ضخ المياه الجوفية إلى 12 ساعةٍ في اليوم، لكني أعلم جيداً أنهم يضخون المياه على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع." يعود السبب في جزءٍ منه إلى الموارد المالية المحدودة للإدارة الذاتية وندرة الموظفين الأكفاء. لكن حتى عندما تتمكن السلطات من كبح جماح استخدام المياه - على سبيل المثال من خلال وضع عداداتٍ على الآبار الزراعية – لا يحبذ المسؤولون استعداء المجتمعات الريفية التي يحرصون على ألا يخسروا دعمها.

كما أن المانحين الغربيين يتوخون الحذر، فقد امتنع معظمهم عن الاستثمار في الإدارة الذاتية كحكومةٍ مدنيةٍ حقيقيةٍ مراعاةً لأنقرة. لا يتجنب بعض المانحين التواصل المباشر مع السلطات فحسب، بل يقيدون أيضاً التدخلات التي يمكن لشركائهم المنفذين القيام بها. هذا الحذر منطقيٌّ من الناحية الجيوسياسية، لكنه يعوق أيضاً التخطيط والإشراف والتنسيق اللازم لمعالجة أزمة المياه المتفاقمة في شمال شرق سوريا.

* * *

ثمة مجالٌ كبيرٌ لرسم مسارٍ أكثر استدامةً، وتجربة طرائق يمكن أن تجدي نفعاً في أماكن أخرى من سوريا وخارجها، وتتلخص نقطة البداية الملحّة والبديهية في الحد من الأضرار في مجال إدارة المياه، ويمكن أن يشمل ذلك إجراء دراساتٍ إلزاميةٍ للجدوى قبل حفر آبارٍ جديدةٍ؛ وتركيب عداداتٍ على الآبار المرخصة؛ وفرض أن تتضمن جهود استخدام الطاقة الشمسية التخطيط الأساسي فيما يتعلق بالتخلص منها على النحو الأمثل.

وبموازاة ذلك ينبغي على قطاع المساعدات أن يتبع ممارساتٍ أكثر منهجيةً لتبادل البيانات. لا يوجد سببٌ مقنعٌ يمنع المنظمات غير الحكومية الدولية، والمتعاقدين الربحيين، والسلطات المحلية من جمع المعلومات جمعاً منهجياً عن منسوب المياه وحفر الآبار. كما ينبغي على المنظمات الإغاثية دعم الإدارة الذاتية في وظائف الرقابة الرئيسة التي لا يمكن لأي أحدٍ آخر الاضطلاع بها بفاعليةٍ: مثل جمع البيانات عن موارد المياه والتربة وجودة المياه، وتنسيق زراعة المحاصيل المقاومة للجفاف.

والأهم من ذلك أن الاستجابة الإنسانية يمكن أن تساعد شمال شرق سوريا في الشروع بتحولٍ طال انتظاره إلى نموذجٍ زراعيٍّ أكثر مرونةً. لا نحتاج إلى البحث عن الإلهام بعيداً، فالمنطقة عُرفت تاريخياً بأنها جنةٌ من الأراضي العشبية للرعي والزراعة البعلية. واسمها العربي "الجزيرة" يقول كل شيءٍ: جزيرةٌ خصبةٌ محاطةٌ بنهرين عظيمين.

والسؤال إذن هو كيفية تعويض بعض الثروات المفقودة جرّاء عقودٍ من الاستغلال المفرط. ويتمثل أحد السبل في حماية واستعادة نظمٍ بيئيةٍ معينةٍ حتى تتمكن مرةً أخرى من خدمة المزارعين والرعاة الذين يعتمدون على مياه الأمطار. ويتمثل خيارٌ آخر في دعم هذه المجموعات نفسها بالأدوات التي تحتاجها لإدارة الإجهاد البيئي والاقتصادي: من خلال توفير البذور التي تتحمل الجفاف والملوحة على سبيل المثال، إلى جانب سياسات تأمينٍ للتخفيف من آثار شح المحاصيل. سيتوقف النجاح على مزيجٍ من الطرائق والتجارب المكثفة، وهي أمورٌ لن تعود بالنفع على منطقة الجزيرة نفسها وحسب، بل وعلى المناطق شبه القاحلة الأخرى التي سيعتمد مصيرها غداً على تجارب اليوم.

 19 أيلول / سبتمبر 2023

كتب هذا المقال بواسطة ليز موفيس، وأليكس سايمون، وسولين محمد أمين. أليكس سيمون هو أحد مؤسسين منظمة سينابس. ليز موفيس وسولين محمد أمين صحفيتان تعاونا مع سينابس في العمل الميداني.



الرسم التوضيحي: عملٌ فنيٌّ بواسطة pxhere / مرخصٌ بموجب رخصة المشاع الإبداعي.