في لبنان، سارع عامة المواطنون للمطالبة بإجراءات عزل صارمة للسيطرة على تفشي فايروس كورونا، ولديهم كامل المعرفة أن ازدياد عدد الحالات المصابة سيكون عبء هائل على قطاعهم الصحي الذي يعاني أساسا. حتى أن اللبنانيين القادرين على تحمل نفقات أشهر مشافي البلد وعياداته الخاصة عبروا عن إحساس حاد بالضعف. هم يعرفون جيدا أن القطاع الصحي في لبنان قد ازدهر على حساب المؤسسات العامة، مما يثير الشكوك حول قدرة الدولة على الاستجابة بفاعلية. إن تشخيص نقاط ضعف القطاع الصحي اللبناني هو أمر ضروري لتطوير أدائه، وذلك من أجل الحالة الطارئة الحالية وأيضا من أجل مستقبل بلد خسر صحته أمام حلول قصيرة الأمد.
الخطة الفاعلة في إدارة فيروس كورونا تعتمد على خط دفاع أول قوي. عمليا، هذا يعني العمل على جعل المعلومات والعمليات اللوجستية مركزية، هذا الأمر الذي من الممكن أن يكون أشد نقاط ضعف النظام اللبناني حاليا. لم يعد لدى لبنان مختبر وطني- وهو الضروري جدا لتنسيق التحاليل المخبرية، تنظيم برتوكولات الحصول على المعلومات ومشاركتها، جمع البيانات الموثوقة، الاستفادة من التجارب السابقة، وتشكيل أسلوب استجابة صائب. بدلا من ذلك، تقوم كل من مستشفى الجامعة الامريكية في بيروت، مستشفى رفيق الحريري الجامعي، ومستشفيات أخرى بجمع وتطوير بياناتهم بشكل منفصل. لا يوجد أيضا أي إجراء لتنظيم عملية التحويل، مما يعني ان إيصال المعلومات الدقيقة غالبا تتطلب من المرضى حمل تقاريرهم الطبية معهم. بينما تبذل وزارة الصحة قصارى جهدها من أجل الحصول على البيانات وتجميعها، يقوم العديد ممن نصبوا أنفسهم كخبراء بمشاركة آراء مؤثرة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي دون أي علامات مرجعية واضحة.
إن الاستجابة اللوجستية هي أيضا على نفس القدر من الاضطراب بسبب النقص الحاد في مقدمي الرعاية الصحية العامة المناسبين. يتحمل مستشفى رفيق الحريري الذي يعاني في الأصل نقص في الامدادات عبء الحالات المصابة بفايروس كورونا، لأن بقية المستشفيات العامة الأخرى تعاني من نقص أكبر في التجهيزات. والمستشفيات الخاصة، والتي تشكل عادة غالبية قدرة القطاع الصحي، ساهمت حتى الآن فقط بصورة هامشية وذلك بسبب نقص التجهيزات اللازمة، وحدات العزل، والإجراءات. في الحقيقة، هناك حتى الآن أربع مستشفيات ومختبرات خاصة فقط معتمدة للمشاركة في هذا الجهد الجماعي
إن سبب هذه الحالة يعود الى عدم رغبة او عدم قدرة وزارة الصحة تاريخيا لتنظيم هذا القطاع عبر فرض معايير وسياسات على المستوى الوطني. وعلى نحو مميز، تسمى هذا الوزارة رسميا "وزارة الصحة العامة" وكأن المستشفيات الخاصة لا تقع ضمن اختصاصها على الاطلاق. في الأزمة الحالية، يتمثل دورها بشكل أساسي من خلال نشر التعاميم حول التوصيات العامة المتعلقة بإجراء الفحوصات والعلاج بينما "تتبع أثر الإحتكاك" لم يتم تطبيقه بشكل كافي. إن تتبع أثر الاحتكاك ـ الأمر الذي من شأنه أن يوسع دائرة الاجراءات الاحترازية الى كل السلسة البشرية التي تفاعل معها الشخص المثبت اصابته بالفايروس - غالبا ما يقوم بإجرائه في لبنان طلاب طب أكثر مما يقوم به اختصاصيون.
كما أن الضعف في القدرة على الاستجابة دفع السلطات لتوزيع المسؤوليات بدل من إدارتها بشكل مركزي. مستشفى رفيق الحريري على سبيل المثال يعتمد بالغالب على دعم مباشر من منظمة الصحة العالمية لتزويده بمعدات التحاليل الطبية الخاصة بفايروس كورونا [testing kits]. بالإضافة إلى أن احتواء انتشار الفايروس في المدن البعيدة ومخيمات اللاجئين وقع على عاتق المنظمات الغير حكومية الدولية، الصليب الأحمر اللبناني، ومجموعات المجتمع المدني المحلية، الذين غالبا ما تركوا لتدبر أمرهم بأنفسهم في التعرف على الحالات الجديدة ونقلها.
