ملاذات مهدّدة
محنة الفلسطينيين الصامتة في لبنان
تهدد الأزمة الاقتصادية الملاذ الآمن الذي أسّسه الفلسطينيون لأنفسهم في لبنان خلال العقود الماضية. ولأنهم بعيدون عن أعين العامة، يظن كثيرٌ من اللبنانيين أن اللاجئين الفلسطينيين يتلقون رعايةً جيدةً من قِبل الأونروا؛ وهي الوكالة المعينة من قبل الأمم المتحدة، ولفيفٍ من المنظمات المحلية والدولية الأخرى. تؤجج هذه الافتراضات استياء اللبنانيين الذين يواجهون المصاعب بعد أن تخلت عنهم دولتهم، وبسبب عدم وجود وكالةِ مساعدةٍ خاصةٍ بهم يلجؤون إليها. لكننا إن نظرنا عن كثبٍ، فسنرى أن الفلسطينيين لم يتفادوا الأزمة، ففي حالة الانهيار العام الذي تشهده البلاد، تسارعَ سقوط السكان الذين كانوا ضعفاء أصلاً.
لم يحظ اللاجئون الفلسطينيون على مرّ التاريخ بأكثر من وصولٍ محدودٍ إلى الخدمات العامة في لبنان، ولذا كان عليهم دائماً أن يستنبطوا الحلولَ لتلبية أكثر احتياجاتهم إلحاحاً. تضطلع الأونروا بدورٍ قياديٍّ في القطاعات الحيوية كالتعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية وحتى في مشاريع تحسين البنية التحتية، كما تدعم شبكةً من المدارس داخل المخيمات وخارجها، إلى جانب دعمها عيادات الرعاية الصحية الأولية، بيد أنها تكابد في ذلك بسبب النقص الحاد في التمويل، وبالتالي فهي غير قادرةٍ من الناحية الهيكلية على التخطيط على المدى الطويل. في تشرين الثاني / نوفمبر 2021، تأخّرت الوكالة في دفع رواتب موظفيها بعد نفاد أموالها.
تُسدُّ الثغرات في خدمات الأونروا من قبل مجموعةٍ كبيرةٍ من الجمعيات الخيرية والمنظمات غير الحكومية الموجودة منذ ما قبل الأزمة الحالية. تصمّم هذه المنظماتُ عملَها وفقاً لاحتياجاتٍ معينةٍ، مثل مساعدة الأشخاص ذوي الإعاقة في الوصول إلى الرعاية الصحية المتخصصة والخدمات الاجتماعية، لكنها تعتمد أيضاً على جهاتٍ مانحةٍ أصبح من الصعب التنبؤ بدورات تمويلها القصيرة بسبب التغير المستمر في أولوياتها. قالت مستشارة في الصحة النفسية حين وقع عملها ضحيةَ هذا المد والجزر في التمويل: "عندما حلّت أزمة اللاجئين السوريين، زاد عدد المنظمات غير الحكومية التي تقدم الدعم النفسي والاجتماعي لجميع اللاجئين، بمن فيهم الفلسطينيون، وإن كثيراً من المنظمات التي كانت تعمل جيداً في ذلك الوقت نفد تمويلها الآن."
ينتهي الأمر بالفلسطينيين إلى اللجوء إلى أشكالٍ وثيقةٍ من التضامن، كالاعتماد على الأسرة والأصدقاء والجيران لتلبية بعض احتياجاتهم الأساسية، إذ تسهل الكثافة الاجتماعية في المخيمات هذا الدعم الأفقي؛ وفي ذلك قال أحد سكان مخيم البداوي في ضواحي طرابلس: "إذا ما اعتلّت صحة أحدهم بشدةٍ، هبّ الناس لمساعدته، ومدّ له الجميع يد العون، فيجمعون في غضون يومٍ واحدٍ المالَ اللازمَ لذلك." بيْد أن هذ المبادرات لا تكفي لأنها طالما خُصصت لتعويض الثغرات وأوجه القصور التي يعاني منها مقدمو الخدمات الأكبر حجماً في المخيمات.
