تهديد التوسع العمراني للغذاء في العراق
لآلاف السنين كان نهرا العراق العظيمان يفيضان فيغمران ضفافهما بالطمي الغني بالمغذيات، أما اليوم فراح طوفانٌ من الخرسانة ينبثق من المدن القابعة على جانبي هذين النهرين: موجةٌ تلو أخرى من الزحف العمراني تمتد حول بغداد والبصرة والموصل وكربلاء والفلوجة وغيرها، موجةٌ تُسمم المياه، وتلتهم الأراضي الخصبة التي تحتاجها البلاد أشد الحاجة. ونادراً ما تُذكر تلك الطفرة العمرانية في المناقشات المتعلقة بأزمة المناخ في العراق، رغم كونها من بين أكبر التحديات البيئية في البلاد.
التوسع العمراني النهم
تشهد العاصمة العراقية طفرة بناءٍ محمومةً تتمثل في إعادة رصف الطرق أو توسيعها، وبناء الجسور، وحفر الأنفاق، بالإضافة إلى المباني الجديدة التي تُشيد على ضفتي النهرين، كالمنازل المتواضعة ومراكز التسوق والمجمعات السكنية الفاخرة. وأما جوانب الطرق فتغص بالحفارات والرافعات والحطام. وعند نقاط التفتيش التي تحيط بالمدينة، كثيراً ما ترى شاحناتٍ ضخمةً محملةً بأطنانٍ من حديد التسليح وطوب البناء، وفي ذلك قال طبيبٌ حوّل حديقته إلى ملاذٍ أخضرَ في واحدٍ من أحياء بغداد الشمالية: "يمكنك شمّ رائحة الإسمنت في كل مكانٍ. إنها عالقةٌ في الهواء."
إلى حدٍّ ما، يمكن إرجاع هذه الطفرة في البناء إلى الاقتصاد، فقد غدا العراق متخماً بالأموال بفضل ارتفاع أسعار النفط، وغسيل الأموال، كما يزعم كثيرون، والذي غذته سنواتٌ من النهب وشبكات الفساد المربحة. وعلى النقيض من ذلك، فإن ما يفتقر إليه هذا البلد هو البنية التحتية المناسبة: من الطرق والخدمات العامة إلى الإسكان بأسعارٍ معقولةٍ لسكانٍ لا يزال عددهم يتضاعف مع كل جيلٍ جديدٍ. وبغدادُ على وجه الخصوص مكتظةٌ بالسكان، وهذا يعني ارتفاع أسعار العقارات ارتفاعاً صاروخياً، فكثيرٌ من السكان المحليين يناقشون الارتفاع المذهل في تكلفة المتر المربع من الأرض في هذا الحي أو ذاك، وبالكاد يصدقون ما يرون من ارتفاع. وأينما ذهبت ترى قطع الأراضي المخصصة في الأصل لمنزلٍ واحدٍ مع حديقةٍ قد أصبحت اليوم مكتظةً بالعديد من المنازل الصغيرة المتكدسة معاً، ما يؤدي إلى طمس كل شبرٍ من التربة وحجب كل نسمة هواءٍ.
ترى الدولة العراقية في مشاريع البناء الكبيرة وسيلةً سريعةً وفعالةً لممارسة المحسوبية والتغدق بالمنافع على الشركات المقربة منها، ويُزعم أن تلك المشاريع تمكّن المسؤولين من الحصول على الرشاوى. لكن ثمة أيضاً منطقٌ سياسيٌّ في ذلك، إذ يسعى قادة العراق إلى تحسين صورتهم العامة قبل الانتخابات البرلمانية التي ستجري في عام 2025. وفي ذلك قال خبيرٌ اقتصاديٌّ سياسيٌّ عراقيٌّ في العاصمة: "لقد أدركتْ هذه الحكومة أنها بحاجةٍ إلى التركيز على الأشغال العامة لأن الناس سئموا سوء الخدمات." غير أن لهذه الحسابات الانتخابية عيوبها، ألا وهي التركيز على مكاسب قصيرة الأجل، وتفضيل المشاريع الكبيرة والملفتة للنظر في المناطق المهمة في العاصمة. أردف ذلك الخبير الاقتصادي السياسي قائلاً:
تتجنب الحكومة كل مشروعٍ يستغرق تنفيذه أكثر من شهراً. وما طبيعة المشاريع التي تظن أن السياسيين سيركزون عليها؟ سيعيدون رصف شارعٍ مليءٍ بالمرافق الصحية يسلكه 100 ألف شخصٍ كل أسبوعٍ، ويتجاهلون العدد المتضائل من المزارعين في الأماكن الأخرى التي قد تستفيد 10 عائلات فيها وحسب من تحسين الخدمات.
