التخريب الذاتي

تفكّك التعليم في إدلب

تواجه إدلب التي تتعرض للقصف من النظام السوري والقوات الروسية هجوماً موازياً من الداخل، سيقوّض مستقبلها بعد أن ينجلي عنها غبار المعارك: اعتداء شامل على قطاع التعليم. ستثبت تداعيات هذا الاعتداء أنها من بين أصعب ما يمكن مواجهته، تاركة وراءها جيل محروم إلى حد كبير من التعليم. لقد ساعدت مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة في تأجيج هذه العملية، رغم أن السوريون العاديون يواجهون بشجاعة الاحتمالات التي تهدد حياتهم ويسعون للحصول على مستقبل أفضل.

منذ بداية الصراع، قامت معارضة إدلب المجزّأة بتسييس التعليم بأشكال مختلفة. حيث تعامل بعض الفاعلين المتشدّدين في بداية الاحتجاجات مع قطاع التعليم  كرمز لنفوذ النظام؛ لقد ضغطوا من أجل مقاطعة المدارس، وطردوا المعلمين المشتبه في ولائهم للنظام، وألغوا أجزاء من المناهج الدراسية المتعلقة بالأسرة الحاكمة، وأيضًا أجزاء كاملة تتناول التاريخ السوري والدراسات الدينية. يقول معلم في مدرسة ابتدائية في جنوب إدلب: "كنت في طريقي أحد الأيام إلى المدرسة في ريف إدلب الجنوبي عندما شاهدت أحد المسلحين وهو يمنع طلاب المدرسة من الدخول إليها" وكان يشير إلى جدار كُتب عليه: "لا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس".

في بعض الحالات، ذهبت الجماعات المسلحة في ادلب إلى أبعد من ذلك، حيث اعتبرت البنية التحتية التعليمية جزء من ممتلكات النظام التي يجب تدميرها أو نهبها أو احتلالها. أضاف المعلم نفسه: "بعد بضعة أيام عدت إلى المدرسة وبكيت كطفل. لقد تحطمت الأبواب والنوافذ وسُرق كل شيء: أجهزة الكمبيوتر ومعدات المختبرات والمقاعد الدراسية وكل شيء ".

مع تطور حكم المعارضة ونموه، لاحظ السكان أشكالًا جديدة من التسييس، لا سيما من خلال طريقتين متنافستين من الأسلمة. فمن جهة، عملت جماعة الإخوان المسلمين على ممارسة نفوذها عبر تكتل المعارضة في تركيا، ومن ناحية أخرى، تدخلت مجموعات أكثر تطرفًا بشكل مباشر على المستوى الشعبي في مواءمة موضوعات مثل اللغة العربية والتاريخ والدين لتعكس الإيديولوجية المناهضة للنظام والتفسيرات السلفية للقرآن. قال مسؤول سابق في مدرسة في إدلب: "لقد تعرض أطفالنا للغزو الفكري من قبل أيديولوجيتين متطرفتين مختلفتين لا يجب أن يتعرضوا لأي منهما."

مثل هذا التدخل - إلى جانب حقيقة أن الشهادات المكتسبة في مدارس المعارضة لا يتم الاعتراف بها في مناطق النظام ولا في دول الخارج - دفع الطلاب إلى البحث عن بدائل. يقوم البعض بعبور خطوط القتال من إدلب إلى مناطق النظام من أجل التقدم للامتحانات اللازمة للحصول على الشهادة الرسمية، معرّضاً نفسه للخطر من قبل قوات المعارضة والنظام على حد سواء. يقول والد أحد التلاميذ في بلدة سلقين، شمال إدلب: "تمكّن ابني من عبور إدلب من أجل التقدم للامتحانات، حيث أخبر الثوار أنه كان يزور عمته. النظام أيضاً استجوبه بقسوة حتى ظننت أنني لن أراه بعد ذلك. في النهاية يحتاج أطفالنا إلى التعليم، فشهادات المعارضة غير معترف بها في أي مكان".

إن تسريع وإطالة هذه الدوامة  قد ساعد على تفاقم الفساد داخل تلك المؤسسات التعليمية التي لا تزال تعمل في إدلب. فكما هو الحال مع الوثائق الأخرى - وكما هو الحال في جميع أنحاء سوريا - أصبحت صناعة الشهادات المزورة أشبه بصناعة منزلية. في الواقع، أصبح هذا النوع من الأعمال أمراً شائعاً بحيث أدى إلى خفض أسعار هذه الشهادات المزورة، بينما تضاعف عدد المتاجر التي تقدم هذه الخدمة. كتب أحد الناشطين المعروفين على فيسبوك في عام 2019: "" هل تبحث عن عمل؟ هل تبحث عن طريقة لكسب المال وبسرعة في ادلب؟ كل ما تحتاجه هو لابتوب وبرنامج فوتوشوب وعدد قليل من الإعلانات على وسائل التواصل الاجتماعي لتثبت أن لديك القدرة على تزوير المستندات."