في الواقع، لم يكن لهذه المرونة أن تظهر لولا نموذج لبنان الاقتصادي الفاشل، فحتى وقتٍ قريبٍ، كانت الدولة تساعد في تقديم معظم الخدمات من خلال برنامج الدعم والحفاظ على القيمة العالية المصطنعة لليرة اللبنانية. حظي الجميع، بمن فيهم الفلسطينيون، بقوةٍ شرائيةٍ متضخمةٍ وأسعارِ أدويةٍ ووقودٍ أدنى من أسعارهما في السوق، كما أدى انخفاض أسعار الوقود بدوره إلى خفض تكاليف توزيع المياه الخاصة ومولدات الطاقة؛ وعندما لم يعد من الممكن الاستمرار في تقديم هذا الدعم، بدأتِ التكاليف الطبية وفواتير الخدمات في الارتفاع، بالتزامن مع شحّ موارد الأفراد.
لقد كان الاقتصاد المدعوم مفيداً للأونروا، وذلك أنها كانت تستطيع تحمّل تكاليف إحالة المرضى إلى المستشفيات الخاصة بدلاً من الاستثمار في تطوير عياداتها الخاصة بها. أما الآن فليس باستطاعة الأونروا تقديم نفس الدعم، في حين أن الفلسطينيين أنفسهم عاجزون أكثر فأكثر عن تغطية حصتهم من فواتير المستشفيات التي تكبر يوماً بعد يوم. تنطبق ديناميةٌ مماثلةٌ على بنية الأونروا التحتية، ففي آب / أغسطس من سنة 2021، راحت الوكالة ترشّد ضخ المياه في مخيمي برج البراجنة وشاتيلا بسبب نقص الديزل، مما ترك السكانَ يبحثون عن بدائلَ مكلفةٍ وخطيرةٍ.
وبنفس القدر يتأثر عمل المنظمات غير الحكومية بالسياق الحالي، فمن ناحيةٍ، تدفع الزيادةُ الحادة في الاحتياجات بين غير الفلسطينيين المنظماتِ إلى أن تكون أكثر انتقائيةً لمن يُدعمون ونوع الدعم الذي تقدمه لهم. وأما من الناحية الأخرى، فقد خضعت هذه المبادرات لتقليصٍ قسريٍّ في حجمها على جبهاتٍ مختلفةٍ، إذ لا يستطيع المتطوعون تحمل تكاليف التنقل، ولا يمكنهم تكريس الكثير من وقتهم؛ كما أن رواتب الموظفين المتفرغين الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية قد انخفضت بشدة بسبب انخفاض قيمة العملة؛ وقد تضطر الإدارة إلى خفض التكاليف عن طريق تقليل نفقاتها العامة أو خفض حجم قوّتها العاملة.
في نهاية هذه السلسلة، كثيرٌ من الفلسطينيين الذين كان بإمكانهم فيما سبق المساهمةُ في شبكات التضامن المحلية بفضل الرواتب التي كانوا يحصلون عليها في الاقتصاد اللبناني، قد باتوا يلاقون المصاعب لمجرد تدبر مصاريفهم. في عام 2017، كان ثلث اللاجئين الفلسطينيين البالغين فحسب يعملون، وأكثر من 90 بالمئة من هؤلاء كانوا يعملون بشكلٍ غير رسميٍّ (وفقاً لإحصاء السكان والمساكن الذي أجرته لجنة الحوار اللبناني-الفلسطيني)؛ كما غدتِ القلة من المعيلين الموجودين في المجتمع عرضةً للفصل من العمل والاستغلال.