خنق الزراعة
هذا لا يعني أن المحافظات العراقية لم تتأثر بطفرة البناء، بل على العكس من ذلك، انطلقت تلك الطفرة من بغداد، لتأتي على ما كان ذات يومٍ أرضاً زراعيةً خصبةً. واليوم يتحدث البعض بحسرةٍ عن الأيام التي كان فيها نظام صدام حسين يفرض قيوداً صارمةً على التوسع العمراني في الأراضي الزراعية. على طول الطريق السريع الممتد شمالاً من العاصمة، التهمت مواقعُ البناء بساتينَ النخيل التي تضرر بعضها تضرراً واضحاً، واسودّت جذوعها. وأوضح الطبيب من بغداد ذلك قائلا: "يأتي الناس تحت جنح الليل، فيصبّون البنزين على أشجار النخيل ويُحرقونها بُغية إعادة تطوير الأرض وتحويلها إلى عقارات. لي صديقٌ اعتمد هذا النهج، ولديه الآن أعمال تقدر قيمتها بملايين الدولارات."
منذ عام 2002، التهمت الخرسانة المساحات الخضراء في الاطراف الشمالية لبغداد
ولا يقتصر التأثير على العاصمة وحدها، فالمراكز الحضرية الأصغر حجماً تتمدد بالمثل إلى الأراضي الزراعية، وفي كثيرٍ من الأحيان يعني ذلك الزحفَ نحو ضفاف نهري دجلة أو الفرات اللذين كانا فيما مضى يغذيان المزارع القريبة بالطمي، ويوفران مياه الري القريبة. ولما كانت ضفاف هذين النهرين توفر الخصوبة للأراضي الزراعية، فإنها تجذب أيضاً مَن يتوقون للهروب من غلاء الأسعار والاكتظاظ السكاني في المدن. أوضح مزارعٌ يعيش خارج الرمادي ذلك بقوله: "لم يعد من المجدي اقتصادياً زراعة أشجار النخيل هنا. وبدلاً من ذلك راح الناس يقطعونها لكي يبنوا مكانها منازلَ على طول نهر الفرات."
والحقيقة أن مشكلة الزحف العمراني لا تتعلق بالطلب الجامح على الإسكان وحسب، بل إنها تعكس أيضاً التدهور المستمر الذي تشهده الزراعة بوصفها قطاعاً اقتصادياً. قال أستاذ حكومي في بلدة الضلوعية الواقعة على منعطفٍ خصبٍ على نهر دجلة في محافظة صلاح الدين: "من الصعب جداً كسب العيش من الزراعة، ربما خمسة بالمائة من الناس هنا مزارعون بدوامٍ كاملٍ، ويفضل معظمهم وظائف الدولة." وهذا الرجل نفسه هو موظفٌ حكوميٌّ، وكذلك اثنان من أقاربه ممن انضموا إلينا لتناول الإفطار. كرّر محامٍ تمتلك عائلته أراضيَ زراعيةً في أماكن أخرى من صلاح الدين هذه النقطة بقوله: "لقد تخلى الناس عن الزراعة منذ سنوات لأنها ليست مجديةً اقتصادياً. من الصعب على مُلاك الأراضي العثور على عمالٍ أكفاء، وذلك أنْ ليس هنالك من يرغب في القيام بأعمالٍ شاقةٍ في مزرعةٍ بينما يمكنه جني ثلاثة أضعاف الأجر من وظائف الدولة."