هذا وبالإضافة إلى أن اللجوء المبكر إلى الحد من التجول من أجل احتواء الوباء حتى قبل أن يتزايد، أدى حتما إلى مجموعة ردود فعل اعتباطية من المجتمعات والأفراد. كما في كل مكان، استنفذ بعض المواطنون المصطلحات المنذرة بالطوارئ عند أول إشارة لوجود المرض. كما قام آخرون بمعالجة نفسهم ذاتيا من العوارض المرتبطة بالإنفلونزا وذلك لأنهم يتوقعوا أن الخدمات مكلفة بشكل لا يطاق في القطاع الخاص وغير كفوءة في القطاع العام. كما أن الحكام الذين نصبوا أنفسهم مدافعين عن السلامة العامة يردوا بطريقة عدوانية على أي عارض للمرض، كالرشح والسعال، مما يدفع الفئات الأكثر ضعفا كاللاجئين للتخفي عندما يمرضوا.
كما أن هذه الاستجابة السائبة أدت الى ولادة مبادرات متناقضة. قام الأهل بإرسال أطفالهم للالتجاء الى الأجداد الذين يعيشون في الأرياف، مما يزيد من احتمال نشر الفايروس في تلك المناطق وبين أولئك الناس الغير قادرين على المقاومة في حال طالتهم العدوى. بينما قام آخرون بتنظيم نشاطات جماعية لإبقاء أولادهم مشغولون ريثما يقوموا هم بواجباتهم الوظيفية. والحدائق، حيث ممكن أن يجد الناس بعض التنفس الجسدي والنفسي، أغلقت أبوابها مما أعاق حتى التجمعات الصغيرة والتي غالبا ما تحصل بغض النظر عن هذا الاجراء، ولكن في أماكن مغلقة. وقد استثمر الناس أكثر في معتقداتهم الشخصية، كالطقوس الدينية، أساليب العلاج الباطنية، ومشاركة ما يسمى "أفضل الممارسات" من مصادر غامضة. كل هذه الفوضى تؤدي الى تعقيد المحاولات الرامية إلى ترسيخ استجابة منسجمة مع العلم ومتماسكة اجتماعيا.
والأكثر أهمية هو أن التعامل مع علم الوباء كهواة له تأثير جانبي غامض حيث أنه يؤثر على طريقة تعامل الحكومة نفسها. إن العديد من القرارات الهامة تم اتخاذها كردة فعل على الضغط الاجتماعي الذي دفع السلطات للتحرك. لكن هذا يشكل أيضا خطر أن تأخذ المطالب الشعبية مكان التوصيات الطبية السليمة مما قد يؤدي إلى ازدياد انتشار الفايروس والايذاء الذاتي. من أجل استرجاع الثقة، على الحكومة الاستماع عند الحاجة والثبات في الحالات الأخرى.
لقد كان إصلاح القطاع الصحي أحد آمال المتظاهرين اللبنانيين حتى قبل انتشار فايروس كورونا. والتهديد الحالي يزيد من التأكيد على أن درجة الخصخصة واللامركزية في القطاع الصحي اللبناني قوضت قدرة الحكومة على تنفيذ سياسات صحة عامة والدفاع عن المصلحة العامة. ان هذا الوباء يوجه الأضواء الى أسئلة أوسع موجودة في عمق انتفاضة البلد: ماذا يتوقع اللبنانيون من دولتهم، وماذا تحتاج هذه الدولة، على نحو الدقة، لإنجاز مسؤولياتها؟
في الحالة الحالية، إعادة تأسيس مختبر وطني وتوسيع صلاحيات وزارة الصحة لضمان تجميع البيانات والمعلومات الموثوقة على المستوى الوطني سيكون خطوة على الطريق الصحيح. مثل هذه التدابير ستشكل حتما إشارة فريدة إلى إعادة تدخل الدولة. إذا دفعت التحديات التي سببها فايروس كورونا المواطنين اللبنانيين للمطالبة بظروف صحة عامة أفضل في بلدهم، من الممكن أن نرى جانب مضيء لهذا المرض المميت.
فهد الصديد، طبيب متمرس عمل سابقا في منظمة أطباء بلا حدود وهو حاليا زميل في سينابس
تم استخدام الصور بموجب رخصة المشاع الابداعي من:
adapted from Oppenheimer Fire Escape Patent