طاعون سوريا السابع

آفة المخدرات

تواجه اليوم المجتمعات المتضررة من الحرب والانهيار الاقتصادي في سوريا وباء استخدام المخدرات، فموجة الإدمان التي بدأت في ساحات القتال وفي الثكنات اجتاحت اليوم النوادي الليلية والأُسر والفصول الدراسية. وفي المناطق المتضررة بشدةٍ، تؤدي هذه الآفة إلى تآكل النسيج الاجتماعي الممزق، ما يؤدي بدوره إلى تفكك الأسر وتفشي الجريمة والاستغلال الجنسي.

كما أن هذه الآفة تتدفق عبر الحدود السورية إلى منطقةٍ أوسع يطغى عليها اليأس، إذ لم تفلح الاستجابة الدولية المحمومة في وقف التدفق، فأي حلٍّ لهذه الأزمة الإقليمية يجب أن يبدأ من داخل سوريا التي يحرص المانحون الأجانب على تركها ومصيرها بدلاً من مساعدتها، كما يجب أن يبتعد الحل عن الحملات الأمنية، وأن يعالج المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تكمن في جوهر هذه المشكلة.

الذروة

في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كان تعاطي المخدرات مقتصراً على فئاتٍ اجتماعيةٍ بعينها. "المخدرات كانت موجودة قبل الحرب، لكن في أحياءَ معينةٍ وحسب"، تقول امرأةٌ ثلاثينيةٌ من الطبقة المتوسطة من مدينة حمص وسط البلاد. "لم تكن المخدرات موضوعاً للنقاش حيث أعيش." وقد رددتْ صانعة أفلامٍ تعيش في ضواحي دمشق هذه النقطة: في تجربتها كان الحشيش رائجاً ضمن المجموعات الليبرالية غير التقليدية، من فِرق الروك إلى العاملين في مجال التكنولوجيا. وعلى الطرف الآخر من الطيف الاجتماعي، قد يتسكع الشباب في شوارع الأحياء الفقيرة، ويتناولون حبوباً مثل الترامادول، وهو مُسكن ألمٍ يمكن الإدمان عليه ومتوفرٌ دون وصفةٍ طبيةٍ. وفيما لجأ آخرون إلى أدويةٍ منها زاناكس للتحكم في القلق، كان الاستخدام الترفيهي لتلك العقاقير نادراً ومحظوراً.

راحت هذه الوصمة الاجتماعية تتلاشى وسط الحماسة الثورية التي شهدها عام 2011، فقد أصبح الحشيش متوفراً، وأصبح تعاطيه أمراً عادياً أكثر فأكثر، لا سيما بين الشباب العلمانيين ذوي الميول اليسارية. وبتصاعد الصراع، فرّت كثيرٌ من تلك الفئات إلى لبنان الذي كانت المخدرات تتدفق عليه بحريةٍ أكبر بكثير من تدفقها على سوريا. ويمكن القول إن هذا التلاقح المتبادل ساعد في تسريع التحول نحو قبولٍ اجتماعيٍّ أكبر بكثيرٍ.

في هذه الأثناء، وفي ساحة المعركة الآخذة في الاتساع في سوريا، راح صنفٌ آخر من المخدرات ينتشر. فبتصاعد العنف، راحت الفصائل توزع المخدرات على المقاتلين لإبقائهم في حالة تأهبٍ، وأصبح الكبتاغون، وهو أمفيتامين يسبب الإدمان، هو المفضلَ في جبهات القتال. ربط كثيرون خارج سوريا بين الكبتاغون وتنظيم الدولة الإسلامية، غير أنه يحظى بنفس القدر من الأهمية بين القوات الحكومية. قال مقاتلٌ سابقٌ من إحدى الميليشيات الموالية يعاني اليوم من الإدمان: "لقد أعطانا القادة الكبتاغون مجاناً حتى نتمكن من القتال طوال الليل، ومن عام 2013 إلى عام 2018 كنا جميعاً نتعاطى المخدرات أكثر من تناولنا الوجباتِ الساخنةَ."