من السهل على المرء أن يعزوَ مشاكل الزراعة إلى تغير المناخ، أو نقص المياه، أو الصراعات الكثيرة التي عصفت بالبلاد، بما في ذلك ما جرى في الآونة الأخيرة من حملةٍ دمويةٍ لاجتثاث تنظيم داعش، حين راحت الميليشيات تحرق المزارع وتنهب الماشية بدافع الانتقام، غير أن كثيراً من العراقيين يسارعون إلى التأكيد على مشكلةٍ أخرى: وهي انهيار التخطيط الزراعي المركزي بعد عام 2003. أما المزارعون الذين كانوا يحظون في السابق بدعمٍ حكوميٍّ واسع النطاق فقد أُجبروا اليوم على تدبر أمرهم بأنفسهم، إذ أدت الخصخصة الفوضوية إلى عواقبَ يمكن التنبؤ بها ورؤيتها في أماكن أخرى من المنطقة وخارجها: وهي تدهور البنية التحتية للمياه والكهرباء، وصعوبة الحصول على القروض، وارتفاع أسعار اللوازم الزراعية، وفيضٌ من الواردات الرخيصة من البلدان المجاورة، وسوقٌ يهيمن عليها وسطاء يتلاعبون بالأسعار، وفي ذلك قال باحثٌ بتذمرٍ: "يقال أن تغير المناخ قد قضى على الزراعة في البصرة، لكن البصرة لم تشهد أية زراعةٍ منذ عام 2003."
كما خسرت البصرة مساحتها الخضراء مقابل الخرسانة
تعزيز الندرة
إن الآثار المادية لتدهور الزراعة تطغى على المشهد العراقي، ففي جنوب شرق الفلوجة، أصبحت قطع الأراضي التي كانت ذات يومٍ تنتج الغذاء بوراً يكسوها الملح. وأينما ذهبت في أنحاء البلاد ترى الآلاتِ الزراعيةَ جاثمةً في الأرياف ويأكلها الصدأ بسبب عدم الاستخدام. في قريةٍ زراعيةٍ شمال الرمادي، تتخلل الحقول الخضراء منازل بنيت حديثاً وقنوات ريٍّ يسدها القصب والقمامة والفضلات. وبينما لا تزال المئات من أشجار النخيل منتصبةً، ترقد كثيرٌ من الأشجار الأخرى في أكوامٍ من الجذوع المتفحمة على جانب الطريق، وفي ذلك قال مزارعٌ آخرُ متأسفاً، وهو أيضاً موظفٌ في هيئةٍ زراعيةٍ حكوميةٍ، إن "العراق كان أحد كبار مصدري التمور في العالم."
ومما يزيد من خطورة هذا التدهور أنه يديم نفسه بنفسه، فإنشاء البنية الأساسية يعزز الزحف العمراني وبالتالي يوفر الحوافز المالية التي تفاقم ذلك الزحف. قال مقاولٌ من بلدةٍ تقع خارج الفلوجة موضحاً منطقه الاستثماري: "اشتريت قطعة أرضٍ زراعيةٍ جميلةٍ على طول نهر الفرات، ورحتُ أقسمها إلى قطعٍ أصغرَ لبناء المنازل عليها، ومن ثم سأشق فيها طريقاً لزيادة قيمة العقار." أشار الموظف الحكومي في الرمادي إلى أن المرافق، مثل الطرق المعبدة والكهرباء والمحلات التجارية، هي جزءٌ مما يدفع سكان المدينة إلى الاستقرار في الريف، فيؤدي ذلك إلى الإمعان في التوغل العمراني في الأراضي الزراعية الآخذة في التضاؤل.