تمثل مخيماتُ اللاجئين المكتظةُ بيئةً غير صحيةٍ في أفضل أحوالها، وتوفر ظروفاً معيشيةً تتدهور على نحوٍ أسرع منها في أي مكانٍ آخر. وحتى عندما كانت لديهم الوسائلُ لإصلاح الحال، كابد السكان قلةَ الإضاءة، وسوء التهوية، وتسرب مياه الصرف الصحي، وارتفاع معدلات الرطوبة؛ وهي عواملُ تفضي مجتمعةً إلى مخاطر صحيةٍ. كما تستنزف الأمراضُ المزمنة أموالَ الأُسر التي يتعين عليها معالجة هذه الأمراض، مما يترك موارد أقل للتعليم على سبيل المثال؛ فترى الطلاب في المخيمات قد تأثروا أكثر من غيرهم إبان جائحة كوفيد بسبب ضيق مساحة السكن، ورداءة الكهرباء والإنترنت، ونقص الموارد الأساسية مثل الكتب المدرسية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة كذلك.
تؤدي أزمة اليوم إلى تعميق الجانب العام من المأزق الفلسطيني، بينما تولد مشاكل أخرى على طول الخط، فالطلاب الذين يفوّتون تعليمهم، على سبيل المثال، يمثلون جزءاً من تآكلٍ مديدٍ كان واضحاً للغاية حتى في بداية الانهيار الاقتصادي: في عام 2019، اجتاز 43 بالمئة فحسب من طلاب الأونروا امتحان البروفيه في البلاد، مقارنةً بـمتوسطٍ بلغ 74 بالمئة في عموم البلاد، ما يزيد من مخاطر تسرب أولئك الطلاب، ويزيد من تقييد الفلسطينيين في وظائف منخفضة الأجر أو غير مستقرةٍ؛ فيغدون نتيجةً لذلك أقل قدرةً على إعالةِ أنفسهم أو المساهمةِ في مجتمعهم.
وفي الوقت الذي يطالب لبنان بالمساعدة، ستعمل الأزمة حتماً على تعميق محنة الفلسطينيين وتشتيت الانتباه عنها. للأسف، حتى لو تلقت هياكل الدعم المخصصة، مثل الأونروا، المستوياتِ نفسَها من التمويل كما كانت عليه الحال من قبل، فإن ما ستحققه سيكون أقل قدراً لأن تكلفة كل شيءٍ تقريباً في لبنان قد ارتفعت كثيراً بسبب توقف الدعم والتلاعب بالأسعار. علاوةً على ذلك، فإن خصوصية المأزق الفلسطيني أصبحت الآن في مواجهة منافسةٍ شديدةٍ من جميع أركان المجتمع الذي يحتاج أفراده الآخرون إلى المساعدة العاجلة أيضاً.
ولذا ترى اللبنانيين إما يتجاهلون معاناة اللاجئين كلياً، أو يلقون باللائمة على وجود هؤلاء اللاجئين في وسطهم بأنهم سبب معاناتهم؛ ومن هنا حرص السياسيون على استغلال تلك الغرائز، فتوعدوا بترحيل اللاجئين وتحسين حياة البقية بطريقةٍ ما؛ لكن اللاجئين الفلسطينيين لا يواجهون في الواقع سوى نسخةٍ أكثر تطرفاً من نفس المشكلة التي يواجهها اللبنانيون أيضاً، ألا وهي توفير الخدمات الأساسية بطريقةٍ مجزأةٍ للغاية وغير فعالةٍ ومكلفةٍ للجميع.
قد يتنافس السكان المستضعفون الآن على الموارد الآخذة بالتضاؤل، أو قد يُجمعون على تشخيصٍ مشتركٍ يتمثل في أن استخدام النظامِ الأجانبَ كبشَ فداءٍ هو أحد أخبث ما يتبعه ذاك النظام من طرقٍ لتبرير تقصيره أمام اللاجئين واللبنانيين على حدٍ سواء.
30 أيار/ مايو 2022
لين أبو خضرا: باحثة في سينابس
لقد تم استخدام العمل الفني بكل امتنان بموجب ترخيص من الفنان:
يزن أبو سلامة