ويقول كثيرٌ من السكان المحليين إن تدفق المقاتلين الأجانب أدى إلى تسريع هذه الظاهرة. قال معلمٌ في ضواحي دمشق، والذي شهد كيف تسلل تعاطي المخدرات – والاتجار بها - إلى مدرسته: "لقد وسّع رجال الميليشيات الأجنبية تجارة المخدرات في سوريا". ويحمّل البعض إيران مسؤولية ظهور مادة الكريستال، وهي مادة منشطة تسبب الإدمان، في السنوات الأخيرة. ويتهم آخرون حزب الله اللبناني الذي اشتهر بأنه نجح في خلق تجارةٍ مربحةٍ لتهريب البضائع والأفراد بين سوريا ولبنان. هذه التصورات منتشرةٌ على نطاقٍ واسعٍ بالرغم من صعوبة دعمها بالأدلة.

التصادم

ولما غذت الحرب طفرة المخدرات في سوريا، لم يؤد انحسار القتال إلى كبح جماح هذه الآفة، بل ثبت أن العكس هو الصحيح، ففي عام 2018 أدت سلسلةٌ من الانتصارات الحكومية - ابتداءً بالغوطة الشرقية فدرعا فريف حمص الشمالي - إلى ترجيح الكفة لصالح النظام. وبانحسار القتال تناقصت كميات المخدرات التي كانت توزع على الجنود بالمثل، لكن كثيراً من المقاتلين باتوا مدمنين حينها، فأدى ذلك إلى نمو سوق المخدرات، وهو ما يؤكده شابٌّ جُنِّد تاجراً في قوله: "بعد توقف القتال في عام 2019 لم يبق مِن أفراد الميليشيات من يحصل على المخدرات مجاناً، فاضطروا للبدء في شرائها من التجار المحليين، وازدهرت سوقها."

لم يسفر انكفاء القتال عن تأمين عملاء لتلك التجارة المزدهرة فحسبُ، بل أدى أيضاً إلى ظهور تجارٍ كبارٍ، فبعد أن أمضى المقاتلون سنواتٍ في نهب المناطق التي سيطروا عليها، أصبحت تجارة المخدرات الخطوة المنطقية التالية. رسم مدير مدرسةٍ في السويداء – التي يجعلها موقعها على الحدود الأردنية نقطةً ساخنةً لتهريب المخدرات – ملامحَ هذا التحول بقوله: "بعد توقف القتال، لم يكن لدى رجال الميليشيات ما يكفي من المال لشراء المخدرات، ولذا انخرطوا في ارتكاب الجرائم زمنَ السلم: كتهريب المخدرات والوقود، وخطف الناس للحصول على فدية."

كما استفادت فصائل بأكملها على جانبي الصراع من هذا التحول، فقد أوجد قادة الميليشيات لأنفسهم مساحةً في اقتصاد المخدرات الجديد: "لا يمكنك معرفة ما إذا كان مهربو المخدرات في الأصل في صف الحكومة أم ضدها"، قال أبٌ من محافظة درعا التي تقع مثلها مثل السويداء على الخطوط الأمامية لأزمة المخدرات في سوريا. "أصبح بعض المتمردين السابقين أفراد ميليشيا موالين للحكومة، وفي هذه المرحلة تبيع كل الأطراف المخدرات".

والواقع أن النمو السريع الذي حققته هذه التجارة مردّه أن الجميع تقريباً يشاركون فيها: فالسوريون يتهمون العصابات المحلية بقدر ما يتهمون المستويات العليا في هيكل السلطة في البلاد؛ وفي ذلك عبّر محامٍ في مناطق النظام عن وجهة نظره شائعة لكن يصعب التحقق من صحتها: "كان الناس قبل الحرب ينظرون إلى مهربي المخدرات بازدراءٍ، أما اليوم فتراهم يشربون الشاي مع رجال الأمن في مكاتبهم!"

الانتشار

وفيما تؤدي الجماعات المسلحة دوراً محورياً في هذه التجارة، استشرى الإدمان وآثاره غير المباشرة بسرعةٍ في المجتمع. قال المعلم في ضواحي دمشق: "لقد انتشر تعاطي المخدرات كالنار في الهشيم". بدأت هذه العدوى خلال الحرب بعد أن راح المقاتلون الشباب، ممن يحظون بموردٍ ثابتٍ من الحبوب المخدرة أو الحشيش، يتشاركون المخدراتِ مع أقرانهم المدنيين. "كان المراهقون يحصلون على المخدرات مجاناً ويوزعونها على أصدقائهم." غير أن هذا الأثر الجانبي للصراع أصبح فيما بعد استراتيجيةً تجاريةً في زمن السلم: "أنشأت الميليشيات متاجر بالقرب من المدارس الثانوية لجذب المراهقين بالمخدرات الرخيصة"، أوضح المعلم في السويداء، "كما راحوا يجندون الطلاب لبيعها لأصدقائهم في المدرسة."