كما يحذر البعض من تحولٍ أقل وضوحاً، ولعله أكثر أهميةً، إذ قال صحفيٌّ في البصرة: "لا يريد الشباب هنا دراسة الزراعة لعدم وجود الوظائف المتعلقة بها، فيفضلون دراسة الطب أو فروع الهندسة التي تساعدهم في الحصول على وظائف في شركات النفط." وفي غياب تخطيط الدولة للاستثمار في التربية الزراعية، ينذر هذا التحول الجيلي بسلسلة نتائجَ سلبيةٍ أخرى: إذا لم يدرس الشباب الزراعة، فقد تضطر المعاهد التعليمية إلى تقليص برامجها. وأردف الصحفي: "عندما تخرجتُ من جامعة البصرة، كانت كلية الزراعة من أكبر الكليات، لكن قلةً من الطلاب ينتسبون لها اليوم، ما قد يضطرها إلى إغلاق أبوابها."
* * *
ولا يقتصر طوفان الإسمنت على العراق وحده، بل يجتاح عمومَ منطقة الشرق الأوسط، وذلك على حساب موارد المياه الثمينة وبعض أخصب الأراضي الزراعية في المنطقة؛ ففي الأردن يستنزف الزحفُ العمراني الأفقي التربةَ الخصبة في الهضاب الصالحة للزراعة البعلية، ولا سيما في محيط عمان وإربد في الشمال. كما ابتلعت دمشق، المدينة التي كانت فيما مضى واحةً تحفها البساتين من كل جانبٍ، مساحاتِها الخضراءَ ومواردَ مياهها. وأما في مصر فقد أهمل النظام المصري دلتا النيل، السلة الغذائية التاريخية للبلاد؛ وبدلاً من ذلك، تراه يوجه الأموال والمياه الشحيحة نحو تنفيذ مشاريع بناءٍ عبثيةٍ جلّ هدفها الاستعراض والزهو، ولا سيما العاصمة الإدارية الجديدة، ونهرٍ اصطناعيٍّ من شأنه تحويلُ تدفق نهر النيل إلى مزارعَ صحراويةٍ تملكها الشركات. والحال ذاته تراه في الكورة بلبنان، إذ تحولت سفوح التلال التي كانت ذات يومٍ مكتظةً ببساتين الزيتون إلى مقالعَ مليئةٍ بالركام من أجل إمداد مصانع الأسمنت القريبة، والتي بدورها أدت إلى سرطانٍ عمرانيٍّ يستشري في مساحات البلاد الخضراء.
ولا ريب أن الزحف العمراني وتراجع الاستثمار في الريف ليسا حكراً على المنطقة، فهما - من نواحٍ عديدةٍ – يجسدان ملامحَ عصرنا هذا، ويؤثران في البلدان الغنية والفقيرة على حدٍّ سواء. إن ما يميز العراق خاصةً، والشرق الأوسط عموماً، هي أشياءٌ ثلاثةٌ: السرعة التي يحدث بها هذا التحول، وهشاشة النظم البيئية التي يجتاحها، وحجم العواقب المترتبة على استمرار هذا التحول دون هوادةٍ. في غضون بضعة عقودٍ سيفقد مزارعو أعظمِ المجتمعات الزراعية خبرةً عبر التاريخ القدرةَ على إطعام أنفسهم كلياً، وكذا مواطنوهم الذين يزدادون عدداً. ولا ريب أن تغير المناخ سيؤدي إلى تسريع هذا التحول، وسيصرف الانتباه عن الدور الذي تؤديه الأنظمة الجشعة، والمستثمرون الأثرياء، والمانحون الدوليون الذين ما فتئوا يشجعون على الخصخصة التي تتسم بالفوضوية، فمتى عسانا إدراك أن الخرسانة تقتل الأرض التي تطعمنا؟
22 تموز / يوليو 2024
أليكس سيمون هو المؤسس المشارك لسينابس ومدير برنامج البيئة. أُنجز العمل الميداني الخاص بهذا المقال بالشراكة مع المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في بيروت بمساعدة من فهد الصديد و "ت.م".
شكر وتقدير للصورة المستخدمة: كميل أمون، "الحواجز الاسمنتية في الدالية". صور الاقمار الصناعية بواسطة غوغل إيرث.