في الواقع، إن الشهادات المزورة ليست سوى عنصر واحد في نظام تزوير شبه فوضوي. حيث يقوم المعلمون أنفسهم بتزوير أوراق شهاداتهم، مما يسهّل طريقهم للحصول على الوظائف. العديد منهم أيضاً معروفين بأنهم يبيعون نتائج الامتحانات للطلاب. في مثال غريب وخاص، أسس رجل أعمال ثري جامعة خاصة تسمى أكسفورد، مدعياً أنها تنتمي إلى جامعة أكسفورد البريطانية الشهيرة.

وقد أدى هذا الفساد إلى تآكل المصداقية المتبقية للبنية التحتية التعليمية في المنطقة. فقد سجل عدد كبير من الطلاب من مدينة أريحا في آب 2019، درجات عالية بشكل غير معتاد في قسم العلوم في امتحانات التأهيل الجامعي، حيث حصل العشرات منهم على العلامات الكاملة - وهي نتيجة مستحيلة، نظراً لأن عدد قليل من الطلاب عادة ما يحققون مثل هذه العلامات في أي محافظة في سوريا. انتقدت وسائل إعلام محلية هذا الحدث بشدة، مما دفع بخروج بعض المظاهرات للاحتجاج على الإدارة المسؤولة عن هذه الامتحانات الفاسدة. في النهاية، ألغى الإداريون نتائج امتحانات الطلاب بأكملها، وألقوا باللوم على موظف قام بتسهيل عملية الغش

كل العوامل المذكورة أعلاه وجّهت ضربة أخرى لبنية إدلب التعليمية: هروب الموظفين المؤهلين. فكما هو الحال في كل شيء في الحياة، فإن هؤلاء المعلمين والإداريين الذين كانوا يستطيعون الهروب فعلوا ذلك إلى حد كبير. توفر المصاعب الاقتصادية حافزاً آخر للفرار: ففي حين أن المرتبات الشهرية للمعلمين في إدلب تتراوح عادة بين 25000 إلى 30000 ليرة سورية (ما بين 50 إلى 70 دولارًا تقريبًا) ، يحصل المعلمون السوريون في تركيا على عشرة أضعاف ذلك.

ومن المفارقات أن قطاع التنمية الممول من الغرب ظل شريانًا حيويًا لقطاع التعليم في إدلب ومسرّعاً قوياً لهجرة الأدمغة. قال معلم في شمال إدلب: "ترك العديد من الموظفين المؤهلين المدارس العامة للعمل لدى المنظمات غير الحكومية، حيث يكسبون ضعف راتبهم. المعلمون الوحيدون الباقون في المدارس هم أولئك الذين ليس لديهم مؤهلات. معظم معلمي المدارس الثانوية في هذه الأيام لم ينهوا أنفسهم مرحلة التعليم الثانوي."

على الرغم من كل هذا التدهور والانخفاض في قيمة العملة، فإن العائلات في إدلب - كما هو الحال في أي مكان آخر في سوريا - تواصل محاولاتها للحصول على أكبر فرصة تعليم لأبنائها. تذهب العائلات إلى أقصى الحدود لضمان وجود أساس تعليمي للجيل الجديد: يعود الأطفال في بعض الأحيان إلى المدارس بعد يوم واحد فقط من غارة جوية قتلت زملائهم في الفصل. تدفع العائلات مبالغ مخيفة على نحو متزايد للمعلمين الذين يقدمون الدروس الخصوصية. طالب في المدرسة الثانوية يبلغ من العمر 18 عامًا يقول: "لقد أعطاني والدي أمس أموالاً للدروس الخصوصية، على الرغم من أنه يكافح لشراء الطعام لعائلتنا، إنه يحلم أن أصبح طبيباً."

لم تنته المشكلة بعد، ففي عام 2019 شنَّ النظام هجوماً عسكرياً على إدلب و دمّر ما تم بناؤه حديثاً. كما أن الآثار الناتجة عن الانكماش الاقتصادي زادت من حدة اليأس العام في إدلب. كما فاقم الأمر أكثر، قيام المانحون الغربيون بخفض المساعدات لتجنب الدعم غير المقصود لفصيل هيئة تحرير الشام المتطرف في إدلب، بما في ذلك، في الآونة الأخيرة، تخفيض التمويل الأوروبي لمديرية التعليم في إدلب. مع ذلك، فإن تراجع دعم المنظمات الدولية بحجة تواجد هيئة تحرير الشام في المنطقة، سيزيد الأمور سوءاً وسوف يغذي الأمية وغيرها من الأمراض الاجتماعية التي ستساعد هذه المليشيات على الصمود والبقاء. بدلاً من ذلك، يجب أن يكون المجتمع الدولي مبدعًا ومصمماً كمجتمع إدلب نفسه للاستثمار في قدرة الجيل الجديد وحثه على التعافي والمضي قدماً.

4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 

باحث ميداني مع سينابس في إدلب



الصورة من سينابس لكتاب مدرسي سوري في دمشق تشرين الأول/ أكتوبر 2019 ومتاحة بموجب رخصة المشاع الابداعي