إن انزلاق سوريا في البؤس جعل من السهل للغاية العثور على الزبائن الشباب، فالصدمات النفسية منتشرةٌ على نطاقٍ واسعٍ، وآفاق المستقبل قاتمةٌ، وغالباً ما ينشغل الآباء بكفاحهم اليومي، أضف إلى ذلك انهيار شبكات الأسرة أو الحي. ونتيجةً لذلك لا يحتاج كثيرٌ من الشباب إلى كثيرٍ من الإقناع للسعي لعلاج أنفسهم بأنفسهم. قالت امرأةٌ تبلغ من العمر 23 عاماً في دمشق: "يَهرب الشباب من هذا الواقع إلى شرب الكحول وتدخين الحشيش". وأضافت أن آليات التكيف هذه توسعت لتتجاوز الدوائر العلمانية لتصل إلى دوائر أكثر محافَظةً من الناحية الدينية، حيث كان تعاطي المخدرات في السابق من المحرمات: "حتى أن كثيراً من المتدينين باتوا يدخنون الحشيش".

لا يغري الشقاءُ والبؤسُ الناس بتعاطي المخدرات فحسب، بل بالاتجار بها أيضاً. أوضح الشاب الذي جُند تاجراً قصته فقال:

كنت أجني خمسة دولاراتٍ يومياً من العمل في البناء من الساعة الثامنة صباحاً حتى السادسة مساءً. ولترويج المخدرات، عَرض عليّ أحد قادة الميليشيات 30 دولاراً في اليوم، وأعطاني دراجةً ناريةً ومسدساً، فقبلتُ العرض لأنني بحاجةٍ لشراء الدواء لأمي المريضة. هذا حالي أنا، لكن آلاف الأشخاص في سوريا لا يستطيعون الحصول على ما يسد رمقهم، والطعام ينفد من الجمعيات الخيرية، وسيفعل الآباء أي شيءٍ لإطعام أطفالهم.

وبموازاة انتشار الاتجار والإدمان، انتشرت أيضاً قصصٌ عن الإجرام وغير ذلك من العلل الاجتماعية التي تغذيها المخدرات. يؤكد السوريون على أن المخدرات تؤدي إلى تفكك النسيج الاجتماعي بطرقٍ شتى، ولا سيما في المناطق التي تتفشى فيها المخدرات: "لقد التقيت بصبايا يمارسن البغاء لشراء المخدرات"، قال طبيبٌ في السويداء متأسفاً. "يسرق الشبان مجوهرات أمهاتهم، وأما الآباء فيضربون زوجاتهم وأطفالهم تحت تأثير المخدرات."

التكيف

 ولعل أخطر ما في الأمر على الإطلاق هو أن سوريا لا تمتلك سوى القليل من البنية التحتية اللازمة لإدارة هذه الأزمة. كان قطاع الصحة العقلية في البلاد متخلفاً حتى قبل اندلاع الحرب، ثم تآكَلَ أكثر بفعل هجرة الأدمغة. لا يوجد في سوريا أطباء نفسيون متخصصون في علاج مدمني المخدرات،" قال الطبيب في السويداء بشيءٍ من المبالغة: "هؤلاء الناس بحاجةٍ إلى المساعدة الطبية، وبدلاً من ذلك كثيراً ما نزج بهم في السجون."

 وقد يساهم غياب البنية التحتية الرسمية للعلاج، والروابط الاجتماعية غير الرسمية – عبر الأسر والأحياء والمدارس – في الحؤول دون ملاحظة أعراض الإدمان لدى الشباب، وهو ما أوضحه المعلم من السويداء بقوله:

 يبحث المعلمون عن علاماتٍ على وجود خطبٍ ما: على سبيل المثال، إذا كان الطالب مريضاً غالباً أو متعباً أو يقصر في أداء واجباته المدرسية، ثم يطلبون من ذوي الطالب تقصي أمره ومع من يقضي وقته، فإذا ما ساورهم قلقٌ من تعاطي طالبٍ ما المخدراتِ بدأوا في إيلاء الأمر اهتماماً إضافيّاً.

 غير أن هذا الاهتمام ليس متوفراً دائماً، فالفصول الدراسية مكتظةٌ، وغالباً ما يكون المعلمون وأولياء الأمور على حدٍ سواء غارقين في ضغوط الحياة اليومية وهمومها، ولذا يرى بعض الآباء أن أفضل حلٍّ هو الانتقال لمكانٍ آخر. قال المعلم في السويداء: "أعرف عائلاتٍ نقلت أطفالها من مدرسةٍ إلى أخرى هرباً من المخدرات، وانتقل آخرون إلى دمشق". كما ردد عددٌ ممن حاورناهم هذه النقطة بقولهم: "انتقلت عائلةٌ من درعا إلى العاصمة دمشق، فيما حاولت أخرى تغيير المدارس في ضواحي دمشق، غير أن كثيراً من الناس يفتقرون للموارد اللازمة للقيام بذلك، وبالتالي تُركت أكثرُ الفئات ضعفاً تعاني من هذه الآفة التي تضاف إلى تلك التي سبقتها.

                                                   * * *

تُرِكَت تجارة المخدرات السورية لتتفاقم وتمتد إلى بقية أرجاء المنطقة، وحرصاً منها على وقف التدفق، سعت الدول العربية إلى إقناع النظام السوري بإغلاق حدود البلاد. وكجزءٍ من هذه الحملة، أنهت القوى الإقليمية، في عام 2023 تعليق عضوية دمشق في جامعة الدول العربية بعد 12 عاماً، غير أن هذه المحاولة باءت بالفشل بعد أن أصبحت المخدرات جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد السوري المنهار. علاوةً على ذلك، تنامى هذا القطاع وتطور لدرجة أنه غدا من غير الواضح ما إذا كان بمقدور دمشق كبح جماحه، حتى لو أرادت ذلك. وبسبب الإحباط الناجم عن عدم إحراز تقدمٍ، لجأ الأردن إلى قصف طرق التهريب المزعومة في جنوب سوريا، وهو تصعيدٌ يائسٌ لا طائل من ورائه، ومن غير المرجح أن يكبح تجارة المخدرات حتى لو أنهى حياة المدنيين.

يذكّرنا هذا النهج المحموم بأزمات المخدرات في أماكن أخرى من العالم، ولا سيما في الولايات المتحدة، حيث تسببت عقودٌ من "الحرب على المخدرات" في إحداث دمارٍ شديدٍ في المجتمعات الفقيرة دون تحقيق أيٍّ من أهدافها. وتحمل أوجه التشابه هذه دروساً مهمةً، وأهمها أن تعاطي المخدرات لا يمكن مكافحته بالسبل العسكرية.

ثمة أمورٌ كثيرةٌ يمكن القيام به لمساعدة سوريا والدول المجاورة في إدارة هذه الأزمة، لا سيما زيادة الدعم لعلاج الإدمان، ومراكز إعادة التأهيل، وحملات التوعية، والرعاية الصحية العقلية على نطاقٍ أوسع. وحتى الآن ظلت هذه التدابير المنطقية غائبةً عن جميع المناقشات المتعلقة بتجارة المخدرات في سوريا، وتركز هذه على سبل احتواء التداعيات بدلاً من مساعدة المجتمع السوري في معالجة المشكلة من جذورها. قد نضيع سنواتٌ كثيرةٌ قبل أن ندرك أن ذلك النهج لن يفلح في سوريا ولا في أي مكانٍ آخر، أو يمكننا أن نسلك طريقاً مختصرةً، ونبدأ من اللحظة بعلاج المشكلة بفاعليةٍ.

15  نيسان/ أبريل 2024

كتب هذه المقالة أليكس سايمون مع عمل ميداني من فريق سينابس سوريا



العمل الفني استخدم بامتنان: "بلا عنوان" لالياس الزيات 1967 (من خلال مؤسسة الأتاسي).